جولة على الكورونا في المنطقة: السعودية

يا للتشنجات المذهبية الحمقاء، حتى حين يكون الوباء قاتلاً لكل الناس، بغض النظر عن لونهم ودينهم. ويكون انتقاله لا يتطلب حيازة هوية ولا يعترف بحدود! ويا لبشاعة السلطات التي ما زالت تمعن في خياراتها الخاطئة.
2020-03-24

موسى السادة

باحث من السعودية


شارك
ليلى كبة - العراق

أعلنت وزارة الصحة السعودية بتاريخ 2 آذار /مارس عن أول الحالات لمصاب قادم من إيران، ما تسبب بتداعيات داخل المملكة. فمن الناحية القانونية، تحظّر وزارة الداخلية السعودية سفر المواطنين إلى إيران منذ أكثر من أربع سنوات، وتحديداً بعد إعدام رجل الدين نمر باقر النمر. إلا أن الكثير من السعوديين استمروا في السفر خلسة لأغراض الزيارة الدينية. ومع تفشي الوباء في إيران، وخوفاً من العقوبة - مصادرة جواز السفر لقرابة خمس سنوات - رجع العديد من المسافرين عبر مطارات دول الخليج، ثم قاموا بالدخول براً إلى البلاد دون الإفصاح عن محطة سفرهم الأولى، خصوصاً وأن المراكز الحدودية الإيرانية لا تقوم بختم جوازات المسافرين السعوديين، وهو ما استنكرته وزارة الخارجية السعودية في بيان لها، محملة إيران مسؤولية انتشار الفيروس.

التشنج الذي سببه الإعلان يعود إلى الصفة المذهبية والمناطقية لأولى الحالات المعلنة. انطلقت التهم الطائفية على وسائل التواصل، خصوصاً بعد تشبيه أحد ضيوف قناة من القنوات التلفزية المقربة من رئاسة أمن الدولة المسافرين "الشيعة" بالدواعش، وتعمدهم نقل الفيروس إلى الداخل السعودي. كما استغلت المنصات الإعلامية المرتبطة بشكل مباشر بالديوان الملكي الأمر في سياق الصراع مع إيران، واصفين الفيروس ب"الإيراني" (وصفه ترامب ب"الصيني"، ومن غير المعلوم من نقل عن الآخر من الطرفين، ولعله مجرد توارد خواطر!).

وعلى إثر الإعلان عن الحالات القادمة من إيران، ومخالطة المسافرين لباقي المواطنين في محافظة القطيف، قامت السلطات بوضع المحافظة تحت الحجر الصحي ومناشدة جميع المواطنين القادمين من إيران الإفصاح عن أنفسهم، معلِّقة عقوبة مخالفة الحظر المفروض. واجه حجر المحافظة بعض الاتهامات للسلطات بالاستهداف الطائفي، والتغطية على إصابات في المناطق الأخرى، خصوصاً مع انتشار صور نقاط التفتيش على مداخل المحافظة ووجود آليات الأمن المدرعة. إلا أن هذا الوجود للقوات الخاصة وقوات الطوارئ المدججة بالسلاح والآليات، هو انعكاس لحالة التوتر السياسي المتمثل بالاحتجاجات، والأمني المتمثل بحراك مسلح في المحافظة منذ سنين، والذي ردت عليه أجهزة الدولة، وما زالت ترد، بالإفراط بالعنف وبمظاهر القوة، حيث حوّلت أهم المدن الرياضية في المحافظة إلى ثكنة عسكرية. وليس لذلك علاقة مباشرة بالحجر المفروض على المحافظة.

تعامل الدولة مع الجائحة

برزت الرغبة في التعامل مع الجائحة منذ نهاية شهر شباط/ فبراير، أي قبل الإعلان عن أولى الحالات، حين أعلنت السلطات إيقاف إصدار تأشيرات السفر للمعتمرين من خارج المملكة، وتبع ذلك إيقاف العمرة للمواطنين بعد الإعلان عن أولى الحالات، وذلك على الرغم من حساسية إيقاف العمرة، وانتشار صور مطاف الحرم المكي خالياً، خصوصاً بعدما ربط الكثيرون بين بدء الدولة بذلك قبل الإعلان عن إيقاف فعاليات "هيئة الترفيه"، كواحد من علامات الصراع المحافظ/ الليبرالي القائم.

وفقاً لوزارة الصحة السعودية، فقد وصل عدد حالات المصابين بفيروس كورونا المستجد المكتشفة حتى يوم السبت في 21 آذار/مارس إلى 392 حالة، منها حالتان في العناية المركّزة، وأعلنت الوزارة عن شفاء 16 مصاباً، والقيام بأكثر من 22 ألف فحص مخبري.

