إعداد وتحرير: صباح جلّول
تتجوّل الكاميرا في بيتٍ بهتت جدرانه وملأ الركام أرضيّاته. هو بيتٌ جميل، ما زال جميلاً رغم ما حلّ به، ولا بدّ أنه كان يوماً ما تحفة معمارية أجمل بكثير. يتّضح ذلك من القناطر المفضية إلى الشرفات والأعمدة الخشبية المحفورة التي تحدد مدخل الصالة الكبيرة. في الأرض شظايا وحجار، زجاجٌ وركام رمادي، يتناقض بشكل صارخ مع الألوان الحيّة التي تنفجر من لوحة كبيرة مسندة فوق الركام في الصالون، تصور فتاة تقع من أعلى إلى أسفل، كأنّها أليس في بلاد العجائب، تبلعها حفرة الأرنب وتهوي، تهوي، حيث الزمن يتوقّف في الساعات، وحيث فوق هو تحت، وتحت هو فوق... هل هي أليس في غزة؟
بهذه المشاهد يبدأ الفيديو الذي يُعرِّف بمشروع "بينالي غزّة"، ويتابع المقطع المصور بتعليق صوتي:
"بالتعاون مع أكثر من 50 فناناً وفنانة من غزة، يواصل هؤلاء الفنانون ممارساتهم في خضم الحرب، متحدين كل الظروف الصعبة، مجسِّدين محاولاتٍ بطولية في وجه الإبادة التي تفني شعباً بأكمله على مرأى العالَم أجمع. يعمل الفنانون في غزة تحت القصف، ملتزمين بممارساتهم كوسيلة للبقاء. فعلى الرغم مما تحمله الظروف من حزنٍ وألم، وبينما تفوح رائحة الموت، يزرعُ الفنان في غزة بذور الإنسانية، ليس فقط في غزة، بل في سائر أنحاء العالَم.
"هذا ليسَ معرضاً": الفنّ في غزة ترفٌ.. وحاجة
04-04-2024
"آرت زون فلسطين" واستعادة الفنّ من الإبادة
05-12-2024
يرتبط بينالي غزة بنضال الشعب الفلسطيني. هو حدَث جَماعي وليس مجرد معرض للفنون. هو شبكة، وربما حراكٌ يحمل في طياته الأمل لبناء غزة من الجذور. لذا نوجّه دعوة مفتوحة للمؤسسات المحلية والدولية لاستضافة وإنتاج هذه المعارض، والعمل معنا على نحوٍ رسمي، أو عدا ذلك. نقدّم فرصة فريدة للمؤسسات الفنية حول العالَم لعرض أعمالٍ لا تقدَّر بثمن، تعكس معاناة الإبداع في هذه الأوقات الأشدّ ظلمة".
ويأتي التوقيع أخيراً: المتحف المحظور. فما هي هذه المبادرة الفنية في هذه الأوقات الأحلَك؟

بدأ المشروع في نيسان / أبريل 2024، مع حاجة فناني غزّة الذين تتزايد عليهم ضغوط حرب الإبادة إلى إنقاذ أعمالهم وخلق ظروف تُبقي ممارساتهم الفنية حيّة في ظل آلة الحرب الإسرائيلية التي لا تعرف سوى سحب الحياة واللون حيث وُجِدت.
أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي: روايتنا نحن!
28-09-2023
بالتعاون مع الفنانة الغزية تسنيم شتات، المقيمة ما قبل الحرب مع متحف الريسان في الضفة الغربية، تأسس "بينالي غزة" بمبادرة من "المتحف المحظور". هذا الأخير هو من تأسيس متحف الريسان، ويرتكز إلى تحدي الاحتلال من خلال عرض أعمال الفنانين الفلسطينيين على جبل الريسان في رام الله في الهواء الطلق، تعبيراً عن الحق في الوجود حيث لا يرغب الاحتلال، وحيث يُحظر على الفلسطيني الوجود. بالروحية نفسها قرروا العمل على معارض مفتوحة حول العالم، لإنقاذ الاعمال الغزية المبدعة من الفناء.

المركز فلسطين، غزّة بالتحديد، والامتداد هو العالَم أجمع. على مدى سنة ونصف، طوّر بينالي غزة عمله، ليجمع أكثرمن 50 فنانة وفنان، ويعمل على معارض لهم. هُم فنانون ما زال معظمهم صامدين في غزة، رغم كل ما لا يُحتمل.
فنّانات غزّة وأديباتّها الشهيدات
27-11-2023
فنّانة.. صامِدة.. شهيدة
24-10-2024
أمّا الأعمال، ففلسطينية التشرد في أنحاء المعمورة، تعاني شتاتها الخاص، لكن، على الأقل، لا تموت وتحترق حطباً للنسيان. يضمها سبعة عشر جناحاً (بافيليون) في مدن حول العالم. تلتزم هذه الأجنحة برؤية الفنانين الغزيين في كيفية عرض هذه الأعمال أو تقديمها، من الرسم إلى تجهيزات الفيديو والوحات والشهادات الشفوية والمكتوبة وغيرها من الوسائط الفنية المتاحة.
هذا التهجير هو جزء من مفهوم بينالي غزة. لا تستطيع الأعمال السفر بسبب الحصار وحرب الإبادة، ولا يقدر الفنانون على التنقل بالطبع. من جهة أخرى، يستحيل تنظيم واستضافة البينالي في غزة التي يحمل اسمها. هذا الوضع اضطر المنظِّمين إلى إيجاد طرق بديلة لعرض الأعمال في 12 مدينة في العالم.

