مهربو الصحراء في المغرب العميق

يطالب أبناء المغرب العميق السلطات أن تغادر السياسة التي وضعها الجنرال الفرنسي ليوطي(*) للمغرب بتوزيعه إلى مناطق نافعة وأخرى غير نافعة، وأن تنجز مشاريع تعود بالنفع على الناس وتحميهم من تعاطي التهريب المعيشي..
2018-09-01

صالح بن الهوري

صحافي من المغرب


شارك
المكي مغارة - المغرب

دفع الفقر والبطالة بأبناء الأقاليم (المحافظات) المتاخمة للحدود المغربية الجزائرية إلى الاعتماد على التهريب المعيشي، للحصول على ما يسدّ الجوع الذي ينخر بؤساء قرى وبلدات الصحراء الشرقية، أو ما يعرف بالمغرب العميق. وأرغمت سياسة تمركز المال والسلطة في يد فئة قليلة، البؤساء إلى اللجوء الى هذه المخاطرة.

يكاد الفقر أن يكون تراثاً وطنياً في المغرب! فهو يطال أزيد من مليون ونصف مليون مغربي، ويعيش 4.2 مليون انسان في وضعية هشة، ويرتفع مؤشر الفقر في القرى، حيث أكثر من 10 في المئة من المغاربة تحت عتبة الفقر. وقد صنف تقرير لمنظمة "أوكسفام" المغرب ضمن الدول التي يكون الحد الأدنى للأجور بها أقل من الحد اللازم للبقاء، إذ يعيش نصف المغاربة بـ966 درهم شهرياً.

فما هي الطرق التي يعتمد عليها مهربو الصحراء للحصول على كسرة الخبز السوداء تلك، وما أبرز الأخطار التي يتعرضون لها، وهل من أمل للقضاء على ظاهرة التهريب تلك أو للحد منها؟

تهريب الحشيش المغربي الساحر

كان أحد العلماء في الصحراء الشرقية يشعل غليونه المحلي المعروف بـ"السبسي" ويدخن عشبة الكيف النقية في نهار رمضان أمام الملأ، ويدعو الفقهاء لمناظرته ويتحداهم بإثبات أن تدخين الكيف أو التبغ في رمضان يُبْطل الصوم. يعجز الفقهاء عن مناظرته في السوق الأسبوعي ويواصل العالم تدخين عشبة الكيف ونفث الدخان صوب السماء بخيلاء، نكاية بهم وبأشباه العلماء.

يتناقل وقوع هذه الرواية في العقد السادس من القرن العشرين بإحدى البلدات المتاخمة للحدود المغربية الجزائرية بالجنوب الشرقي للبلد. لذا لا زال البعض يستدل بها لتدخين الكيف، واعتبار أن لا إثم على مدخنه، باعتبار أنه يمكن استخراج ألف دواء منه. وتنص الأدبيات الشعبية بالمناطق التي تعرف بزراعة القنب الهندي أنه "لا يعد رجلاً من لا يملك غليوناً محلياً لتدخين الكيف"...

يكاد الفقر أن يكون تراثاً وطنياً في المغرب! فهو يطال أزيد من مليون ونصف مليون مغربي من أصل 36 مليوناً، كما يعيش 4.2 مليوناً في وضعية هشة..

بينما تقول الأمم المتحدة (مكتب مكافحة المخدرات) أن المغرب كان في 2017 أكبر منتج للحشيش في العالم. وتؤكد الوكالة الأوروبية لإدارة التعاون العملياتي أن تهريب الحشيش يعد نشاطاً ينطوي على أخطار قليلة وأرباحٍ كبيرة، ويبقى مجالاً جذاباً لتلك الجماعات، وهو أفضل من تهريب المهاجرين.

مهربو الصحراء أعرف الناس بالبيداء

يُنظر الى القرى والمحافظات المتاخمة للحدود على أنها "غير نافعة". تعتمد السلطات المركزية على أبنائها للانخراط في صفوف الجيش، وهذا منذ قرون خلت، كما ذكرت بعض الرسائل المؤرخة في القرون السالفة. واليوم، لا زالت هذه القاعدة مستمرة نظرا لتشكيل قرى الهامش لخزان للشرطة والدرك والعاملات الزراعيات وخادمات البيوت.

يعمل مهربو الصحراء على تهريب البنزين والسجائر والكيف المعالج والحشيش، ويعتمدون على مبادلة السكر ببعض المواد المهربة. ولهم معرفة جيدة بالبيداء، يحفظونها وادياً وادياً وجبلاً جبلاً وفجاً فجاً، ويستعملون البدن والجمال في نقل السجائر المهربة ليلاً. السلطات المختصة تقوم أحياناً بقتل الجمال بالحقن السامة لحظة القبض عليها وحرقها، باعتبارها مريضة قادمة من دول الجوار. ترسل الجمال لوحدها الى نقاط متفق عليها بين المهربين عبر الحدود.. فهي تعرف الطرق الصحراوية أكثر من حرس الحدود.

ويقود مهربو الصحراء سياراتهم رباعية الدفع بسرعة جنونية وهي مطفأة الأضواء، يبيضون الليالي في قطع مسافات طويلة بالصحراء القاحلة، إذ يمتنعون عن المرور بالطرق المعبدة، حيث تنتشر نقاط تفتيش الدرك والشرطة. وللإفلات من السلطات المختصة يعتمد مهربو الصحراء على "خفر" مشكّل من خبراء يعرفون الصحراء معرفة جيدة، يستعملون درّاجات نارية صينية الصنع، مشهود لها بالسرعة القصوى، مما يسهل عملية عبور الصحراء وتفقدها في أقل زمن.

