اليوم كانوا ستة شهداء..

هذا نص نشر في 13 تشرين الاول/ اكتوبر 2018، وهو يقترح انشاء "عدّاد" لضحايا الاعتداءات الاسرائيلية على مسيرات العودة التي أتمت عاماً كاملاً وسجلت اليوم شهداء جدد، وجرحى إصابات بعضهم تتسبب بأعطاب دائمة. ليس عداداً يقول الرقم فحسب، بل يوثّق الوجوه وسِيَر أصحابها، احتراما لها، وتقديما للانسان خلف الحدث.
2018-10-13

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

اليوم كانوا ستة شهداء..

وهذا في 12-10-2018، يوم جمعة ككل أسبوع منذ آذار/ مارس الماضي، حين بدأت مسيرات العودة الكبرى في غزة. وقد صاروا 150 شهيداً مذاك بحسب صحف أجنبية، تعيد التذكير بالرقم في أي مقال عن الموضوع، وتذكِّر بأنه سقط في يوم واحد من شهر أيار/ مايو 60 قتيلاً دفعة واحدة: كان يوم النكبة ونقل السفارة الاميركية الى القدس.. وأما في المواقع العربية، بما فيها تلك الفلسطينية وحتى المخصصة لغزة، فالأمر يبقى غائماً. طبعاً لو يتولى المتابِع تسجيل الأعداد يومياً لفاز بتلك المعرفة! وأما الجرحى فيصعب إحصاؤهم، ليس لأنهم كثر - وهذا صحيح - بل بسبب الافتقاد للمتابعة. وهنا أيضاً يُعلَن عن الأعداد في اليوم نفسه، وتُعطى الأسماء ويُعيّن عدد الإناث والاطفال من بينهم.. ثم تُطوى الصفحة.

ما الذي يمنع انشاء عَدّاد؟ بخصوص العراق، تأسست في بريطانيا جمعية مناهضة للحرب على فكرة العدّاد. "Iraq Body Count" أحصى كل الضحايا المدنيين منذ بدء الحرب الاخيرة على العراق في 2003 واستمر بعمله حتى اليوم. وهو يصدر تقريرا شهرياً تلخيصياً. والعراق أوسع بما لا يقاس من غزة والحرب عليه أشد تعقيداً. وعلى الرغم من ذلك، اُنشئ العداد وعمل بفعالية وصار مرجعاً لا يمكن تلافي الاعتماد عليه حين يجري تناول تلك الحرب، وقيل فيه إنه "قاعدة المعلومات الأكثر وثوقاً عن الضحايا المدنيين في العراق"، (IBC is widely considered as the most reliable database of Iraqi civilian deaths، بحسب جوناثان ستيل في الغارديان البريطانية).

طوَّرت مسيرات العودة تقنياتها، ونظمّت مجموعات تتولّى كل واحدة منها جانباً من المهمات. والمشهد كل يوم جمعة قرب السياج الاسرائيلي مثير للدهشة، حيث السواتر المطاطية (من الاطارات) المنظَّمة والمهندسة، وكأنها تخص ديكوراً مُعداً بعناية لزوم فيلم سينمائي، وحيث فرق المصورين الموزعة في نقاط محددة تعزز من الانطباع، فيما فرق إسعافات طبية تعرف تماماً مهمتها، وفرق حرق الإطارات وانشاء سواتر دخانية تعمل كالساعة، وفرق الطائرات الورقية المشتعلة تقوم بواجبها.. ومن يتمكن من كل ذلك، ويعمل عليه كل يوم لتهيئة مسرح الجمعة، ويمتلك العقلانية والمثابرة الضروريتان لانجازه، لا يمكن أن يعجز عن الوفاء بالمهمة الإعلامية كما ينبغي لها أن تكون، وهي معركة ذات أهمية هائلة اليوم، ويأتي على رأسها مراكمة المعطيات والوقائع وتوفيرها لمن يريد.. ولا سيما أن الفلسطينيين لا يزوّرون ولا يفتعلون في ما يقدمونه!

