لا يزال السياسي السوداني حسن الترابي الذي توفي مطلع هذا الشهر، يثير الخلافات في مماته كما كان في حياته السياسية الحافلة: هل بلغ عدد الذين شيّعوه 70 ألفا أم فقط ثلاثة آلاف؟ هل سيستمر "حزب المؤتمر الشعبي" الذي أسسه بعد مفاصلته مع الرئيس عمر البشير في العمل السياسي أم سينزوي؟ هل ستتحقق وحدة الإسلاميين؟ وهل سيصل الحوار الوطني الذي ابتدره البشير قبل أكثر من عامين للتوصل إلى توافق سلمي في معالجة مشكلات البلاد، وشكَّل الترابي الحضور السياسي الأبرز فيه من خارج الحكومة، أم ينتهي أمر ذلك الحوار كما انتهت غيره الكثير من التحركات السياسية لنظام "الإنقاذ" الحاكم في السودان.
"لا زعامة للقدامى"
بغض النظر عن الإجابات، فمن الواضح أن موت الترابي مؤشر إلى نهاية مرحلة في تاريخ السودان. مرحلة ما بعد ثورة تشرين الأوّل/ أكتوبر 1964 الشعبية التي أطاحت بالحكم العسكري الأول، ومن شعاراتها "لا زعامة للقدامى"، وهو الشعار الذي لم يقتصر على تحجيم آباء الاستقلال أمثال الزعيم اسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب.. وفي ما بعد إبعادهم، وإنّما تدافعت موجات هذا الشعار لتصل إلى قلب الأحزاب الطائفية التقليدية، فيقود الصادق المهدي ثورة داخل "حزب الأمّة" للفصل بين الإمامة التي كان يتولاها عمه الهادي المهدي ورئاسة الحزب التي تولاها هو، ثم إطاحته بالمحجوب ليتولى الصادق رئاسة الوزارة وهو في الثلاثين من عمره.
"ثورة أكتوبر" لم تقتصر على الإطاحة بالعسكر، وإنما فتحت الباب أمام تدفق الأفكار الكبيرة المرتبطة باليسار الذي كان متسيّدا للساحة وقتها، خاصة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي، والالتفات إلى قضايا التنمية بعد أن كان الجيل السابق يرفع شعار "تحرير لا تعمير". وكان أن تمّ انتخاب أول امرأة في البرلمان السوداني بعد خفض سن الاقتراع، وحصد اليسار غالبية المقاعد المخصصة للخريجين. على أن الملعب السياسي شهد وقتها صراعاً عنيفا بلغ ذروته بحل "الحزب الشيوعي" وطرد نوابه في البرلمان، وهي الخطوة التي لعب فيها الترابي وحزبه دوراً رئيسياً، ثم انتقل للضغط على الحزبين الكبيرين "الأمة" و "الاتحادي الديمقراطي" المستندين إلى طائفتي الأنصار والختمية الدينيتين، لتبني أطروحة "الدستور الإسلامي" في بلد يتميز بتعدد ثقافي وديني وعرقي، وهو ما وضع الحرب الأهلية الجارية في اتجاه التصعيد. كما أنّ قفل باب العمل السياسي الشرعي أمام الشيوعيين واليسار عموما دفعهم إلى تبني الطريق الانقلابي وواجهته جعفر النميري الذي تولى السلطة في العام 1969 وكان من أولى قراراته تمزيق مسودة الدستور الإسلامي التي كان يجري العمل على إجازتها، ووضع القيادات السياسية ومن بينها الترابي والمهدي في المعتقل.
الاستراتيجي والتكتيكي
تميز الترابي بخاصية القدرة على الجمع بين الإستراتيجي والتكتيكي، مع براغماتية صقلتها دراسته في جامعتي لندن والسوربون إلى جانب خلفيته في اللغة العربية والشريعة الإسلامية. ووظف كل هذه المهارات في سبيل هدفه الرئيسي وهو إعادة الدين الى قلب الحياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق مفهومه الخاص لذلك، ومهما تطلب ذلك من مواقف. لذا لم يستنكف الترابي، وهو الإسلامي الحركي، عن أداء القسم نائبا للأمين العام للاتحاد الإشتراكي أمام النميري في إطار صفقة المصالحة الوطنية التي تتيح له فسحة من العمل الحر لبناء تنظيمه بطريقة مؤسسية، عبر أذرع مالية وإعلامية وتنظيمات في مجالات الشباب والمرأة والطلاب، التي ظلت الرافد الرئيسي والقاطرة ونجحت في تحويل تنظيم نخبوي وطلابي إلى حركة سياسية تحتل الموقع الثالث في آخر برلمان يتم انتخابه بمنافسة حزبية تعددية في العام 1986، على الرغم من أن الكثير من القوى السياسية حمّلته مسؤولية تحالفه مع النميري في سنوات حكمه الأخيرة، وعبرت عن سخطها عليها بتحالفها ضده في الدائرة التي ترشح فيها، وأسقطته.
