تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
هناك المصبّ، بل المصبّات، وهي أسواق عشوائية على أرصفة جل شوارع مدن المغرب. وهنا المنبع. هنا مدينة سبتة التي تحتلها إسبانيا. وبين المكانين مسار سلع وقصص نساء حمّالات.
للمدينة باب ضيق للتهريب العلني، يسمى بالإسبانية معبر "تاراخال". المنبع واحد في سبتة المغربية المحتلة منذ ستمئة سنة. باب صغير وزحام فظيع، وشرطة عاجزة عن تنظيم المكان من كثرة الاكتظاظ..
"البغلات"
آلاف النساء يحملن على ظهورهن حزماً ضخمة، فيها ملابس مستعملة وشوكولاتة.. منظرهن صادم ومدهش. نساء تسميهم وسائل الإعلام "البغلات". حصل احتجاج حقوقي وإعلامي على تلك التسمية، فتراجع تداولها في وسائل الإعلام، لكن ما زال الشعب يستخدمها.
يقدر عدد النساء "البغلات" بحوالي تسعة آلاف امرأة مهرِّبة. وتُظهر الصور التي التقطت قبل منع التصوير مساحة شاسعة متراصة من تلك الحمّالات. صور مشحونة بالدلالة، وفيها رجل شرطة يحاول توجيههن.
تهريب باتجاه واحد، من سبتة المحتلة إلى المغرب.. وهو ما يُرى من جبل جليد الاقتصاد الموازي، الذي يلعب دورا كبيراً في الاقتصاد والمجتمع المغربيين. الأنشطة الاقتصادية الموازية تجري في مجالات عدة أهمها العقار الذي يبيض ذهباً بفضل التهرّب الضريبي وإخفاء السعر الحقيقي عند الشهر العقاري. وحسب دراسة صدرت في نيسان/ أبريل 2018، عن "الاتحاد العام لمقاولات المغرب"، يمثل القطاع غير المهيكل 20 في المئة من الناتج الداخلي الخام و20 في المئة من الواردات، وهو مؤثر في 54 في المئة من الأنشطة الخاصة بالنسيج والملابس و26 في المئة من الصناعة الغذائية، ويشغِّل مليونين و400 ألف إنسان، ما يمثّل 36.3 في المئة من سوق الشغل في القطاعات غير الفلاحية على المستوى الوطني.
يسهِّل موقع المغرب القريب جداً من أوروبا تدفقا مستمرا للسلع: 14 كيلومتراً في عهد السفن والزوارق السريعة ليست مسافة معرقِلة.
بسبب كثرة السلع في "سبتة"، تأتي النساء من أغلب مناطق المغرب، من أحياء شعبية وعشوائية نشأت حديثاً حول المدن، وممن هربن من البادية. نساء في الخمسين من العمر يفضلن تجارة صغيرة على العمل في الحقول. يعدن كما أتين في حافلات تحمل السلع كالشاحنات، ينمن في الطريق، وكلما تم توقيف الحافلة نزل مساعد السائق لـ"طمأنة" رجال الدرك...
يمارسن "التهريب المعيشي" حسب المصطلح الرسمي المعقم. تصل سلع النساء إلى مصبات كثيرة لا حصر لها، عبارة عن أسواق شعبية عشوائية يفترشن فيها الأرصفة ويعرضن بضائع مجلوبة من الغرب، تحمل ماركات غير مغربية، من ملاءات وأحذية وجبنة وصباغ أظافر..
هذا التهريب هو الشكل الأكثر وضوحاً للاقتصاد الموازي. وهو اقتصاد "أرضي" يتأثر بالتراب والطقس والزحام. يصعب المرور في ما يسمى "أسواق الشمال" التي توجد في المدن المغربية.. في مدينة عملاقة كـ"الدار البيضاء" وفي مدينة صغيرة مثل "تيفلت" (سبعين كيلومتر شرق الرباط). في كل الأمكنة أمهات يُعلْن شباباً عاطلين عن العمل. "التضامن العائلي" يعني أن امرأة تعمل وتنفق على أشخاص كثيرين يأكلون مجاناً.
ما الذي يجعل القطاع غير المهيكل "ضرورياً"؟
ضعف القدرة الشرائية لدى الناس، عدم توفر مناصب شغل مع سيادة "بطالة مقنعة"، أي تشغيل ذاتي موسمي ترقيعي..
