يكاد المرء يظن أن دونالد ترامب إنما جاء الى البيت الابيض فقط من أجل شطب فلسطين عن جدول أعمال العالم! وذلك شعور مبرر من زاوية موقعنا في هذا العالم، ولكنه ليس صحيحاً بالطبع. فالرئيس الأميركي يرتكب جرائم في كافة المجالات، تلك التي تخص شؤون بلاده، وتلك الأخرى التي تخص العالم حتى ليكاد يُشعل حرباً نووية، وإن لم يفعل، فهو يهدم الانجازات القليلة التي تحققت.
لكن الأمر ليس متوقفاً على ترامب وقراراته. فالأرضية العامة مهيئة، وعلى كل المستويات، وفي كل مكان. وفيما يخصنا، وبخلاف الأساس وهو يتعلق بالتصفية المنهجية الممارسة على مدى عقود طويلة لكل طموحات مجتمعاتنا بالتحرّر والتقدم، وإرساء الخوف والإحباط العامين، تطالعنا كل يوم وثائق تثبت تورط الحكام في تواطؤات كان لا بد أن تقود إلى ما نحن فيه اليوم. وقد اعتاد قادة الغرب على ذلك الخضوع بحيث أن ترامب يجن جنونه اليوم لأن محمود عباس مثلاً ألغى لقاء بنائبه مايك بنس، وهو كان سيزور يزور المنطقة مباشره بعد اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل، ويهدد بأنه سيكون لذلك نتائج سلبية على الفلسطينيين!
كان يمكن بالطبع أن تمتلئ شوارع المدن العربية (على الأقل) بملايين المتظاهرين تنديداً بالقرار الأميركي، من دون أن يؤدي ذلك الى ضغط يمكنه ردع واشنطن أو تل أبيب. وقد حدث أن طافت شوارع العالم كله بالناس ــ بما فيها شوارع المدن الأميركية ــ قبل شن الحرب التدميرية على العراق في 2003، لكن الفريق الأميركي الحاكم آنذاك تجاهلها وقام بما أراد ثم اندثر، وعاد بعض أركانه ليعترفوا بعد ذلك، بتبرير كاذب، بأنهم "خُدِعوا"، فلا أسلحة دمار شامل ولا من يحزنون، من دون أن يترتب عليهم، نتيجة "غلطتهم" تلك، أي نتائج. بل أن توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني حليف أميركا في حربها تلك، وشريكها في فبركة الحجج وليس في الحرب العسكرية نفسها فحسب، كوفئ بتعيينه مبعوثاً لـ"الجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط" براتب مذهل، عدا المنصب والمكانة. ما يعيد إثارة سؤال الأدوات والوسائل، كونها تهدف بالأساس ليس فحسب الى إعلان موقف بل الى الفعل والتأثير... وهو سؤال مفتوح للنقاش في العالم كله، ويفتح النقاش على ما يتعداه.
اقرأ أيضاً: القدس.. كيف تُبنى العاصمة الإسرائيليّة؟
أما والحال هي تلك، فماذا ننتظر كخطوة مقبلة يرتكبها الأميركان والإسرائيليون؟ هدم الاقصى، وهو صار مسألة وقت. طرد الفلسطينيين من القدس بالتنكيل، ثم طردهم ومعهم سكان الضفة الغربية الى "ما وراء النهر" كما هددهم جنرال اسرائيلي كبير منذ أيام؟ اتهام فلسطينيي 1948 بالخيانة؟ ردود الفعل على قرار ترامب، سواء منها الأوروبية الرسمية أو العربية ــ الاسلامية، كما في قمة اسطمبول (التي تغلبت فيها الحزازات على حرج الموقف، فغابت عنها السعودية ومصر، أم انهما غابتا خشية كشف المستور؟) قد تبطيء ذلك السياق. تبطئه فحسب. ولكن المطلوب هو قلبه، حتى لا نُستعْبَد كلنا.
ولأن هذه الحال هي فحسب المظهر الخاص بنا ــ من ضمن مظاهر أخرى لا تقل عنفاً ــ عن التردي القائم، وهو غير حصري بمنطقتنا، فلعلها المرة الاولى التي تُطرح فيها الحاجة الفعلية لبلورة جواب شامل. التحليلات كثيرة، وهي دقيقة ولامعة في وصف وتشريح الوضع. فماذا بعد؟