لكن الرجل الذي طلب القوة والسلطة عبر مختلف السبل، لم يهدأ، واستغل قدرات حزبه المالية والإعلامية والتنظيمية ليشكك في قدرة حكومة الصادق المهدي الائتلافية على الحكم، بل وفي التجربة البرلمانية كلها، خاصة في ظل اتساع الحرب الأهلية في جنوب السودان والتهديد المتنامي لحركة التمرد التي كان يقودها جون قرنق. وهذا هيأ المسرح للترابي ليقوم بقفزته الأخيرة وهي انقلاب 1989، وواجِهته العميد وقتها عمر البشير، وذلك باستغلال بعض الأجهزة الفنية في القوات المسلحة حيث له بعض الكوادر الملتزمة، إضافة إلى عناصر حزبية مدنية شاركت في العملية. وبتلك الخطوة انفتح الطريق أمام الترابي ليهيمن على المسرح السياسي لعشر سنوات، ويصبح أول حركة إسلامية سياسية تصل إلى السلطة، ولو أن هذا الوصول تمّ عبر انقلاب عسكري.
من أولى القرارات التي اتخذتها السلطة الانقلابية الجديدة حل الأحزاب. ومن باب التمويه، شمل الحل "الجبهة الإسلامية" بل واعتقال زعيمها الترابي مع بقية رؤساء الأحزاب. لكن المفارقة أنّه في الوقت الذي لجأت فيه بقية الأحزاب إلى العمل السياسي السري كما هو متوقع، فإنّ التنظيم الوحيد الذي تقيّد بقرار الحل كان "الجبهة القومية الإسلامية"، وأصبح الترابي هو المرجع الشخصي في كل شأن يخص الدولة.
عقد من السلطة المطلقة
لفترة السنوات العشر التالية، كان الترابي محور السلطة بلا منازع، بل وصل الأمر أن البشير كان يسمع ببعض القرارات من المذياع إثر تصريحات للترابي، مثلما أبلغ هيئة الإذاعة البريطانية مرة عن حل مجلس قيادة الثورة الذي يترأسه البشير وليس للترابي أي صلة به! وكان هذا مقتل الترابي الذي وجد، كما صرح مرة، أن الفقه الموجود لا يلبي أكثر من ربع احتياجات الدولة الحديثة. لكن مع غياب مناخات الحرية التي تسمح بالتدافع الفكري والسياسي، وانشغال طاقم التنظيم بإدارة الدولة التي سيطر عليها على حساب الجهد الفكري وترجمة الشعارات إلى كيفية مواجهة قضايا الحرب الأهلية والتنوع العرقي والديني والثقافي، وإلى معالجة الهموم الاقتصادية والعلاقات الخارجية.. كانت النتيجة تبدد الزخم الذي حمل الإسلاميين إلى السلطة واحتراق الشعارات على أرض الواقع. ومن ثَمّ أصبح الصراع عاريا على السلطة، لا بين الترابي وخصومه من غير الإسلاميين، وإنما بينه وبين العسكريين وتلامذته أنفسهم. وهي تجربة خاضتها أنظمة مؤدلجة من قبل، في سوريا والعراق، وكانت الغلبة فيها دائماً للعسكريين. وهي الوضعية التي لخصها قرنق في واحدة من تعليقاته الساخرة من أن "الثورات عادة تأكل أبناءها، لكن أبناء الإنقاذ أكلوا آباءهم"!
في العام 1999، ولإرسال رسالة واضحة لا لبس فيها، اعتمر البشير لباسه العسكري وأعلن حل البرلمان الذي كان يترأسه الترابي، ووضع حراسا على مقر "حزب المؤتمر الوطني" الذي كان الترابي أمينه العام، والحراس لم يترددوا في منع رئيسهم السابق من الدخول. لم يجد الترابي مفرا من تأسيس حزب جديد هو "المؤتمر الشعبي"، بعد أن قرر غالبية تلامذته البقاء في حزب السلطة، "المؤتمر الوطني". استمد الحزب الجديد قوته من الترابي وتاريخه أكثر من طرحه لأي برنامج جديد يتمايز عن تجربة الإنقاذ، ومع غياب كامل لأي جيل جديد ليتسنم زمام القيادة.
أزمة القيادة (التي يكشفها غياب الترابي) مؤشر على المخاض الكبير الذي تعيشه الساحة السياسية، وتغيب عنه الشخصيات التي ظلت مسيطرة على المستوى الحزبي والقومي في الحكم والمعارضة لنصف قرن.. وهي تشهد احتراق الشعارات. فالترابي برز في "ثورة أكتوبر" في طرحه قضية الحرية لمعالجة مشكلة الجنوب، لكن الفترة التي هيمن فيها على السلطة شهدت أكبر انتهاك للحرية في تاريخ السودان. والمهدي رفع شعار فصل الإمامة عن السياسة، وانتهى به الأمر إلى ضم الاثنين تحت قيادته. وواقع الحال يشير إلى أن الحزبيين التقليديين، الأمة والاتحاديين، هما على طريق توريث قياداتهم. واليسار يكاد يكون خارج التأثير تماما بسبب الضربة التي تعرض لها إثر فشل انقلاب 1971 وانهيار تجربة المعسكر الشرقي وما لحق بالبعث والناصرية.. وأما "حزب المؤتمر الوطني" الحاكم، فعلى الرغم من تقاعد العديد من شخصياته القيادية خلال العامين الماضيين، إلا أن غياب البرنامج وغياب مناخ الحرية الذي يسمح بالتدافع لبروز قيادات جديدة، يجعله في حالة ضعف مثل الآخرين، ويجعل الساحة مفتوحة على مختلف الاحتمالات.