يمكن إيراد مئة رواية لمحاولة تفسير تفرد ترامب بقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده اليها. يقال إن "شلدون ادلسون" ملياردير لاس فيغاس ومالك كازينوهاتها وممول المستوطنات الاسرائيلية منذ إنشائها، غضب بشدة لأن "صديقه"، الذي أصبح رئيس أميركا، تأخر كل هذا الوقت في تنفيذ وعوده الانتخابية، وذكّره بمئات الملايين التي أعطاها له على امتداد العام الماضي دعماً للحزب الجمهوري أثناء حملة الانتخابات الرئاسية، ثم عند تنصيبه رئيساً.
وبالمقابل، يقال أن صهر الرئيس الأميركي وكبير مستشاريه، جاريد كوشنر، الذي كان نتنياهو ينام في بيت أهله حين كان هو صبياً، والذي يدير أعمال عائلته وهي من أكبر المستثمرين العقاريين في بلاده، ودئبت منذ سنوات طويلة على التبرع لدعم المستوطنات، كوشنر هذا ليس سعيداً بالاعلان لأنه كان يدافع عن فكرة "صفقة القرن" التي أراد لها أن تُعلن أولاً، والتي أمضى من أجل إنضاجها وقتاً كبيراً خلال الاشهر الماضية، يتنقل مكوكياً بين تل أبيب والرياض، فتوصل، بناء على ما نقلته صحف عدة منها "نيويورك تايمز" منذ ايام وقبلها "التايمز" البريطانية ، الى اتفاق بشأنها مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي أبلغ محمود عباس في زيارته للسعودية الشهر الماضي بأن عليه الموافقة عليها.. وإلا سحب يده منه، وإلا فعليه أن يستقيل! وهي باختصار تعترف بشيء اسمه فلسطين يتألف من بعض أجزاء الضفة الغربية وتكون عاصمته ضاحية "أبو ديس" قرب القدس، فيما تذهب إدارة قطاع غزة الى مصر وإدارة سائر الضفة الغربية الى الأردن، وربما يُمنح الفلسطينيون المقبولون في الأراضي المتبقية بعد هذا التقسيم الجديد الجنسية الاسرائيلية، وتبقى المستوطنات طبعاً في مكانها، ويُنسى طبعاً أمر اللاجئين.. ويكون الشاطران بن سلمان وكوشنر قد وجدا حلاً بسيطاً للقضية المعقدة ليتفرغا من ثَم للعدو الرئيسي: إيران!
اقرأ أيضاً: سعوديون في إسرائيل.. التطبيع يحفر مجراه
صفقة القرن تلك تبدو متنازعة الأغراض، فبينما كوشنير ومن ورائه ترامب يريدان إسداء خدمة جليلة لإسرائيل، يعتبر الأمير السعودي أن فلسطين تفصيل صغير يمكن توظيفه لخدمة معركته الكبرى مع إيران، فيعطي ليُعْطى! وهو قانون البزنس الصحيح. سوى أن بن سلمان وحتى أبو مازن، ولا أي أحد سواهما، يملك "إعطاء" فلسطين. كما أن ترامب لن يتمكن مهما فعل من القضاء على إيران، لأنها مرتبطة بمعطيات وتوازنات اقليمية ودولية أساسية تخص مصالح روسيا والصين علاوة على أوروبا، وهي كلها أعلنت أنها ضد ما يرتكبه ترامب، ولا توافق على هز أسس الاتفاق النووي مع إيران، ولا توافق على إعلان ترامب القدس عاصمة لاسرائيل. حتى تيريزا ماي قالت إن القدس يمكن أن تكون "عاصمة متقاسمة رضائياً" في نهاية مفاوضات سلام، وحتى منافسها عن يمينها ووزير خارجيتها، بوريس جونسون، يخالف رأي ترامب. ولم يبق أحد على وجه البسيطة لم يفعل: فرنسا وألمانيا والاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة.. والبابا فرنسيس الذي أعلن عن قلقه واعتبر القرار لعب بالنار. ومما له دلالته أن يدعى مجلس الامن الى اجتماع عاجل لبحث الأمر بطلب من الدول الاوروبية الاساسية.
وحدها الحكومة الاسرائيلية رحبت بالهدية بمناسبة عيدها السبعين، ونصبت أعلام أميركا واسرائيل على أسوار القدس، فيما تواترت أنباء عن تعزيز الحراسات على السفارات الأميركية في العالم.
اقرأ أيضاً: هل الاستسلام حل؟
.. ووحدهم الفلسطينيون دعوا لإضراب شامل اليوم في القدس.
القرار الأميركي الأخرق ضربة معنوية بالتأكيد، حتى وإن كانت لا تبعات له على الأرض اللهم إلا إذا ساهم في التعجيل بتنفيذ ما يخطط له القادة الإسرائيليون الحاليون ومن ورائهم تنظيمات تزداد قوة كل يوم كـ"حركة أمناء جبل الهيكل" التي تريد هدم الاقصى، أو حركات "الانجيليين الصهاينة" الذين ينتظرون الدمار الشامل ــ الذي يبدأ بحسب معتقدهم من فلسطين إثر "عودة" اليهود إليها ــ حتى يظهر "المخلص". وهذه قد تشجعها كلها المواقف الأميركية.
"صفقة القرن" تلك لن ترى النور. إلا أن القرار الأميركي بشأن القدس برهان جديد - لو لزم الأمر - على اتجاه لدى الرئيس الأميركي يبدو منفلتاً من أي عقال، للتصرف بلا أي اعتبار لشيء، وبرهان على ولعه بالحروب، وهو يكاد يشعل حرباً نووية في إدارته لملف كوريا. وتظهر الحيرة تجاه دولة عظمى تبدو بلا "دولة عميقة" ومؤسسات تقرر هي ما هو المناسب. هل فعلاً صار يمكن للرؤساء التحكم بسياسات بلدانهم؟ هل صارت أميركا والسعودية (مثلاً) متساويان لهذه الجهة؟
ولم يكن ترامب ليُقْدم على خطوته هذه لولا أنه لقي من السعودية تحديداً، التي يهمه أمرها لألف سبب، تاييداً. ولن يمكن فك ارتباط هذه الخطوة بما كان يهندسه صهره مع بن سلمان.. وطبعاً لولا تواطؤ السيسي وملك الاردن، وهما ينتقدان الآن إعلان ترامب، ولكنهما لن يمكنهما إنكار المفاوضات "السرية" التي أجرياها في الأشهر الأخيرة. والعجيب أن هؤلاء يسرحون وراء رئيس معتوه.