جَرْدٌ رقميّ لتمارين الموت في العام المنتهي

صاحب دراجة يدور في المحور عكس عقارب الساعة، آخر يتجاوز شاحنة من جهة اليمين ثم يعرج بسرعة لجهة اليسار ليتلافى السيارة التي أمامه. النتيجة قطعة ثوب أبيض تغطي النصف الأعلى لجسمه وخيط دم أفعواني يمتد نحو السائق في انتظار سيارة الإسعاف.. على خلفية الشاحنة ومقدمتها كتابات وعظية مثل "احترم تُحترم" و "عين الحسود فيها عود" و "في العجلة الندامة"... تقف سيارة رياضية
2016-01-15

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
حسان حجّاج - المغرب

صاحب دراجة يدور في المحور عكس عقارب الساعة، آخر يتجاوز شاحنة من جهة اليمين ثم يعرج بسرعة لجهة اليسار ليتلافى السيارة التي أمامه. النتيجة قطعة ثوب أبيض تغطي النصف الأعلى لجسمه وخيط دم أفعواني يمتد نحو السائق في انتظار سيارة الإسعاف.. على خلفية الشاحنة ومقدمتها كتابات وعظية مثل "احترم تُحترم" و "عين الحسود فيها عود" و "في العجلة الندامة"...
تقف سيارة رياضية فاخرة في المنطقة السياحية، تخرج يد قذرة من النافذة وترمي علبة سجائر وبقايا علب وأغلفة شكولاتة. بعد دقائق تقلع السيارة فجأة فتصطدم بدراجة نارية قادمة بسرعة، يسقط سائق الدراجة وسط الطريق وتتدحرج دراجته.. يخرج صاحب اليد القذرة من سيارته وينتظر وصول الشرطة بينما صاحب الدراجة يتألّم.
هذه ليست أحسن لقطات فيلم السنة المنتهية، هذه وقائع تتكرر سبعين ألف مرة سنوياً في المغرب. حسب الكاتب الدائم "للجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير" تتسبب الدراجات النارية في أكثر من 40 في المئة من حوادث السير. وغالبا ماً يكون صاحب الدراجة الضحية، لأن هناك 900 ألف دراجة نارية "مجهولة الهوية" تجوب شوارع ربوع المغرب وليس لها تأمين، وكثيراً ما لا يضع سائقوها خوذات لحماية جماجمهم.
لا توجد العشوائية في المباني فقط، توجد في النقل أيضاً. وهذا جرد حسابي لتمارين الموت مجاناً، تشبه ما يعرض في الصحف كحصيلة العام المنتهي.
قتل الإرهاب والحرب الأهلية صفر مغربي في 2015. اللهم لا حسد. لكن حوادث السير تولّت قتل الآلاف. وحسب منظمة الصحة العالمية فقد قتل مليون وربع مليون شخص في حوادث السير عبر العالم. هذه نظرة على نصيب المغرب من دم الشوارع:
أصيب 55933 طفلاً في حوادث السير بين 2006 و2010 وقتل منهم 2088 طفلاً. في موقع اللجنة الوطنية لحوادث السير تتوقف الإحصاءات عند عام 2012 وكأن عداد اللجنة شاخ. يجري انتظار تقادم الأرقام لإعلانها ليكون وقعها خفيفاً. في نيسان/ابريل 2015 قتل 33 شخصاً جلهم أطفال في اصطدم حافلة بشاحنة للوقود فاحترقتا معا. بعد كل حادث كبير يعلن التلفزيون أنه تم فتح تحقيق لمعرفة الأسباب. وأحياناً يتقرّر أن السائق يتحمل المسؤولية. وتحرص وزارة النقل من جهتها على عقد "دورات ولقاءات نظرية وتطبيقية لتلقين أطفال المدارس مدونة السير ومختلف الأمور المرتبطة بالسلامة الطرقية، وكيفيات استعمال الطريق بالشكل الصحيح".
الوقائع التالية تبثت أن النتيجة صفر. ففي صيف 2015 أعلنت الشرطة ضبط 471 ألفاً و367 مخالفة لقانون السير والجوَلان. ويبدو أنه لم يكن أي سائق مخموراً. وتتوزع هذه المخالفات المرورية المسجلة بين عدم وضع حزام السلامة (58 ألفاً و283 مخالفة)، واستعمال الهاتف المحمول أثناء السياقة (47 ألفاً و558 مخالفة)، وعدم احترام إشارة الضوء الأحمر (43 ألفاً و70 مخالفة)، وعدم التوقف عند علامة "قف" (11 ألفاً و993 مخالفة)، وعدم احترام أسبقية اليمين (9 آلافاً و99 مخالفة)، والسير في الاتجاه المعاكس (2367 مخالفة)، والتجاوز في أماكن يمنع فيها ذلك (1148 مخالفة)، وعدم ارتداء الخوذة بالنسبة لسائقي الدراجات النارية (66 ألفاً و710 مخالفات).
