مباشرة بعد انتشار الفيديو الذي يظهر مقتل الشاب محسن فكري، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وأُعلنت التعبئة في مدن المغرب، من أجل الاحتجاج على مصيره المروّع. ووصل الاحتقان إلى أقصى درجة عرفها المغرب منذ تظاهرات "20 فبراير" 2011 في إطار الحراك العام يومذاك.
محسن الشاب البسيط الذي سُدّت في وجهه فرص العمل، وهو الحامل لشهادة في الصّيد البحري، لم يجد غير بيع السمك كوسيلة للحصول على لقمة العيش، فاقترض مبلغاً من أجل اقتناء كمّية كبيرة منه لبيعها بالتقسيط لاحقاً. ولأنها فترة راحة بيولوجية لسمك "أبو سيف"، تم إيقاف الشاحنة التي حملت البضاعة من طرف الجمارك التي سمحت في البداية للشاحنة بالتّحرك من داخل الميناء، الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات حول الظروف التي يعمل فيها الميناء، التي كانت السّبب الرئيسي لمصير محسن ذلك اليوم.. إذ تخرق القوانين بشكل "معتاد"، بتواطؤ المصالح المسيّرة للميناء ولوبيات الصيد، ومن دون أن يثير الأمر حساسية منفذي القانون، الذين لم يكونوا ليتصدّوا لبضاعة محسن لو لم تكن قد أثارت حفيظة المسيطرين على تجارة السمك في الميناء. ففي بحثنا في القصة تتناسل الخروقات، التي لو لم يتم التساهل فيها، لما وجد محسن نفسه عالقاً في باب الميناء مع بضاعة حُجزت بعد أن التهمت مدّخراته وما اقترضه.
وتمتد هذه الخروقات، من التساهل مع اصطياد أسماك في فترة راحة دون تطبيق القانون على من قام بالصيد، إلى السّماح للسفينة بالرسوّ في الميناء، مع تأشير السلطات الطبية على سلامة سمك "أبو سيف" الممنوع من الاصطياد. كما سُمح بولوج سيارة محسن التي لا تتوفر على مواصفات السّلامة الكافية لشحن كمية من الأسماك الممنوع اصطيادها دون رقابة.
قضى محسن ورفاقه ساعات في مفاوضات لإطلاق سراح السّمك، لكن إصرار المسؤولين جعل محاولاتهم تبوء بالفشل، وصدر الأمر بإتلاف الشحنة. ولم يكن أمام محسن إلاّ الصعود إلى شاحنة النّفايات التي كانت توشك على إتلاف السمك، برفقة اثنين من الباعة الذين اشترى منهم السّمك للحيلولة دون إتلافه، فقام أحد عناصر الشرطة بإصدار أمر صادم بطحنه، "طحن دين مو"، كما يقول شهود عيان، بتشغيل آلة الإتلاف في شاحنة النفايات. ركض البائعان وزلّت قدم محسن الذي ابتلعته الآلة، ليُطحن حرفياً بعد أن طحنته آلة الفساد الضخمة.
ومن المفارقات التي جاءت في تقرير تشريح محسن، تسجيله أنّ معدته وأمعاءه كانت فارغة، مع العلم أن الوفاة حدثت مساءً في آخر النّهار، إذ قضى يوماً كاملاً في السّعي من أجل شحن وإخراج بضاعته من الميناء، حتى إنه لم يفكر في تناول لقمة.
المعلومات التي تنكشف كل يوم عن وضعية محسن الاقتصادية المأزومة، تُضاعِف حجم التعاطف معه، كنموذج للشاب المثابر والمجتهد في السّعي إلى توفير حياة كريمة لوالديه المسنّين وإخوته التسعة. لذا كان احتجاج الشّارع المغربي أكثر حدّة، وأصعب على التدجين الرسمي المعتاد بنشر خطابات تخويفية من إمكانية تحول الاحتجاجات إلى "أعمال عنف قد تعصف باستقرار المغرب"، لأن الحشود الغاضبة رأت أن الشاب يمثّلها، بكل الأحلام التي أُجهضت في مطحنة الفساد وانسداد الآفاق، بكل الإحباطات التي يعيشها الشّباب المغربي في خندق البطالة، وغياب فرص تحسين الوضع الاقتصادي لعدد كبير منهم.
لذلك، وبإدراك نادر من الجهات الرسمية حساسية الوضع وقدرة الواقعة على إشعال فتيل احتقان متراكم يبحث عن عود كبريت، سعت الدولة بكل هيئاتها إلى تهدئة الوضع. فقام وزير الداخلية بزيارة منزل أسرة محسن لتقديم التعازي والتطمينات بتدخل الملك شخصياً للسهر على سير التحقيق. واتصل رئيس الوزراء بوالد محسن (مستغلاً انتماءه إلى حزبه) لتقديم التعازي، وطلب إليه أن يثق بالدولة وبالملك، وأن لا ينجرّ وراء دعوات التظاهر والاحتجاج. وهذا يفسّر التصريح الذي أدلى به إلى وسائل الإعلام لاحقاً مطالباً بتغليب مصلحة الوطن على الغضب لمقتل ابنه، إذ وجد الأب المكلوم نفسه تحت ضغط كل مؤسسات الدولة من أجل تهدئة الشعب المتأثر بهذه الوفاة. وسكان منطقة "جبال الرّيف" معروفون بالولاء القبلي الذي تحوّل إلى ولاء حزبي، وهو ربما ما جعل الأب يخضع لإرادة زعيم حزبه على الرغم من الغضب الذي خلّفه فقدانه لابنه.
