في العام 1921، نشرت صحيفة «العراق» إعلاناً عن رفع دعوى قضائية ضد مواطن قام برمي النفايات في الشارع، وحذّر الإعلان نفسه السكّان من رمي «الأزبال» في غير الأماكن المخصصة، و«بخلافه سيتم تغريمهم»، فيما بعد أصدرت المحكمة قراراً بادانة المدّعى عليه وحكمت عليه بتغريمه «5 روبيات».
بين تاريخ الإعلان ويومنا الحالي ثمّة فاصل زمني يزيد على تسعة عقود، عاشت فيها بغداد فصولاً من الحروب والديكتاتورية وعسكرة المجتمع، لكن النظافة صارت مشكلة متفاقمة رغم اختلاف الانظمة المتعاقبة، والاستثناءات البسيطة هي فترات صحوة من «أجل بغداد الأجمل والأنظف»، سرعان ما تخبو تحت ضغط الروتين والبيروقراطية والفساد الاداري والمالي.
ليست هناك دراسات أو إحصائيات عن حجم النفايات التي يرميها السكان خلال العقود السابقة، إذ شغلت أمور أكبر مراكز الدراسات البيئية، مثل مجزرة الانفال التي استخدم فيها نظام صدّام حسين السلاح الكيماوي ضد «الكرد» في مدينة حلبجة عام 1988، أو نفايات قوات الاحتلال الأميركي التي خلّفتها بعد رحيلها عن العراق عام 2011، وهي نفايات سامة في معظمها أدت الى انتشار انواع من مرض السرطان بين سكان المناطق الذين رميت تلك النفايات في محيط سكناهم.
زمن «النباشة» و«العتّاكَة»
في تسعينيات القرن المنصرم، أدى الحصار المفروض على العراق من قبل مجلس الأمن الدولي إلى تراجع كبير في دخل الفرد نتيجة التضخم النقدي الذي حول العملة العراقية الى مجرد ورق مطبوع لا قيمة له، إذ أصبح سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي بمعدل أربعة الاف دينار مقابل دولار واحد، بعد ان كان سعر الصرف قبل الحصار بمعدل ثلاثة دولارات وربع الدولار مقابل الدينار العراقي الواحد. كان مشهداً اقتصادياً دراماتيكياً مروعاً، أدى الى تفاقم البطالة، وأُصيبت الموازنات العراقية بشكل متتال بتراجع التمويل الخدمي ومناقلته الى التمويل العسكري، الأمر الذي أدى إلى بروز أعمال لم يكن لها وجود قبل فترة الحصار، مثل ظاهرة «العتّاكَة» و«النباشة». والعتّاكًة هم من يشترون كل شيء قديم ومستعمل ولا ينفع للاستعمال مثل العلب البلاستيكية والكارتونية وما شابهها، أما «النباشة» فهم من ينبشون حاويات أزبال المناطق الثرية أو مراكز أماكن الطمر الصحي. وبالرغم من أن تدني مستوى دخل الفرد يؤدي الى قلة كمية النفايات الصلبة، وعدم توفر الكثير من السلع المعروفة مثل البلاستيك والعبوات المعدنية والزجاجية وغيرها، لكن الأزبال في تلك المرحلة مثّلت باب رزق أو مهنة لبعض الفقراء.
وبالمقابل فالدوائر البلدية في وسط العاصمة كانت وقتها تقوم بمهامها بشكل جيد، على حساب المناطق التي تقع في أطراف العاصمة، مثل مدينة الثورة سابقاً و«الصدر» حالياً. كان النظام يحافظ على وجه العاصمة من أجل زوّاره الذين أصبحوا قليلين جداً مع القطيعة الدولية المفروضة عليه.