تمتلئ المواقع الفلسطينية بخطابات شتى وبتصريحات هذا وذاك من القادة وبصور الشهداء (أحياناً) وبوجوه هذه وتلك من أمهاتهم وبمشاهد التشييع الخ.. من دون الاكتراث بالتوفير الدائم لبنك المعلومات المدقَّقة والمتاحة بيسر، عن الشهداء والجرحى (وعن المعتقلين في مجال آخر!). يطرح ذلك سؤالاً عن رسوخ قيمة الانسان: الانسان الفرد، صاحب الاسم والرسم والسن والجنس ومكان الولادة وتاريخ الإصابة (أو الاعتقال).. مما هو متوفر بشكل مبعثر وآني، يطويه النسيان إلا من قلب أهله وأصحابه، ولكنه لا يتحول الى حجة سياسية.

العدّاد هو أحد المهام. قيمته رمزية وموضوعية في آن. وفي مجال المعركة الإعلامية فالمطلوب – والممكن – هائل. وهناك تجارب ماضية وأخرى مستمرة تثبت أن افراداً قلائل وبإمكانات ضئيلة للغاية انشأوا أطراً وحققوا مبادرات متميزة.. ويمكن ذكر أمثلة من فرنسا مثلاً حيث الحضور الاسرائيلي والصهيوني عظيم الشأن، وعلى الرغم من ذلك فقد تأسست مبادرة "زمن فلسطين" (Le temps de la Palestine) بمقابل "موسم اسرائيل" الرسمي الذي قررته السلطات الفرنسية بالاتفاق مع تلك الاسرائيلية (بمناسبة العيد السبعين لتأسيس اسرائيل، ويقال انها مصادفة!). تمكّن "زمن فلسطين" من مطاردة فعاليات "الموسم" ومن إخباء وهجها، ومن إطلاق مئات المناسبات في كل أنحاء البلاد بل وفي أوروبا: افلام سينمائية وندوات ومعارض، كان آخرها فيلم عن "رزان" المسعفة الغزية الشابة التي سقطت شهيدة خلال مسيرات العودة. والفيلم (Razan une trace du papillon) اليوم يجوب العالم وليس أقل! هذا عدا "وكالة ميديا فلسطين" (Agence Media Palestine) التي تأسست في 2009 إبان العدوان الكبير على غزة، بصفر إمكانيات ولكن بتصميم المبادرين إليها، وما زالت تنشط كل يوم وتقدم المعلومات التي تحتاجها الصحافة والباحثين، وتلاحق التزوير الاعلامي الاسرائيلي حتى تخالها جيشاً قائماً بذاته!

Gaza Body Count أو العدّاد هو أحد المهام الاعلامية والسياسية الملحة. قيمته رمزية وموضوعية في آن. وهو جزء من المعركة الإعلامية بالغة الأهمية اليوم.

..والأمثلة تلك من فرنسا حيث تحرص إسرائيل على ملاحقة كل نأمة ولا تفوِّت شيئاً. وآخر ما قامت به هو الاعتراض على تحقيق وثائقي عن جرحى مسيرات العودة في غزة تنوي بثه القناة الثانية ضمن برنامج "مبعوث خاص" (Envoyé special) الشهير. تطلب السفيرة حجب الشريط، أو السماح لاسرائيل بالتعقيب عليه، وبكل الاحوال تطلب مشاهدته كاملاً! تقول رسالتها لادارة التلفزيون إن التحقيق "يمكنه الحث على كراهية اسرائيل ويمكن هكذا وبالتالي ان تترتب عليه نتائج مباشِرة جسدية على الفرنسيين من أتباع الديانة اليهودية"، وتتابع "إن انتقاد اسرائيل غالباً ما يؤدي الى تغذية معاداة السامية". ها قد قيل كل شيء! في هذه الكلمات القليلة كل مرتكزات البروباغندا الاسرائيلية وأدواتها في التخويف وفي الابتزاز وفي اللجم، وفيها يحضر المنطق الأعوج والملتوي الذي تتبعه.. ولكن ليس هذا موضوعنا هنا. بل يساعد المثال في قياس الفارق بين سلوكين!

Gaza Body Count إذاً يا قوم. وقد فات في التعداد الكثير ولكن - ومع الأسف - فالآتي اعظم، فدعوه لا يفوت!

مقالات من فلسطين

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

الزيتون يا أبي

يتعلّق قلب أبي بأرضه، وهذا ما جعلني الآن أُدرك كيفَ تعلقَ أجدادنا بأرضهم، ويجعلني أُدركُ كيف يتعلق أولئك الذين نزحوا أو هاجروا ببلادهم، ثم يقررون بعد عشرات السنين العودةَ إليها....

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...