مصير مجهول

تمرّ سيارات المهربين على مقربة من نقاط التفتيش بسلاسة، كما يمكنها أن تمرّ على مقربة من مقرّ القيادات الإدارية ومن أمام بيوت القائد والمقدم والشيخ (مساعدي رجال السلطة بالعالم القروي) بالسلاسة نفسها. وهنا تظهر قوة وطمأنينة كبار المهربين الذين يشغّلون هؤلاء. ويؤمن المغاربة بأن السلطات المحلية والمركزية لا تُخفى عليها خافية، وأن لسلطة المهربين قوة على رجال السلطة ومساعديهم بفعل الأموال والعطايا والهدايا، ويعرّفون الأمر بالقول "المهرب الفلاني شاري الطريق". وأما من يختار "سياسة" أخرى، فيدافع عن نفسه بشراسة لحظة تعرّضه لمطاردة لصوص أو رجال السلطات المعنية بتوقيفه. ويتم أحياناً استعمال الأسلحة النارية من قبل بعض المهربين. وقد شهدت البلدات والقرى الحدودية حرق المهربين لسيارات رباعية الدفع وهي محملة بمخدر "الشيرا"، بعد إصابتها بعطب تقني، واختفاء سائقيها عن الأنظار.

ويمكن أن يدفع المهربون حياتهم ثمنا لمغامراتهم، بتعرضهم لرشقات نارية من جنود الدولتين المجاورتين، أو بأن يزج بهم في غياهب السجون أثناء اعتقالهم في حالة تلبس أو اشتباه بممارسة التهريب أو ذكر أسمائهم أثناء التحقيق.

مهربون أبطرتهم النعمة

ظهرت أثار النعمة على بعض المهربين وارتقوا في السلم الاجتماعي المحلي وصاروا من علية القوم، وأضحوا يركبون السيارات الفارهة ويسكنون القصور الفخمة، وأقاموا حفلات باذخة بمناسبة تغير حالهم وأحوالهم. وانخرط آخرون في الأحزاب السياسية وأسسوا جمعيات خيرية وساهموا في تشييد بعض المساجد، وبلغوا مناصب سياسية عليا، وصاروا حديث القاصي والداني في ربوع البلد. أما داخل السجن فيحظى مهربو الصحراء بحماية من أباطرة المخدرات، يبعثون لهم بالأموال تباعاً، ويتكلفون بمصاريف عائلاتهم.

تنعدم محطات التزوّد بالوقود في البلدات المتاخمة للحدود المغربية الجزائرية بالصحراء الشرقية، ويباع هناك البنزين المهرب من دون انزعاج السلطات المحلية التي يطمئنها الموزعون بحكمة صوفية مغربية تعرف بعملية "دهن السير يسير"، وهي ذات مفعول سحري في لجم السلطات عن زجر المهربين والموزعين على حد سواء. تزود الحافلة التي تربط غرب البلد بصحرائه الشرقية بالوقود المهرب ليلاً. تنتهي العملية بسرعة ويدفع مساعد السائق الثمن المتفق عليه وتختفي سيارة المهربين في فيافي البيداء القاحلة، وهي منطفئة الأضواء.

ينظر الى القرى والمحافظات المتاخمة للحدود على أنها "غير نافعة"، وتعتمد السلطات المركزية على أبنائها للانخراط في صفوف الجيش، وذلك منذ قرون. لا زالت هذه القاعدة مستمرة اليوم فتشكل قرى الهامش خزاناً للشرطة والدرك والعاملات الزراعيات وخادمات البيوت.

تتغاضى سلطات بعض المدن التي تعرف قلاقل سياسية عن تعاطي الشباب للتهريب المعيشي مقابل الكفّ عن الحديث في الملفات السياسية المزعجة، وعلى رأسها قضية "الصحراء" السياسية التي توجد بها ثراوت طبيعية (يحد "الصحراء الغربية" المتنازع عليها المغرب من جهة الشمال، والجزائر من جهة الشرق، ثم موريتانيا من جهة الجنوب، فالمحيط الأطلسي من الغرب). المقايضة تقوم على غض الطرف عن التهريب المعيشي أو تلقي مشاريع بميزانيات ضخمة لشركات وهمية يرأسها مناضلون تائبون كرشوة، مقابل عدم الحديث عن المواضيع السياسية المحرمة وتنظيم المظاهرات والاحتجاجات.

تطلعات أبناء المغرب العميق

للحد أو للقضاء على ظاهرة التهريب المعيشي يأمل أبناء المغرب العميق من السلطات الحاكمة أن تنجز مشاريع تعود بالنفع على الناس وتحميهم من تعاطي التهريب المعيشي. يطالبون ببناء مؤسسات جامعية ومهنية تخص تقنيات الفلاحة، ومستشفيات، وحماية الواحات من الاندثار وهي التي شكّلت مصدراً مهماً لعيش الساكنة منذ قرون، وبناء السدود. ويطالبون باستفادة مناطقهم الحدودية من الثروات الطبيعية (كالذهب والفضة) التي تزخر بها.

كما يطالبون بتعويض المتضررين عما حيق بهم خلال سنوات النزاع أو الاهمال، وبسن سياسة إصلاح زراعي في "وادي درعة" الذي كان مصدر عيش للساكنة وسبق له أن صدر الحبوب إلى إنجلترا عام 1919، حسب ما ورد في الوثائق المحلية..

(*) الجنرال ليوطي كان أول حاكم للمغرب بعد احتلاله من 1912 حتى 1925

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه

المغرب والخمر

في المغرب، السكر السرّي حلال والسكر العلني حرام. وبوصول الحركة التي تخلط بين السياسة والدين إلى "شبه حكم"، عرف معدل استهلاك الخمور كما انتاجها ارتفاعاً.