لكن هذه المبادرات السّياسية الحثيثة لم تنجح في نزع فتيل الغضب الشعبي لمقتل محسن، فخرجت التظاهرات مباشرة بعد دفنه، بل رافقت الجنازة مسيرة حاشدة لمسافة 25 كيلومتراً. ووصلت أعداد المتظاهرين إلى حجم لم يسبق له مثيل منذ تظاهرات "20 فبراير". الأمر الذي يؤكد مرة أخرى أن الهمّ الاجتماعي هو الدافع الأساسي للاحتجاج في المغرب. فعلى الرغم من الاختناق السياسي، حيث كانت نسب المشاركة المتدنية في الانتخابات احتجاجاً صارخاً عليه، إلاّ أن الشوارع المغربية لا تمتلئ بالغاضبين إلا حين يتعلق الأمر بحيف اجتماعي. كانت البداية مع العفو عن مغتصب الأطفال دانييل كارغان، والاحتجاجات ضد شركة التدبير المفوض أمانديس في طنجة، والآن الاحتجاج على رُخْص حياة المواطنين وطحنها حرفياً بعد الطحن المجازي اليومي في دوامة اللاأفق.
انتشر مرة أخرى مصطلح "الحكرة" (من احتقار) الذي يعني القهر، في شعارات الاحتجاجات التي اشتركت في جملة "كفى من الحكرة" التي رفعها معظم الشباب المحتجّ في مختلف المدن. ويدخل مفهوم "الحكرة" إلى جانب مفاهيم أخرى، مثل الزبونية والاستبداد والرشوة والمحسوبية، كمفاهيم طاغية في الحقل النسقي للظّلم الاجتماعي، في الفعل الاحتجاجي الذي يمارسه الشباب في المغرب، في ظلّ اختناق كبير.
كما أن التحوّل السياسي والمدني والسوسيو ـ ديموغرافي للمجتمع في ظل العولمة، ولّد شعوراً عارماً بالإقصاء والظلم، الذي ترتب عن ممارسات تمييزية ضد شرائح معينة في المجتمع، أدت إلى احتقان كبير في صفوف الشّباب بشكل خاص، المتضرّر الأكبر من أي اختلالات مجتمعية، لأنّها تؤثر بشكل كبير على مستقبله، وتحبط أحلامه في حياة كريمة، وتمسّ بالكرامة الإنسانية، في ظل ازدياد الفوارق الاجتماعية. كذلك فإن الوضع التاريخي للمنطقة محتقن وهي التي دخلت في صراعات مديدة مع "المخزن"، أي السلطة المركزية الممثّلة في الملك في بدايات الاستقلال، والعنف الذي مورس عليها.. كانت عوامل إضافية في تأجيج الغضب، وجعل الخوف يدبّ من خروج هذا الحقد القديم على السّلطة في أعمال فوضى يقوم بها المحتجّون.
كذلك تُجْمع معظم التحليلات على أنّ الفساد سببٌ رئيسي لما حدث. إذ دخل محسن وفق شهادة أقاربه في صدامات سابقة مع "لوبيات" السّمك في ميناء الحسيمة، التي حاولت محاصرته حتى لا ينافسها في تزويد السوق به. والدليل هو الإيقاف الذي تعرض له هو بشكل حصري، فيما أطنان من السمك الممنوع صيده في فترات الراحة البيولوجية تخرج من الميناء دون حسيب أو رقيب، لأنّ الحساب قد تم تسديده تحت الطّاولة مع مسؤولي الميناء.
فكلّ يوم تُزَوّر محرَرات رسمية لمصلحة لوبيات السمك التي تخرق القانون بحراسة رجاله، تتناول نوعية السمك المصطاد وكميته، وذلك للتغوّل في المنطقة. ويتوجب على تجّار السمك الصغار أن يجدوا موطئ قدم في الساحة بنزعه من بين أنيابهم. كما يخضع البحّارة أيضاً إلى الضغط من أجل التعامل الحصري مع تلك اللوبيات، وبالثمن الذي يناسب جشعهم.
لذا فإلقاء القبض على بعض المسؤولين الصغار، يقفز على الحقائق ويُقزّم المسؤوليات في وفاة درامية لن يقبل كتعويض عنها إلّا حساب عسير للفساد وللمسؤول عن ضغط الزّر الذي تذهب آخر المعطيات المتوفّرة من التحقيق إلى أنها ستُلصق بصديق للضّحية، وتبقى الحيتان الكبيرة تعوم في أعالي البحار على راحتها، وتطحن في طريقها كل الأسماك الصغيرة.