اسم القطاع الموازي الشائع شعبياً هو "الأسود". وهو يدير سلعاً مجهولة المنشأ أي ليس لها وثيقة تثبت مصدر صنعها أو استيرادها. ويستخدم وحدات إنتاجية غير مصرح بها، مموهة ودون سجل تجاري، ويتم فيه التعامل بالمال خارج القطاع البنكي، ويجري التعامل التجاري في فضاءات عشوائية. لا يدفع هذا القطاع الضريبة، يعمل فيه أفراد غير مسجلين في التغطية الصحية والتقاعد.. ويمتد هذا النشاط من بيع ملابس مهربة بعشرات الدولارات على الأرصفة إلى شبان في قلب الرباط يقفون في الزوايا يخاطبون المارة: صرف صرف، وهم يتاجرون بالعملات الصعبة، وصولاً إلى ضيعات في منطقة "عين حرودة" شمال الدار البيضاء، فيها مصانع سريّة تخرج منها شاحنات محملة ببضائع جلها نسيج وملابس بمئات آلاف الدولارات تكشف عن رواجها السيارات الفخمة التي تتجول في المنطقة وتخرج من تلك الضيعات. واضح أن السلطة تعرف وتتجاهل ما يجري.. كل هذه مسارات للكسب، أو للوصول للرزق، وكل فرد وقدرته وإمكانياته.
عملياً يصعب تقصّي كل أشكال الاقتصاد الموازي في المجال المغربي الذي يناهض صحافة التحقيق والتقصي، لذلك نتتبع حالة "الحمّالات"، التي تطفو على وسائل الإعلام كلما حصل زحام ووفاة في المنبع، "باب سبتة". وفي المصبات العديدة، تعمل النساء على ترويج السلعة بأسرع طريقة ممكنة لأن الرأسمال القليل لا يطيق دورة بطيئة. لذلك فالنساء في السوق يصبرن على الرصيف أو قرب جدار، ينتظرن بعناد ولوقت طويل تصريف ما لديهن..
التهريب ليس صدفة
احتلال الشارع للتجارة مسموح به، مرخّص به شفوياً، والتهريب كذلك. أحياناً تُحجز بضائع مهربة في قلب المغرب على بعد ألف كيلومتر عن الحدود. لا يسأل أحد كيف وصلت السلع إلى هنا؟ ولماذا تُحجز هذه دون تلك. غالباً ما يفسر ذلك كعقاب انتقائي ضد طرف ما لم يقم بالمهام المنتظرة منه. مثلاً قلّ تهريب الحواسيب منذ اندلاع احتجاجات الحُسيمة. بدأ تطبيق القانون.
أحياناً تُحجز بضائع مهربة في قلب المغرب على بعد ألف كيلومتر عن الحدود. لا يسأل أحد كيف وصلت السلع إلى هنا، ولماذا تُحجز هذه دون تلك. وغالبا ما يُفسّر ذلك كعقاب انتقائي ضد طرف لم يقم بما هو "منتظر" منه..
وهذا النشاط الاقتصادي قديم في المغرب، فقد بدأ التهريب الى المغرب منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى الربع الأخير من القرن العشرين كان التهريب مسألة نخبة تحتاج سلعاً عالية الثمن.. مثل الويسكي. في بداية القرن العشرين صارت السلع تدخل بشكل علني قانوني وقد فتحت ماركات عالمية فروعاً لها في المغرب، فتراجع التهريب المربح لأصحاب المال، وبقي التهريب المعيشي الذي تمارسه النساء الفقيرات. لن تهرب النخبة الاقتصادية ملابس مستعملة بل النادر والغالي.
الاقتصاد غير المهيكل "أسود" بالنسبة للجابي، لجامع الضرائب. كل ما لا تديره البنوك وفيه رواج رؤوس أموال وديون خارج المؤسسات المالية، وخوف من وضع الأموال في البنوك.. إحصائياً تأسست بالمغرب حوالي أربعين ألف وحدة إنتاج سنوياً في القطاع غير المهيكل منذ 2007، كما أن رقم معاملات القطاع غير المهيكل ارتفع بنسبة 6.5 في المئة سنوياً منذ سنة 2007، وتظل المهن التجارية أكثر ما يُدر دخلاً على أصحاب المشاريع غير المهيكلة لذلك يطالب الاتحاد العام لمقاولات المغرب (نقابة أرباب العمل) الحكومة بدمج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد المهيكل.
لماذا يزدهر التهريب؟
يقبل المستهلك المغربي على كل ماركة غير مغربية ويعتبرها جيدة. وهذا سوق مشجع على التهريب. ثم أن النساء يتدبرن وضعهن، فقد تُرك الناس لرحمة أوضاعهم، والنساء في قاع الفقر، بلا تعليم أو موارد، وكل واحدة تشغل نفسها بالطريقة التي تستطيع.. في المغرب أكثر من تسعين بالمئة من الأملاك مسجلة باسم الرجال، يعني أن نصف المجتمع يملك فقط خمسة في المئة من الثروة.
