أزعجناكم؟ لا اعتذار!

قرّر الغَزّيون أن حيواتهم، دمائهم، هي الأداة الوحيدة المتاحة لهم لكسر المعادلة الساحقة التي تُطْبق عليهم، أو هزّها وخمشها في أقل تعديل، ومحاولة جعلها تضطرب أو تتباطأ إن لم تتعرقل وتُحبط.
2018-05-17

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

مسيرات العودة الكبرى في غزّة، التي استمرت تتكرر أسبوعياً على مدى شهر ونصف، كانت تقصد التشويش (على الأقل التشويش) على احتفالات اسرائيل بعيد "تأسيسها" السبعين، وعلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس، التي قُدّمت كالهدية الأثمن في هذا "العيد"، ولو أنها ليست حركة رمزية فحسب بل هي تتجاوز ذلك بكثير..

كان الفلسطينيون في غزّة يعرفون تماماً أن المعادلة القائمة ساحقة. ليس أنها غير متوازِنة أو في غير صالحهم، بل: ساحقة. لألف سبب، على رأسها أننا اليوم بإزاء محصلة سياق تاريخي، بدأ فعلياً قبل أوسلو، وهو يطرح ثماره الآن. سياق بنيوي يخص حركة التحرّر الوطني الفلسطينية في طبعتها هذه، ويخص ما جُهِّز له عبر السنوات على الأرض منذ أوسلو على الأقل، وكذلك حالة الادقاع القائمة في المنطقة... ولكنه أيضاً سياق تاريخي يخصّ العالم الذي نعيش فيه، بأسره، صراعاته ومآلات دينامياته الكبرى التي اجتازت القرن العشرين.

كان الفلسطينيون في كل مكان يعرفون ذلك، إلا أنهم في قطاع غزّة تحديداً كانوا أمام حائط مسدود. إنعدام تام للأفق. يمكن لفلسطينيي الضفة الغربية واللجوء أن يجدوا مخارج أو مهارب، وإنْ بشعة وإن مُذلة، ويمكن لفلسطينيين 1948 أن يجدوا الكثير من المسارب. وكلها سيئة بالمعنى الانساني الشامل، ولكنها ممكنة. أما هؤلاء في "السجن الكبير المفتوح فحسب على السماء" - الملفت أن الناس تتداول التسمية ولا تستنتج منها شيئاً - هؤلاء، ارتسمت أمامهم الامكانية الوحيدة المتاحة: أن يقدموا حيواتهم، دمائهم، كأداة لكسر المعادلة، وإلا فلهزّها وخمشها في أقل تعديل، ومحاولة جعلها تضطرب أو تتباطأ إن لم تتعرقل وتُحبط.

لا تهمّ التفاصيل هنا، ومن قال ومن دعا ومن أحجم ومن ساوم. هذه لا بد من تفحصها غداً، عسانا نتمكن من الاقتراب أكثر ولو قليلاً من الهدف. غداً نتناقش وغداً نتحاسب. ولكننا اليوم نقف أمام مأساوية - بالمعنى التراجيدي الاصيل - قرار شبان وشابات غزة الذين خرجوا الى المواجهة. وهم نجحوا في جعل دمائهم تَطغى على رونق الاحتفال، وفي جعله ليس مطلق الحضور. ولكان مواتاً مرعباً وربما لسنوات لو لم يحدث هذا الاعتراض. وهو بالضرورة دموي بالنظر الى شراسة اسرائيل، والى منطقها الذي يفترض أن اليأس لا بد أن يحلّ في قلوب هؤلاء وإراداتهم بعد اتساع القتل وبعد تلمّس تخلي العالم، وأن الخوف معطى انساني.

اليوم نسجل إستنتاجاً واحداً: هؤلاء أدخلوا الى هذا الإطباق المرعب حبة رمل. وأن أعتى الاجهزة السياسية والاعلامية قرباً من إسرائيل، اضطرت الى عرض صورهم وسط الدخان الأسود الكثيف، صور بؤسهم ودمائهم على ثياب رفاقهم (كلهم بالمناسبة ما عدا قناة "العربية" السعودية التي تنبه راصدون لها أنها وكأنه لا وجود للحدث أصلاً: حتى ولا أن هؤلاء الشبان "غوغاء" مثلاً أو أن دماءهم تذهب هدراً.. لا! لا شيء، لا وجود!).

ونرفقه بتتمة له، تمهيداً لنقاش لا بد من حصوله: لا يوجد حل فلسطيني بحت للمسألة. هذه فرضية ليس لها قوام. لا بد من تبلور حركة فلسطينية صلبة ومدرِكة لمعطيات العالم. طبعاً. وحركة تعرف أن الامر لن يُحل بصفقات ومساومات. طبعاً. ولا تتخلى عن حقها في تمثيل هذا الشعب وتلك القضية. طبعاً، وإلا اندثر الشعب واستوعب بأشكال شتى واندثرت قضيته (وهذا يبقى احتمالاً ممكناً فقد سبق له أن حدث في ظروف وأماكن أخرى، ولا تحمي منه - للمتوهمين أو لاصحاب الاطمئنان - قدسية المكان). ولكن وبما أن إسرائيل معطى دولي، نشأة ومسيراً وحاضراً، فإن حلّ المسألة الفلسطينية لن يتم بواسطة قوى ابنائها وحدهم، مهما كان تصميمهم. الفلسطينيون في قلب معركة كبرى، هم وقضيتهم نواتها، وتقع عليهم مسؤوليات جسام، ولكن لا أحد يفترض انهم سيتولون هذا الامر بمفردهم. ولا بد لجهد تلمس طريق الاستمرار في المواجهة وكسبها أن يدخل ذلك في حساباته.

لم تنته الخطة الأميركية - الاسرائيلية عند حد نقل تلك السفارة، وأن يُظهِر نتنياهو عدم اكتراثه وأن يؤيده ترامب في الاستخفاف بالمذبحة المرتكَبة على غزة. لعل الأسابيع القادمة تحمل إلينا صور عربٍ شتى، وبالأخص من حكام الخليج، يخرجون من مخابئهم، كما دعاهم الى ذلك ليبرمان، ويأتون متبخترين الى اسرائيل. فقد قالوا انها ليست هي المشكلة وأنهم حلفاؤها بمواجهة إيران. قد يتعمدون ذلك للدفع الى مزيد من التيئييس. وهذا سلاح حقيقي ملموس تستخدمه القوى المهيمنة مجدولاً مع الافقار والقمع لتأبيد سيطرتها.

مقالات من فلسطين

"آرت زون فلسطين" واستعادة الفنّ من الإبادة

2024-12-05

يدخل هذا الجهد في باب مقاومة محو الأثر الفلسطيني، ومنه الأثر الفنّي والثقافي، الغني والغزير والمتجدد. ومهما بلغت نسبة ما ضاع من هذه الأعمال، فما بقي، ومَنْ بقي، يقول "نحن...

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

للكاتب نفسه

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...