استنفرت الدولة أجهزتها وبدأت بسلسلة إجراءات سباقة للعديد من دول المنطقة، من إيقاف الدراسة والعمل في القطاعين العام والخاص، وصولاً إلى إيقاف الرحلات الجوية الخارجية والداخلية. ودفع هذا الاستنفار وصرامة الإجراءات العديد من المراقبين والمعارضين في الخارج إلى التشكيك في حقيقة عدد الحالات المعلنة. إلا أن الأمر يبدو مرتبطاً أكثر برغبة السلطة بتحاشي تفاقم تفشي المرض وبالتالي الاضطرار إلى تأجيل قمة دول العشرين المجدولة في نهاية العام الجاري، والتي تحاول السلطة توظيفها لإعادة تأهيل صورتها وعلاقتها مع العديد من الدول الغربية بعد توترها على إثر حملات الاعتقال المتكررة والانتهاكات، وخصوصاً العملية الوحشية التي أودت بحياة جمال خاشقجي في تركيا.

وكغيرها من دول العالم، قام استنفار قطاعات الدولة على الاعتماد على البنية الحكومية التقليدية، من وزارات الصحة والتعليم وغيرها. فعلى الرغم من خطط "التنوع الاقتصادي" والخصخصة، دفعت الأزمة بالدولة إلى الارتكاز على القطاع العام من مؤسسات صحية وتعليمية عبر بوابات وزارة التعليم الإلكترونية.

ومع ذلك استمرت سياسات وزارة المالية و"مؤسسة النقد العربي السعودي" (البنك المركزي) في التوجه نفسه المنحاز ضد إجراءات الرعاية الاجتماعية والتعويضات، التي كانت تاريخياً تأخذ أشكالاً مختلفة، عبر ضخ الريوع النفطية مباشرة إلى المواطنين، أو زيادة البدلات والتوظيف في القطاع العام، بعناوين "المكرمات" والأوامر الملكية، ومنها خصوصاً سلسلة "المكرمات" التي تلت الأزمات والهزات السياسية خلال العقد الماضي، والتي استخدمتها السلطة لتثبيت شرعيتها الاقتصادية.

أما في مواجهة أزمة اليوم، فيعاني القطاع العام من اليُتم، بسبب سياسات التقشف والجنوح للخصخصة المنساقة مع برامج ما يسمى ب"تنويع الاقتصاد" بحسب "رؤية 2030"، وبالخصوص القطاع الصحي العام، الذي تواجه كوادره مشكلة في السكن على إثر تفشي فيروس كورونا، إذ هم يتجنبون الرجوع لمنازلهم خوفاً من نقل العدوى، ما يضطرهم إلى تأجير الغرف على حسابهم الخاص، دون توفير الدولة للتعويضات المادية أو للسكن البديل حتى اللحظة. بل انحصرت إجراءاتها الاقتصادية في محاولة إنعاش القطاع الخاص، حيث قامت مؤسسة النقد برفد البنوك بخمسة مليارات ريال، وحزمة من التسهيلات لإقراض المتضررين من القطاع الخاص، من مؤسسات تجارية صغيرة، تجنباً لعملية التعويض المباشرة للمتضررين من هذه المؤسسات، وكذلك في تجاهل تام لتوفير أي دعم للقطاعات العامة التي ترزح أصلاً تحت نير التقشف من قبل الأزمة.

شَبّه ضيف في إحدى القنوات المقربة من رئاسة أمن الدولة المسافرين "الشيعة" بالدواعش، واتهمهم بتعمد نقل الفيروس إلى الداخل السعودي. واستغلت المنصات الإعلامية المرتبطة بشكل مباشر بالديوان الملكي الأمر في سياق الصراع مع إيران، واصفين الوباء ب"الإيراني"، مثلما وصفه ترامب ب"الصيني".

قامت السلطات بوضع محافظة القطيف (ذات الأغلبية الشيعية) تحت الحجر الصحي، ومناشدة جميع المواطنين القادمين من إيران الإفصاح عن أنفسهم، معلِّقة عقوبة مخالفة الحظر المفروض. واجه حجر المحافظة بعض الاتهامات للسلطات بالاستهداف الطائفي والتغطية على إصابات في المناطق الأخرى.

ومن الناحية الصحية، وعلى الرغم من حالة الاستنفار، ومنها العزل الصحي، خصوصاً للقادمين من الخارج، إلا أن حجم عمليات الفحص المخبري لا يزال متدنياً بالمقارنة مع باقي دول الخليج. ففي البحرين والإمارات مثلاً، قامت الدولتان على التوالي بـ19 ألف و12 ألف فحص مخبري لكل مليون نسمة، في مقابل 22 ألف فحص في السعودية كعدد كلي، أي ما يعادل 700 فحص لكل مليون نسمة.