"المقايضة" العامة تقول: إما تغاضوا عن التهريب أو شغّلونا. الدولة لا تسمع الطلب الثاني. وهكذا يظهر أن الحكومة المغربية مجبرة على الاختيار بين أن تجد شغلاً للشباب أو أن تسمح لهم بالهجرة (الحريق)، أو بالتهريب.
وهناك تفشي البطالة. أوصى تقرير رسمي الحكومة بتوفير 400 ألف منصب شغل سنوياً في كل المجالات لكن الاقتصاد لا يوفر إلا 200 ألف منصب. لذلك هناك 200 ألف يتدبرون أمورهم كيفما اتفق.. ولهذا تبعات. أعلن الملك محمد السادس بنفسه فشل النموذج التنموي المغربي في إحداث توزيع عادل للثروة، وهو "نموذج" تأسس وانطلق على أمل علاج الأعطاب التي كشفها تقرير التنمية العربية 2003. وبعد خمسة عشر سنة أعلن الملك أنه لا بد للمغرب من نموذج تنموي بديل. وكان توصيف محمد السادس للوضع أدق من توصيفات المعارضة.
ما الصلة بين مراقبة التهريب والاحتجاج؟
ما التجلي الأكثر وضوحا للفشل؟ الصورة معروفة ومكرورة: فجأة، وفي مكان غير متوقع بالمغرب، تندلع احتجاجات تترتب عليها مواجهات وتدمير أملاك عمومية، دخان، سيارات محروقة، اعتقالات بالجملة، محاكمات ماراتونية دون إصدار أحكام.. وتنتشر مواقف التنديد الممزوجة بالدهشة: لماذا يقع هذا على الرغم من أن المواطن عاقل ومسالم وبخير؟
مثلا، بعد توقف التهريب على الحدود الجزائرية، وتسييجها، كثرت القلاقل شرق المغرب ونشرت الصحف "مغاربة يطالبون بفرص عمل بعد منع التهريب عبر الحدود مع الجزائر". هنا تم وقف تهريب البنزين الذي يمارسه الرجال عادة.
"المقايضة" العامة تقول: إما تغاضوا عن التهريب أو شغلونا. الدولة لا تسمع الطلب الثاني. وهكذا يظهر أن الحكومة المغربية مجبرة على الاختيار بين أن تجد شغلاً للشباب أو أن تسمح لهم بالهجرة (الحريق) أو بالتهريب.
الشاب الذي قتل في شاحنة في الحسيمة في الثامن والعشرين من تشرين الأوّل / أكتوبر 2016 واندلعت على إثر مقتله حركة احتجاج اختلط فيها الاجتماعي والمطلبي بمشاعر اضطهاد على اساس مناطقي، كان مهرّب سمك ممنوع صيده ويباع خارج سوق السمك. هذه معلومة دُفع بها للخلف لأن التهريب صار حقا في المغرب.
حين تتدخل الشرطة لفرض القانون، ينظم الباعة وقفة يرفعون فيها صورة الملك. لتلافي الاصطدامات التي قد تتطور، تُعدّ الشرطة نقط مراقبة رخوة في الأيام الطيبة. وهكذا يتضح أن التغاضي عن التهريب المعيشي علاج استباقي للاحتجاجات. هذه صفقة مضمرة بين السلطة والمهربين المحتجين. على باب سبتة المحتلة التهريب مسموح والتصوير ممنوع.
نموذج آخر غريب للاحتجاج. فقد تراجع التهريب في نهاية 2017 وبداية 2018. توقف طويل بسبب فصل الشتاء، لكن الرأسمال الصغير لا يسمح بالتوقف، يحتاج الرأسمال الصغير دورة صغيرة. كتبت الصحف المغربية عن خروج محتجين داخل مدينة "سبتة" المحتلة لأن المهربين قلوا وفسروا ذلك بالفوضى والاكتظاظ، وطالبوا بتسهيل وصول طوابير الحمالات إليهم لتصريف سلعهم. موقع المغرب ثروة في حد ذاته، وهذا يقلل من فرص الانفجار داخل سبتة التي تقتات على التهريب. وقد استجابت لهم الحكومة الإسبانية في نيسان/ أبريل الجاري، وشرعت في إنجاز خط بحري بين سبتة المحتلة والمغرب للالتفاف على اكتظاظ المعبر. وهذا ما سيجعل الحمالات يتكيّفن مع الوضع للوصول الى السلع المهربة بطرق أخرى.
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.