أقيمت أجنحة البينالي في اسطنبول وبرلين وفي مدن أخرى في كل من فرنسا واليونان وإيطاليا وايرلندا وغيرها. افتتح المعرض الأضخم ضمن البينالي في مدينة نيويورك مؤخراً، في غاليري "ريسس" المعروف براديكاليته ومناهضته للعنصرية، وهو يُعرِّف عن المعرض على موقعه بالشكل التالي:
"يبتعد بينالي غزة عن أطر المعارض التقليدية. فكل جناح مُهجّر من غزة، وكل عمل فني موجود، ليس كنسخ طبق الأصل، بل في شكل مُهجّر، خارج موقعه. يُعلن البينالي أن الفن حين يسعى للتحرر، يُحطم الرؤى العالمية، ويُعيد ترتيب الجغرافيا، ويمنح الفنانين استقلالية التعبير عن إنسانيتهم على مسرح عالمي". ثم يخلص غاليري "ريسس" إلى القول: "شكراً لغزة، التي علّمتنا كيف يولد الفن في قلب العاصفة"...

ماذا قالت رسامات غزّة المبْدِعات؟
"في الوقت الذي كانت القذائف تلاحقنا كأنها تعرف أسماءنا، خرجتُ أنا وعائلتي من غزة مقهورين، نحمل وجعنا وذكريات البيوت التي تهدّمت على أحلامنا. مشيت ما يقارب 14 كيلومتراً تحت لهيب الشمس، نلهث بين الانفجارات وشظايا الصواريخ، نبحث عن حياة تشبه الحياة، أو حتى ظل أمان مؤقت". هذا ما كتبته الرسامة فاطمة أبو عودة من غزّة، مضيفة أنه، وبينما كان هذا يحدث، كانت لوحاتها في الوقت نفسه تُعرَض في مدينة نيويورك، في معرض "من غزة إلى العالم": "وكأنها تمثلني هناك، تصرخ نيابة عني، تحكي للعالم ما لا تقوله الأخبار"، تقول فاطمة.

شعورها مرآة لشعور ملكة أبو عودة، رسامة أخرى من غزة، كتبت بدورها على صفحتها على انستغرام: "نزوح السنونو".. بينما ستُعرض هذه اللوحة بعد قليل في إسطنبول، أجد نفسي أعيش النزوح ذاته من غزة إلى الجنوب. هي ليست مجرد لوحة، بل مرآة لحياتي وحياة عائلات بأكملها، كطائر السنونو الذي تطارده الرماح، فتخرِّب عشه، لكنه يظل يحلّق فوق البيوت المهدمة ليواسي أصحابها في الخيام".

أما الفنانة ربى حسن، فاختارت أن ترفق لوحتها - المعروضة ضمن الجناج اليوناني في بينالي غزة - بقصيدة كتبتها، لتكون الاثنتان تعبيراً عمّا تشعر به:
"ليس بي غضبٌ.. تعبت يداي من القبض على الهواء.
ليس بي صراخ.. سكت الحنين في حلقي من فرط ما انحشر.
العالَم يتفرّج.. والزمن يمضغ أنفاسنا ببطء.
وليس بي سوى عينان.. تراقبان الموت.. الموت.. الموت".

*****
يستمر المعرض النيويوركي حتى 20 كانون الأول/ ديسمبر، وهو يعرض أعمال 25 فنانة وفناناً. في أعمال أحمد عدنان العصار مثلاً، استخدم الفنان رماد المنازل المحروقة ليصنع بانوراما غزية ملحمية. في أعمال الفنانة ملكة أبو عودة، تلتقط مسيرة أرواح هائمة. أما أسامة حسين، فقد استعمل هاتفه للرسم بشكل مبدع. وبالتوازي، يستمرّ معرضا إسطنبول وأثينا حتى الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.
"هذا ليس حدثاً ثقافياً، إنه صرخة روحٍ نجت.. ونداءٌ أخيرٌ قبل أن تُغلق النعوش على ما تبقى. من غزة إلى العالم: لن نموت في صمت... نقاوم بصوتنا، بألواننا، بكلماتنا، وبكل نبضة قلبٍ باقية". هكذا علّقت الفنانة فاطمة أبو عودة على هذا المجهود الجماعي. وهو كذلك، نداءٌ أخير مفرطٌ في الأمل، لأن لا خيار سِواه. ننظر بعيون مشدوهة إلى مدينة غزة تُستباح قصفاً وزحفاً من البرابرة، ونتخيل خيطاً لنجاة كلّ نبضٍ فيها.