سجل المغرب في السنوات الأخيرة حراكات جهوية مسّت عمق المغرب العميق، آخرها كان يدور في مدينة "جرادة"(شمال شرق المغرب) التي استأثرت في الشهور القليلة الماضية باهتمام الرأي العام المحلي والمنابر الدولية. وقد أججت حادثة وفاة شقيقين في أحد آبار الفحم الحجري في 22 كانون الأول / ديسمبرمن العام الماضي غضب الساكنة، مطالبين ببديل اقتصادي وتحسين أحوال مدينتهم، إذ أضحت شبه مهجورة ومهمشة، خصوصا بعد قرار اغلاق مناجم الفحم الحجري عام 1998.
لم تكن مدينة "جرادة" لوحدها من سجلت احتجاجات ما يعرف إعلامياً بـ"الحراك"، فـ"زاكورة" سبقتها قبل ذلك بشهور، إذ خرج الساكنة في شهري ايلول/ سبتمبر وتشرين الاول / أكتوبر من العام الماضي مطالبين بتوفير الماء الصالح للشرب بشكل يومي وبدون انقطاع. لكن السلطات واجهت مطالبهم بالقمع والاعتقال، وأطلق لهم في الوقت نفسه وعوداً لم ترَ النور بعد.
وقبل ذلك في تشرين الاول/ اكتوبر 2016، شهد البلد أكبر حراك شعبي جهوي غير مسبوق، في منطقة "الريف" شمال المغرب، إثر وفاة بائع الأسماك محسن فكري طحناً في شاحنة لفرم الأسماك، وهو ما أغضب الساكنة وأدى لخروجها للساحات والشوارع لشهور ممتدة لأزيد من عام تخللتها اشتباكات مع الشرطة، ومسيرات ووقفات احتجاجية يومية أفضت إلى اعتقال قائد الحراك ناصر الزفزافي ومجموعة من النشطاء.
هل الحراكات الجهوية امتداد لحركة "20 فبراير"؟
شهد المغرب نسخة خاصة من "الربيع العربي" تختلف عما جرى في تونس ومصر. ففي يوم الأحد، 20 شباط/ فبراير 2011، خرج مغاربة ينادون بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية جذرية. ولكن النظام نجح في استيعاب هذا الحراك ببعض الإصلاحات.
وبعد أقل من سنة خفّ وهج ذلك الحراك ليأتي بعده جيل جديد من الحراكات الشعبية، لكن ليس في المركز هذه المرة، بل في الهوامش. بدأت الحكاية من "الريف" وما زالت مستمرة، فهل كانت هذه الحراكات امتدادا لحركة "20 فبراير"؟
تستلهم الحراكات الجهوية بالمغرب من تجربة "حراك 20 فبراير" الشعارات والهتافات النضالية ونَفَسِها الاحتجاجي الشعبي، الذي يمضي بشكل عفوي بلا رأس ولا قيادة (باستثناء حراك الريف)، إذ لا يعبّر بالأساس عن خلفيات ايديولوجية أو سياسية حزبية بقدر ما ينادي بتحقيق مطالب شعبية. هناك تواصل بين "الحراك الفبرايري" والحراكات المناطقية، لجهة كون الأول أسس لفكرة الشارع كسبيل وحيد لنيل المطالب، لكنه يختلف عن تلك الحراكات في نوعية تلك المطالب، فهو نادى بمَلكية برلمانية ومحاربة الفساد والاستبداد، علاوة على إرساء قيم العدالة والحرية والكرامة، في حين أن الحراكات الجهوية تُركِّز مطالبها في ما هو اقتصادي واجتماعي محلي
لماذا تنتفض جغرافيا الهوامش؟
يُلاحَظ أن المغرب بدأ يسجل حراكات جهوية ومناطقية غير مسبوقة. فلماذا تنتفض جغرافيا الهوامش دون غيرها من المناطق؟ طيلة عقود من الزمن، أولت الدولة أهمية قصوى لمحور ما اصطلح على تسميته إبان الاستعمار الفرنسي بـ"المغرب النافع" أي خط طنجة ــ الرباط ــ الدارالبيضاء. وقد سجلت بقية المدن في المناطق تفاوتاً في نسب التهميش والفقر وغياب التنمية. والمتوالية تنعقد وفق درجة الابتعاد عن شريط المدن الساحلية الأطلسية. فالحكومة ركنت، عبر سياساتها التمييزية، هذه المناطق ضمن خانة الإهمال. وعلى الأرض، يلاحظ الشح في البنى التحتية والاجتماعية والخدمية، من طرق ومدارس ومستشفيات، وهو ما يولد مشاعر "الحُكرة" والظلم التي تتحول إلى بارود.