2003.. سيناريو الفوضى
كانت الدوائر البلدية وأمانة بغداد مثالاً صارخاً للفوضى التي تسبب بها الغزو الأميركي للعراق. سرعان ما انتشرت أكوام النفايات في أكثر مناطق بغداد حضَرية مثل «الكرَّادة» التي تعد أرقى مناطق جانب الرصافة، و«المنصور» في جانب الكرخ. استمرت هذه الفوضى وتفاقمت خلال العام الأول من الاحتلال. بعدها، تم التعاقد من قبل سلطة «الائتلاف» التي يقودها الحاكم المدني الامريكي بول بريمر مع شركات خاصة من أجل رفع النفايات، لكن كل هذه العقود كانت تدخل ضمن خانة الفساد، مثلها مثل مشاريع صندوق إعمار العراق، التي تورّط فيها 82 مواطناً اميركياً من بينهم ضباط في الجيش الاميركي.
بعد ذلك تمت إعادة المؤسسات إلى العمل. وكان على أمانة بغداد، المسؤولة عن 14 دائرة بلديّة في العاصمة، أخذ النفايات من المنازل والذهاب بها إلى المطامر الصحية في الضواحي. إلا أن تلك المطامر، حتى عامين قريبين، لم تكن بالمواصفات الصحية المطلوبة، وتتعرّض للنبش من قبل «النبّاشة» الذين استمروا بالعمل بعد أعوام من «العراق الجديد» الذي شهد رفع حالة الحصار الدولي التي كانت سبباً بولادة مهنتهم، بحسب ما يؤكد تقرير لوزارة البيئة العام الفائت.
أرقام وأكداس
وبحسب أمانة بغداد، فإن معدل النفايات الذي يخلفه سكان العاصمة يبلغ 7 آلاف طن يومياً، لكن هذا الرقم يبدو متواضعاً مقارنة مع اكداس النفايات المنتشرة في شوارع بغداد والتي لم ترفعها كوادر الأمانة. فمنظر تكدس النفايات في منطقة الباب الشرقي، وهي في قلب بغداد، أصبح أمراً مألوفاً لدى البغداديين.
لكن الأرقام التي تعلنها الأمانة، على تواضعها، تكفي لدق ناقوس الخطر من التداعيات الصحية الناتجة عن معالجتها، ناهيك عن الأرقام الحقيقية التي يرجح ان تكون مضاعفة. إذ ليس هناك سوى معمل واحد تمتلكه محافظة بغداد وكلّفها نحو 16 مليون دولار بسعة تدوير تبلغ 200 طن يومياً، وهناك معمل آخر تابع لأمانة بغداد تبلغ سعة التدوير فيه 1000 طن يومياً، وفق رئيس مكتب الاعمار والتطوير في مجلس محافظة بغداد.
أين يذهب فائض النفايات المتبقية التي لا تستوعب معامل المحافظة والأمانة تدويرها؟
في نيسان/أبريل من هذا العام، وأثناء افتتاح معمل محافظة بغداد لطمر النفايات، اعترف محافظ بغداد السابق أنه «لا توجد خلال الفترة الحالية اي طريقة حديثة لتدوير النفايات او طمرها صحياً، وما موجود حالياً عبارة عن مكبات للنفايات تؤدي الى الاصابة بالكثير من الامراض عبر جمع وحرق النفايات»، وهذا يعني أن تلوّث البيئة سيظلُّ قائماً، وأن هذه المشاريع ليست سوى حلول ترقيعية، وأن مهنة (النبّاشة) ستبقى مزدهرة حتى اشعار آخر.
ثروة ضائعة
تشكل النفايات الصلبة من النفايات المنزلية في بغداد بين 65 ـ 55 في المئة من مجموع الكمية المنتجة من النفايات، وتأتي هذه النسبة في المناطق السكنية في المدينة التي تشكل النسبة الأكبر من هذا التصنيف مقارنة بالمناطق التجارية أو الصناعية، كما أن المواد العضوية تشكّل نسبة كبيرة من مجموع النفايات المتولدة في بغداد، إذ تبلغ 50,57 في المئة، وهذه النسبة يمكن الإفادة منها في إنتاج الأسمدة العضوية، بحسب بحث أجري في كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد. مما يعني أن النفايات من الممكن أن تشكّل ثروة مضافة للعراق، لكنها، مثل باقي مصادر الثروات الاخرى، باستثناء النفط، عرضة للاهمال والهدر بسبب الفساد وسوء ادارة الدولة.