في الثالث من هذا الشهر رنّ جرس هاتف صديق يوسف، القيادي في الحزب الشيوعي السوداني، وطلب منه المتصل الحضور إلى مباني جهاز الأمن والمخابرات مساء ذلك اليوم. أعتذر صديق مضيفاً انه عادة لا يقود سيارته في الليل. ردّ المتصل انهم سيبعثون له سيارة لتحضره. وعندما ذهب صديق الى مباني جهاز الامن وجد نفسه ازاء مفاجأتين: أولاهما وجود سكرتير الحزب الشيوعي محمد مختار الخطيب بصحبه أربعة من أعضاء اللجنة المركزية الذين تمّ إحضارهم من سجن كوبر الشهير بعد اعتقالهم إثر اندلاع مظاهرات في كانون الثاني/ يناير الماضي نتيجة لقرارات حكومية برفع الاسعار. أما المفاجأة الثانية فكانت عندما أخبروه انهم سيلتقون بمدير جهاز المخابرات صلاح عبد الله المعروف باسم صلاح قوش.
المفاجأتان أنتجتا مفاجأة ثالثة وهي أن اجتماع مدير جهاز الامن بالقيادات الشيوعية تمّ الاعلان عنه وعما دار فيه، بداية عبر بيان للمكتب السياسي للحزب الشيوعي نفسه وليس عن طريق جهاز الامن أو أي من المواقع الاعلامية الحكومية. قال قوش للمجتمعين أن لقاءه هذا معهم ليس حواراً لأنهم معتقلون لدى الجهاز وان الحوار سيتم في جو ديمقراطي، وانه يود إيصال رسالة إليهم بأن الدولة لديها الارادة للاستمرار في الحوار مع مختلف القوى السياسية وتحسين البيئة بما يسمح بالمشاركة. وأشار الى أن أهم مهدِّدات الامن القومي تتمثل في الأزمة الاقتصادية والصراعات الاثنية والعرقية. ولهذا لن تتسامح السلطة تجاه أي حزب سياسي مسجل في الداخل إذا ما تحالف مع حركات تحمل السلاح، كما انها لن تتخلى عن الآليات التي بيدها، كسلطة الاعتقال وغيرها، لمقابلة التهديدات التي تواجه البلاد. واضاف انه يطلب من قيادة الحزب الشيوعي ان تعيد النظر في شعارها القاضي بإسقاط النظام وأن تنخرط في عمل سياسي، وهو ما رد عليه الشيوعيون بالقول انه من المهم توفير المناخ الديمقراطي، وانهم يرفعون شعار إسقاط النظام عبر الوسائل السلمية وبعد أن سد هذا النظام الطريق أمام ممارسة ديمقراطية راشدة عبر صناديق الاقتراع. وأختُتم النص بخبر أنهم فهموا انه سيتم إطلاق سراح بقية المعتقلين السياسيين في غضون 48 ساعة، تزيد أو تنقص قليلاً. وبالفعل بعد أسبوع من ذلك اللقاء تم أطلاق سراح 57 معتقلاً.
تقسيم المعارضة
بعض القوى السياسية المعارضة انتقدت الخطوة على أساس انها جزء من استراتيجية الحكومة للعمل على تقسيم المعارضين. ويشير هؤلاء الى انه في شباط/ فبراير الماضي، أطلق النظام المعتقلين من منسوبي "حزب الامة". وفي رسالة لا تخطئها أعين المراقبين، قام مساعد رئيس الجمهورية عبد الرحمن الصادق المهدي بالذهاب الى سجن كوبر لإعلان الخبر واستقبال المفرج عنهم. وعبد الرحمن هو ابن الصادق المهدي القيادي المعارض المعروف، وقد أنتخب مؤخراً رئيسا لـ"تجمع نداء السودان" المناوئ للحكومة اثر اجتماع في باريس ضم أيضاً بعض الحركات الرافعة للسلاح. على أن التحاق عبد الرحمن بالنظام تمّ نتيجة لخياره الشخصي، ولا يعبّر عن والده ولا عن حزب الامة كما أعلن الاثنان.
ترؤس الصادق المهدي للتجمع المعارض أثار الحكومة التي قامت بفتح بلاغات جنائية ضده، تنتظره فيما إذا عاد الى السودان، وذلك على أساس ان حزبه مسجل داخل السودان ويمارس نشاطه، وبالتالي لن تقبل الدولة بتحالفه مع حركات ترفع شعار إسقاط النظام عبر البندقية.
منتقدو الحكومة يرون في هذه الخطوة تأكيداً على قناعتهم باعتماد النظام استراتيجية تقسيم المعارضة ويستدلون على ذلك بواقعة ان نصر الدين الهادي المهدي نائب رئيس "الجبهة الثورية" التي تضم حركات "دارفور" المتمردة و"الحركة الشعبية ــ شمال"، وتعتمد البندقية لإسقاط النظام، عاد الى السودان ولم يعتقله أحد، وحتى لم يتم استجوابه عن أنشطته المعادية في الخارج. لكن من الواضح ان الثقل السياسي للصادق المهدي وعلاقاته الداخلية والخارجية لا يمكن مقارنتها بما لدى ابن عمه نصر الدين.