هذا دون احتساب مخالفات لا تُحرَّر بسبب الاستعطاف والتباكي، والتي يُضطّر الشرطي للسكوت عنها، لأن المخالف حكى قصة قابلة للتصديق مثل أن أمه أجرت عملية جراحية في المستشفى أو مات والده... وإذا لم يثمر التباكي، يطالب السائق الذي تجاوز السرعة أن تعدل مخالفته لتصير "عدم وضع حزام السلامة"، لأن غرامتها أقل. وحين يكون السائق موظفاً، فالشرطي يقبل الطلب. والعلامة الأكبر على الغباء ان السائق الذي يخرق القانون يخشى أن تضبطه الشرطة أكثر مما يخشى أن تدهسه شاحنة. وكل هذا دون احتساب أنه مع تزايد التهديدات الإرهابية، ترك البوليس مراقبة تطبيق قانون السير والسرعة وركز على مراقبة البشر... ولهذا السبب توجد حملة شديدة لترقيم الدراجات النارية من مختلف الأنواع.
تشهد المدن المغربية، كمعدل، ألف حادثة أسبوعياً تكسر فيها ستون ألف سيارة سنوياً. حتى نيسان/ ابريل 2015 قتل 318 شخصاً. كانت الزيادة السنوية هي 15 في المئة مقارنة مع 2014. وغالباً ما ينتظر أن تكون حوادث الربيع والخريف أقل من حوادث الصيف، لكن ثمار الخريف تشبه ثمار الصيف.
في الأسبوع الرابع من شهر تموز/ يوليو 2015 قتل عشرون شخصاً وجرح 1685، إصابة 86 منهم بليغة. وفي الخريف خلال الأسبوع الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 قتل 17 وأصيب 1512 آخرون بجروح، إصابة 95 منهم بليغة. كان الخريف دامياً ايضاً.
حسب منظمة الصحة العالمية، قتلت حرب الطرق 6870 مغربي في 2014، بينما أعلنت وزارة النقل أن العدد هو 3831 شخصاً. للمقارنة، قتل 125 شخصاً في حوادث السير التي وقعت في النرويج سنة 2015. عدد سكان النروج 5 ملايين وعدد سكان المغرب 33 مليوناً أي أكثر من ستة أضعاف ونصف، ولكنهم في عدد الحوادث ثلاثون ضعفاً. وسائقو الأمة المغربية لا يتعظون:
عادة يندلع جدل بين سائقين في منعطف مظلم يعرقل السير ويتسبب في حوادث. سائقون متعجلون ينسلون من أزقة جانبية ليسبقوا غيرهم – إنه الإصرار على الذهاب في الممرات الضيقة لأن الفرد الحاذق لا يرى نفسه مضطراً للوقوف في طابور - فتستقبلهم شاحنة دموية. هذا دليل على فقر الخيال. لا يتوقع السائق قدوم شاحنة من الجهة العاكسة. يتصرف على أساس أن الطريق ملك له وحده ورثها عن أبيه.. خبر طريف يقول: قتيل في اصطدام دراجة نارية بعمود كهربائي في مراكش. لا يمكن اتهام العمود.
تكشف أخبار الحوادث مدى غباء السائقين، لكن موتهم يمنعنا من الشماتة بغبائهم. ومَن يقف في مفترق طرق ويرى التفنن في المخالفات سيندهش مما يمارسه السائقون الذين يعتبرون أنفسهم أذكى من غيرهم، والدليل أن تسعة وثلاثين في المئة من القتلى هم السائقون أنفسهم.
اليد القذرة لن تقود بطريقة سليمة. بوزبال الذي يحرص على نظافة سيارته ويلقي بالبقايا من النافذة يسبب الألم للآخرين. وطريقته في السياقة دليل على فقر الخيال. فهو مصاب بضعف التوقع وثقافته التنظيمية منعدمة. لذا يعفي نفسه من القوانين التي يعتقد أن على الآخرين تطبيقها، فيسقط آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى سنوياً من دون إرهاب ومن دون حرب أهلية في المغرب.
مع ذلك خرجت هذه الأرقام من دائرة التداول في حسابات توديع العام المنتهي، وتم التطبيع مع الدم المسفوح على الطرق. والأخطر أنه تم التطبيع مع العقلية التي تتسبب في موت ما معدله 17 شخصاً وجرح ألف أسبوعياً. لتنفيس السخط، أعلن وزير النقل عن مشروع لتقليل قتلى حوادث السير في 2025. في انتظار هذه المعجزة، يفسر الوزير جل الحوادث بـ "الخطأ البشري"، لكن إدماننا معارضة الوزراء تجعلنا لا نصدقه. صحيح أن هناك طرقاً متهرئة لكن السبب الرئيس هو البشر الذين يتوهمون أنّهم أذكى من القانون. 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه