حلايب: ترمومتر العلاقات السودانية المصرية

تعود مشكلة مثلث حلايب للظهور ــ كما الآن ــ  كلما توترت العلاقة بين مصر والسودان بسبب خلافاتهما في العديد من الملفات الثنائية، ما جعل منها الشمّاعة التي تستخدم لتجييش المشاعر..

2017-09-18

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك

يعتبر مثلث حلايب، شلاتين وأبورماد، الذي يمتدّ على مساحة 20.580 كيلومتراً مربعاً ويقع في الطرف الشمالي الشرقي للسودان والجنوب الشرقي لمصر، مؤشراً على مناخ العلاقات بين البلدين، التي ما إن تتوتر حتى تظهر "مشكلة حلايب" على السطح، بينما تغيب عندما تكون علاقات البلدين في حالة أفضل.
برزت قضية حلايب بين البلدين على السطح لأول مرة في شباط/ فبراير 1958، وكانت السلطات السودانية قد دخلتها للقيام ببعض الإجراءات الخاصة بالانتخابات التي كانت على الطريق وقتها. ردّ الرئيس جمال عبد الناصر بخطوة تصعيدية، إذ أرسل قوّة عسكريّة إلى حلايب، وهي الخطوة التي هدّد السودان بمجابهتها بالقوة ما لم تنسحب تلك البعثة العسكرية، على أساس تبعية حلايب للسودان منذ العام 1902. وبالفعل انسحبت القوة وأكد السودان حضوره فيها.
تمّ تفسير خطوة الانسحاب وقتها بعاملين: الأول أن عبد الناصر كان في أوج توهجّه، وإثارة قضيّة حدودية كان يمكن أن يكون لها تداعيات سلبية على صورته كزعيم القومي. أما العامل الثاني، وهو الأهم، أن عبد الناصر كان يركّز على هدف إبرام اتفاقية مع السودان بخصوص مياه النيل، ما يسمح له بالانطلاق في المشروع الكبير الخاص بالسدّ العالي.
الانسحاب المصري غطّى على المشكلة مؤقتاً، لكنه لم يحلّها جذرياً، وبقيت المطالبة المصرية بها قائمة. كما أن السودان الذي رفع شكوى إلى مجلس الأمن ظلّ يجدّد تلك الشكوى بصورة منتظمة، وذلك لضمان استمرار قضية المطالبة بها حيّة، ولو أنها اختفت من وسائل الإعلام ومن التعاطي السياسي بين البلدين، على الرغم من أنهما توصّلا أبان حكم الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري إلى برنامج للتكامل والتعاون العسكري.

 

الخلفية السياسية

 

عادت المشكلة إلى الظهور في 1992، عندما قامت حكومة الرئيس عمر البشير بتخصيص مربع للتنقيب عن النفط والغاز لشركة أجنبية. وشمل الامتياز مثلث حلايب، الأمر الذي أدى إلى اعتراض القاهرة ودفع بالشركة للتخلّي عن الامتياز، فهي لا ترغب في الإنفاق على الاستكشاف في منطقة متنازَع عليها وبينما من غير الواضح كيف سيتمّ حلّ النزاع.

الاعتراض المصري هذه المرّة جاء على خلفيّة خلاف سياسي بين النظامين في الخرطوم والقاهرة. وقتها كان النظام في الخرطوم قد أسفر عن اتجاهه "الاسلامي"، وقام بتقليص الوجود المدني المصري في السودان بصورة ملحوظة، ووقف في الجانب المناوئ لمصر إقليمياً ودولياً. وبلغت مرحلة الخلاف ذروتها بالمواقف التي اتخذها البلَدان تجاه غزوة صدام حسين للكويت. ففي الوقت الذي ساندت فيه القاهرة الدول الخليجية ديبلوماسياً وعسكرياً، تزعّم الدكتور حسن الترابي، عرّاب النظام حينها، مجموعة من الحركات والتنظيمات الإسلامية التي تبنّت مواقف مساندة للنظام العراقي.


 

رفضت القاهرة الحلول الثلاثة التي اقترحتها الخرطوم: التحكيم الدولي، أو التوّصل إلى تسوية سياسيّة، أو إقامة منطقة تكامل في المثلث تكون نواة تعاون أكبر بين البلدين. ويخفي هذا الرفض خلافات عميقة في أهم ملفين من وجهة النظر المصريّة، وهما: المياه والأمن القومي المصري.


ثم جاء التحوّل الكبير في صيف 1995 الذي جرت فيه محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا. وقد اتُهم السودان بالقضية ووصل الأمر إلى إصدار قرارٍ من مجلس الامن بإدانته. ومع العقوبات الدولية والإقليمية، وعلى رأسها قيام أثيوبيا بقطع علاقتها الديبلوماسية مع السودان، آثرت القاهرة الردّ بطريقتها الخاصة، عبر محاصرة القوة العسكرية السودانية في حلايب وطردها من المنطقة، واستكمال سيطرتها العسكرية والمدنيّة عليها في العام 2000.
رفضت القاهرة منذ ذلك الوقت أياً من الحلول الثلاثة التي اقترحتها الخرطوم: التحكيم الدولي، أو التوّصل إلى تسوية سياسيّة، أو إقامة منطقة تكامل في المثلث تكون نواة تعاون أكبر بين البلدين.
يخفي هذا الرفض خلافات عميقة في أهم ملفين من وجهة النظر المصريّة، وهما المياه والأمن القومي المصري.
بالنسبة لموضوع المياه، كان البلَدان قد أبرما في العام 1959 ما عرف ب"اتفاقية مياه النيل"، وتقاسما فيها الحصص من دون مشاورة دول المنبع، وعلى رأسها أثيوبيا التي تمثّل المصدر الرئيسي لمياه النيل. ولذلك ظلّت الاتفاقية نقطة توتر مستمر في العلاقات المصريّة الاثيوبيّة.


إقرأ أيضاً: الصــــــــراع فــــي حـــــوض الـنــيــــــل


في العقد الماضي، تبلورت بدعم من البنك الدولي "مبادرة حوض النيل" الهادفة إلى إعلاء راية التعاون بين دول الحوض العشرة بدلاً من ترك الأمور لاحتمالات وقوع مواجهات لن تكون في صالح أحد. وتبنّت مصر، بمساندة أوليّة من السودان، موقفاً يقضي بالاّ تؤدي تلك المبادرة إلى الانتقاص من الحقوق المكتسبة من اتفاقية العام 1959، وهو الموقف الذي وضع البلدين في جانب وبقية دول الحوض في جانب آخر.
ثم برز إلى السطح موضوع "سدّ النهضة" الأثيوبي، وبدأ التمايز بين الموقفين المصري والسوداني. فقد وجد السودان، الذي يعتبر دولة ممرّ لمياه النيل ولجواره الجغرافي، أن المنافع التي يحصل عليها من سد النهضة تتجاوز السلبيات المتوقعة. وعلى رأس هذه المنافع تقليل خطر الفيضانات، وتوفير الكهرباء في المناطق الحدودية.

 

إعلان الخرطوم

 

في البداية، نجحت الخرطوم، في خطوة ديبلوماسية بارعة، في جمع الرئيسين عبد الفتاح السيسي والاثيوبي هيلا مريام ديسالين، في آذار/ مارس 2015، لإصدار إعلان تفاهم بين الدول الثلاث بخصوص سد النهضة، ينصّ على بعض المبادئ العامة، مثل استغلال السد لتوليد طاقة نظيفة تستخدم اقتصادياً وللترويج للتنمية العابرة للحدود، على ألاّ تتضرّر أي من الدول الموقعة على الاتفاقية، وإيجاد الآليات اللازمة لمراقبة الأداء، وتجنّب إحداث أيّ ضرر ذي شأن بأي من الدول.
لكن الأمور لم تمضِ بالسلاسة المنشودة، خاصة فيما يتعلق بالجوانب الفنية المرتبطة بحجم وتوقيت ملء البحيرة، والشركات الاستشارية الموكلة بوضع التقارير التي يمكن أن تحسم أي جدل حول الأضرار الناجمة عن السدّ، بصورة مهنية محايدة.
ويرى بعض المراقبين أن هذه الخلافات كان يمكن حلّها لو توفّرت الإرادة السياسية اللازمة، لكن تلك الإرادة تبدو غائبة، لأن القاهرة تحديداً لم تتخلّ نهائياً عن الفكرة القائلة بأن لديها حق ثابت في مياه النيل لا يمكن لأي طرف المساس به، حتى ولو كان دولة منبع مثل أثيوبيا. وهذه الحساسية كانت دفعت الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بالتهديد بشن حرب إذا هُددت مصالح مصر المائية. لكن مع المتغيّرات في توازن القوى، لم يعد لتلك التهديدات جدوى. فأثيوبيا صارت قوّة إقليمية يُعتدّ بها، وعدد سكانها يماثل عدد سكان مصر.


إقرأ أيضاً: السودان.. قــصـــــة فــشـــــل معلَن


الجانب الأخر في موضوع المياه يتعلّق بتصاعد استخدام السودان لحصته في مياه النيل. ووفقاً لاتفاقية 1959 فللسودان حصة تبلغ 18.5 مليار متر مكعب من المياه، مقابل 55.5 ملياراً لمصر. لكن، بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في السودان، تراوح حجم استغلال الخرطوم لحصتها بين 13 و14 مليار متر مكعب فقط، فيما ذهبت بقية الحصة إلى مصر نتيجة عدم استغلالها.
خلال السنوات الأخيرة، قامت الخرطوم بوضع خطط عديدة لإقامة السدود وفتح الأبواب أمام الاستثمار الزراعي، خاصة من قبل السعودية والإمارات وقطر والكويت التي حصلت شركاتها على مساحات أراضي كبيرة. وأهم الاتفاقيات تلك هي التي وقعت مع السعودية وتمّ بموجبها تخصيص مليون فدان لها في شرق السودان، وإدارتها لفترة 99 عاماً، على أن يقام في إطارها سدّي أعالي عطبرة وستيت. وهذه التطورات اعتبرت من وجهة النظر المصرية خصماً على مصالحها المائية.
أما في الجانب الأمني، فهناك الاتهام الدائم بأن السودان يوفّر ملاذاً لجماعات الاخوان المسلمين التي تناصبها الدولة المصرية العداء. ووفقا للسودان، انتقلت الهموم المصرية في هذا الجانب من الاتهام إلى التحركات العمليّة. ويظهر ذلك في إعلان الخرطوم أن بعض حركات دارفور المتمرّدة حصلت على مدرعات مصريّة، وأنها طرحت هذا الأمر مباشرة على الرئيس السيسي.
وهكذا، إن لم يتوصّل البلدان إلى صيغة لكيفية إدارة خلافاتهما في العديد من الملفات الثنائية، ستظلّ قضية مثلث حلايب الشمّاعة التي تستخدم لتجييش المشاعر، مثلما فعل والي ولاية البحر الأحمر الذي ذهب إلى بوابة حلايب، وأقام صلاة عيد الاضحى أمامها..

مقالات من السودان

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...