خارج الصندوق
وبغض النظر عن أهداف الحكومة من هذا التعامل "القطاعي" مع المعتقلين السياسيين، الا ان طريقة إخراجهم تلفت النظر لجهة عدم تقليديتها، وهو ما يصب فيما أطلق عليه مدير المخابرات صلاح قوش أنه "ضرورة التفكير خارج الصندوق". قوش الذي تخرج من كلية الهندسة في جامعة الخرطوم تدرّج في مختلف المناصب في أجهزة أمن النظام ولعب دوراً أساسيا أبان المواجهة بين عراب النظام الأيديولوجي الراحل الدكتور حسن الترابي والرئيس عمر البشير، فيما عرف باسم ـ"المفاصلة" في 1999، وذلك بتحييد العناصر التي كانت تدين بالولاء للترابي في أجهزة الدولة والأمن على وجه الخصوص، كما أقام علاقات وثيقة مع أجهزة المخابرات الاقليمية والعالمية، وقام بتوحيد جهازي الامن الداخلي والخارجي وترأس الجهاز الموحد لفترة خمس سنوات حتى اقالته.
في مطلع هذا العام أجازت الحكومة برنامجاً اقتصادياً تقشفياً قاسياً شمل تخفيض العملة وزيادة أسعار العديد من السلع الاساسية، بما فيها الخبز، الأمر الذي أدى الى تفجّر موجة من المظاهرات والاحتقان في المشهد السياسي والاقتصادي العام.
لكنه في العام 2009 فقد منصبه في إطار صراع مراكز القوى حول البشير، حيث أعفي وكلّف بمنصب جديد هو مستشار الأمن القومي. ومن موقعه ذاك بدأ رحلة التعاطي مع مختلف القوى السياسية، بما فيها تلك المعارضة، وذلك بهدف بلورة إجماع وطني على بعض القضايا الاساسية. لكن مسعاه ذاك أجهض أيضا من قبل منافسيه، خاصة دكتور نافع علي نافع، الرجل الاول وقتها في "حزب المؤتمر الوطني" الحاكم، أذ اعتبر نشاطه ذاك منافساً لما تقوم به الحكومة وحزبها، وكان أن حُلت مفوضية الامن القومي تلك، وتوقف نشاطها وأصبح قوش مجرد نائب في البرلمان.
الأمر لم ينته عند هذا الحد، وإنما اتُهم قوش مع آخرين من بعض المحسوبين على النظام بالتخطيط للقيام بانقلاب، الامر الذي أدى الى اعتقاله وبقاءه في السجن لعدة أشهر. وفيما بعد تمّ العفو عن كل المجموعة استناداً الى ما أسهمت به من قبل في دعم النظام. لكن خلال فترة التقلبات الكبيرة هذه، ظل قوش محتفظاً بولائه للبشير وحزب المؤتمر الوطني ونظام الإنقاذ عموماً.
متاعب السودان السياسية تتمظهر اقتصادياً
09-12-2016
في مطلع هذا العام أجازت الحكومة برنامجاً اقتصادياً تقشفياً قاسياً شمل تخفيض العملة وزيادة أسعار العديد من السلع الاساسية، بما فيها الخبز، الأمر الذي أدى الى تفجّر موجة من المظاهرات وإلى الاحتقان في المشهد السياسي والاقتصادي العام. ومع أن الحكومة استمرت في برنامجها الاقتصادي، الا ان البشير قام بخطوتين مهمتين، وهما إحداث تغيير في إدارة الحزب الحاكم وكذلك تعيين صلاح قوش لإدارة جهاز الأمن بعد أن غادره قبل تسع سنوات. وبهاتين الخطوتين هدف البشير الى تعزيز نشاط الحزب من ناحية، واعادة رجل قوي مثل قوش الى إدارة جهاز الامن ليلعب دورا محوريا في ترتيب الوضع في وجه تحديات داخلية وإقليمية وخارجية متصاعدة.
بغض النظر عما يمكن أن يؤول اليه الوضع لجهة تهيئة البيئة السياسية لنوع من الوفاق الوطني، إلّا أن هناك جانباً يبدو أنه سيكون بنداً ثابتاً وأساسياً بالنسبة لأي تحرّك، وهو إعادة انتخاب البشير رئيسا للجمهورية، مع ما يتطلبه ذلك من تعديل للدستور.
الكثيرون يركزون على ما سيفعله الرجل والى أي مدى سيستثمر تجربته في مجالي مستشارية الأمن القومي والأعمال بعد إبعاده عن المناصب الرسمية. فالتركيز سيكون بصورة رئيسية على إمكانية ترجمة جهوده إبان المستشارية الى برنامج عملي على أرض الواقع، خاصة فيما يتعلق بالانفتاح على القوى السياسية الأخرى. ويمكن أن يساعد في ذلك أن الدولة تولت برنامجاً للحوار الوطني رغم اعتراض الكثير من المعارضين على الطريقة التي أدير بها، بل وحتى على كيفية تنفيذ مخرجاته. لكن برنامج الحوار الوطني ذاك أصدر وثيقة تعتبر برنامجاً للحكومة الحالية التي تمّ تشكيلها على أساسه، وتضم في جنباتها العديد من الاحزاب والقوى السياسية غير المؤتمر الوطني، ولو ان معظمها منشق عن أحزاب رئيسية معارضة.
وبغض النظر عما يمكن أن يؤول اليه الوضع في تهيئة البيئة السياسية الى نوع من الوفاق الوطني، إلّا أن هناك جانباً يبدو أنه سيكون بنداً ثابتاً وأساسياً بالنسبة لأي تحرك، وهو إعادة انتخاب البشير رئيسا للجمهورية، مع ما يتطلبه ذلك من تعديل للدستور. وهناك سبب إضافي - عدا تقليد التمديد الذي أصبح شائعاً في العالم - يتمثل في الاتهام الموجه له من قبل المحكمة الجنائية الدولية، حيث أثبتت التجربة أن موقعه رئيساً للجممهورية أصبح أحد أقوى أسلحته في مواجهة المحكمة وذلك على أساس الحماية التي يتمتع بها الرؤساء.
السودان: سؤال الهوية قناع للعجز
18-07-2012