تاريخيا، يعود تهميش أطراف المغرب على حساب المراكز إلى فترة ما قبل "الحماية" الفرنسية. آنذاك كان البلد مقسماً إلى شطرين: بلاد المخزن، و يقصد بها المناطق التي فرض فيها السلطان سلطاته السياسية والمالية والدينية كاملة بواسطة قادته وأعوانه، و"بلاد السيبه" والمناطق المهمشة، التي كانت تدير شؤونها بنفسها بواسطة القبيلة والأعراف المحلية. اعتمد المستعمر الفرنسي (بدايات القرن العشرين) التقسيم المجالي نفسه لكن بتسميات مختلفة، فقال بمغرب "نافع" و آخر "غير نافع". الأول يغريه لأنه مجال غني بالثروات الطبيعية والمعدنية، وهو ما جعله يستغل موارده ويستثمر فيه بقوة من خلال بناء المؤسسات الإدارية والبنى التحتية المتطورة. أما الثاني فلم يوليه اهتماماً لأنه يشمل المناطق الريفية والمقفرة والتي كانت بؤر للمقاومة. بعد استقلال المغرب، مضت الحكومات المتوالية على خطى الاستعمار، والنتيجة هي هوة متزايدة ببن الهوامش والمراكز.
حراك المغرب: استثناء على المحك
20-02-2018
ما يجمع هذه الحراكات الجهوية هو إنحصار مطالبها في ما هو اقتصادي واجتماعي. وفي الوقت ذاته يطبعها خطاب له حمولة سياسية وإن كان غير مؤدلج أو متحزب، لكنه مناهض للدولة، ليس لشخصيتها المعنوية، بل لسياساتها التي يرى المحتجون بأنها تفقيرية وتجويعية وتستهدف تهميش مناطقهم. ولطالما بقيت مطالب هذه الحراكات في مجملها سلمية.. فلماذا تتعاطى السلطة معها بالعنف والأساليب البوليسية؟
العصا في مواجهة عدوى الاحتجاج
تتعاطى الدولة بالمغرب مع مظاهرات الحراكات الجهوية بلغة مثقلة بالتخوين وتهم العمالة تارة، وتتعامل تارة أخرى مع المحتجين باللين والحلول السياسية وتبدي استعدادها للجلوس معهم إلى طاولة الحوار. لكنها في حالات كثيرة تلجأ الى العنف والعسف البوليسي.
كثيراً ما يفسر لجوء الدولة للحل البوليسي لاطفاء نيران الاحتقانات الشعبية كمظهر لخوفها من انتشار عدوى الاحتجاج لمناطق أخرى، وهو ما يشكل تهديداً لها. غالباً ما تتعامل الدولة مع الاحتجاج بكثير من التعنت والمماطلة والتجاهل في محاولة منها لثني المحتجين عن الخروج للشوارع، وهو ما حصل مع حراك "الريف" في أوج مراحله وكذلك مع "انتفاضة العطش" في زاكورة ومع جرادة (الشهر الجاري).
المغرب: هل ثورة البؤساء قادمة؟
09-09-2017
صار الناس يعتقدون أن الاحتجاج هو الوسيلة الأنجع لإيصال صوتهم بسبب تراجع أدوار المؤسسات الوسيطة، من أحزاب ونقابات وبرلمان ومجتمع مدني. لذلك فهم يتمسكون بالشارع ولا ينسحبون منه إلا بعد تحقيق الحكومة لوعودها.
من ناحيتها، تعد السلطات المحتجين بالاستجابة لمطالبهم وتشرع أحياناً في تحقيق ذلك. وقد بدأ تنفيذ بعض المشاريع التنموية في مناطق الريف، واعطت وعداً باستكمال إنشاء سد محلي بنواحي زاكورة، كما تدرس إمكانية إيجاد بديل اقتصادي لآبار الفحم الحجري. لكن السؤال العالق دوماً يتعلق بمدى وفاء الحكومة فعلاً بوعودها ومقدار تنفيذها لها وخروجها من مقاربة "المغرب غير النافع".