ردة الفعل الشعبية

انخفضت الوتيرة العامة للتشنجات المذهبية، بعد اكتشاف حالات جديدة في أكثر من منطقة، وإدراك أن "كورونا" لا يحمل لوناً مذهبياً، وخصوصاً بعد الحجر على محافظة القطيف ومنع اختلاط سكانها مع باقي المدن الرئيسية في المنطقة الشرقية حيث مقار عمل أغلب موظفي القطاعين العام والخاص من المحافظة. فقد عمل الحجر على قطع السبيل على سيل الاتهامات على وسائل التواصل بأن سبب التفشي مرجعه سكان القطيف حصراً، أو حتى إثارة الهلع في مقار العمل، والصدامات التي تأخذ طابعاً طائفياً بالضرورة، لو استمر تدفق موظفي المحافظة إلى شركاتهم في مدن الدمام والخبر والجبيل، بشكل سيربط بين سكان القطيف والفيروس.

أثارت صرامة الإجراءات تشكيكاً في حقيقة عدد الحالات المعلنة. إلا أن الأمر يبدو مرتبطاً أكثر برغبة السلطة بتحاشي تفاقم تفشي المرض، والاضطرار إلى تأجيل قمة دول العشرين المجدولة في نهاية العام الجاري، والتي تعول عليها لتحسين صورتها وعلاقاتها مع بعض الدول الغربية.

يعاني القطاع العام من اليُتم، بسبب سياسات التقشف والخصخصة. تواجه كوادر القطاع الصحي العام مشكلة في السكن إذ يتجنبون الرجوع لمنازلهم خوفاً من نقل العدوى، ما يضطرهم إلى تأجير الغرف على حسابهم الخاص، دون توفير الدولة حتى اللحظة للتعويضات المادية أو للسكن البديل.

أما ردة الفعل الشعبية العامة فقد وقفت إلى جانب التحشيد للالتزام بالعزل المنزلي العام، وارتفعت نسبة الحضور الإلكتروني، والتسلح بالنكات في مواجهة الأزمة، وتحول الفضاء العام السعودي الافتراضي – علاوة على بث النصائح الطبية - إلى ساحة لتبادل النكات والصور، في محاولة اجتماعية لتجاوز الأثر المباشر للأزمة. خصوصاً أنه لا مساحة في المجال العام الداخلي للنقد أو لمراقبة آلية العمل الحكومية، على الرغم من بروز العديد من اعتراضات موظفي القطاع الصحي، علماً أن حصول دعم شعبي واسع النطاق لهم، أمر مستبعد بسبب الخوف مما قد يبدو نقداً.

المعتقلون السياسيون والسجناء

قامت مديرية السجون السعودية بإيقاف زيارات الأهالي خشية نقل العدوى، ولكنها لم تعوّض ذلك بمنح فرص اتصالات أكثر: فلكل معتقل سياسي زيارة شهرية واتصال أسبوعي. ومع تأجيل عمل المحاكم، عُلّقت جلسات الكثير من المعتقلين دونما سبيل للمرافعة لطلب الإفراجات المؤقتة.

مقالات ذات صلة

وعلى الرغم من الإفراجات لدواعٍ إنسانية التي أقدمت عليها عدة دول في المنطقة، كإيران والبحرين ومصر وتونس، وهي شملت معتقلين سياسيين، إلا أن هذا الإجراء يبدو مستبعداً في السعودية، خصوصاً وأن الملف بيد الديوان الملكي، والذي تستمر دوائره بالعمل بالسياسة نفسها خلال الأزمة، بل مضافاً إليها الشماتة غير المباشرة بالأزمة الصحية والكارثة الإنسانية في إيران وحتى في قطر. ولعل المسؤولين يرون أن أية عملية إفراج ستعكس حالة عدم ثقة بمتانة أوضاع السجون السياسية، التي عملوا على تبييضها لسنين "كفنادق خمس نجوم". كما أن الحال في السجون العامة الجنائية أسوأ بكثير، مع التكدس وغياب العناية الصحية اللازمة.

قامت مديرية السجون السعودية بإيقاف زيارات الأهالي خشية نقل العدوى، ولكنها لم تعوّض ذلك بمنح فرص اتصالات أكثر: فلكل معتقل سياسي زيارة شهرية واتصال أسبوعي. ومع تأجيل عمل المحاكم، علقت جلسات الكثير من المعتقلين دونما سبيل للمرافعة لطلب الإفراجات المؤقتة.

... الأزمة في أولها، وتوقع سلوك السلطات السعودية صعب، إذ يحكمه غياب العقلانية والاندفاع الشخصي. وهكذا لا يبقى سوى التمني بأن تعي هذه السلطة حجم الأزمة وتنهي معاناة الكثير من العوائل، خصوصاً أن العديد من المعتقلين أطباء وموظفون في وزارة الصحة، كدكتور الوبائيات بدر الإبراهيم والدكتور وليد الفتيحي وسواهم...

مقالات من السعودية

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...