كيف تحولت الخرطوم من "مركز" إلى "هامش" يستجدي الخدمات؟

خلال الثلاثين عاماً من حكم عمر البشير، تعرضت جميع مدن السودان إلى إفقار تنموي ممنهج، بينما استحوذت الخرطوم على كافة الخدمات المموَلة من موارد هذه الولايات بشكل كبير. وتبعاً لذلك تدهورت الخدمات الصحية والتعليمية في مدن السودان المختلفة، علاوة على اتساع ظاهرة البطالة وانعدام فرص العمل والإنتاج في الولايات، الأمر الذي ضاعف من نزوح الأرياف والمدن نحو العاصمة، التي اكتظت أطرافها بالسكان، ووصل تعداد سكانها قبل الحرب إلى أكثر من 8 ملايين نسمة.
2025-09-01

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
الهميم الماحي - السودان

مع تلاشي آخر خيط من شعاع شمس الخرطوم، تتحول المدينة إلى قرية نائية مهجورة خالية إلا من طنين البعوض ونقيق الضفادع، الذي يشق ظلام الليل الحالك، ليُخبر أن في المكان بقايا حياة.

الخرطوم التي كانت مركز البلاد القابض، سياسياً، ثقافياً، اقتصادياً واجتماعياً، وكانت تفيض بالحياة، تحولت إلى هامش يستجدي الخدمات الأساسية، إذ طالتها تحولات مُروِّعة ، بفعل الحرب التي دخلت عامها الثالث. كان نصيبها من هذه الحرب هائلاً، يفوق كل التوقعات. إذ شهدت العاصمة تدميراً وتخريباً واسعين، تبعتْهما تغيرات جذرية، اجتماعية واقتصادية. ومما لا شك فيه أن هذا التحول سيشكِّل مستقبل المدينة ومستقبل البلاد ككل.

الخرطوم قبل الحرب: نموذج اختلال التنمية

قبل الحرب، كانت الخرطوم تعبيراً صارخاً عن مركزية الحكم في السودان وسوء توزيع التنمية، وكانت نموذجاً جلياً لاختلال العدالة الاجتماعية والاقتصادية، إذ كانت تستحوذ على كافة الامتيازات الخدمية والتنموية، مما جعلها وجهة رئيسية للهجرة الداخلية من الأقاليم.

تشير بعض الدراسات إلى موجة هجرة نحو الخرطوم، نشأت في الفترة بين 1960 و1980، كان معظم أفرادها يأتون من الشمال والوسط، وقد اختاروا أطراف العاصمة مستقراً، ولاحقاً نقلتهم السلطات إلى مناطق مُخططة داخل الخرطوم. فيما يؤرَّخ للموجة الثانية في الفترة ما بين 1980 – 2000، وهي التي مثَّلت فيها الحروب، التي اشتعلت حينها في غرب السودان، السبب الرئيسي للنزوح، بينما كان الفقر السبب الأوحد في الموجة الأولى.

وخلال الثلاثين عاماً من حكم عمر البشير، تعرضت جميع مدن السودان إلى إفقار تنموي ممنهج، بينما استحوذت الخرطوم على كافة الخدمات المموَلة من موارد هذه الولايات بشكل كبير، وتبعاً لذلك تدهورت الخدمات الصحية والتعليمية في مدن السودان المختلفة، علاوة على اتساع ظاهرة البطالة وانعدام فرص العمل والإنتاج في الولايات، الأمر الذي ضاعف من نزوح الأرياف والمدن نحو العاصمة، التي اكتظت أطرافها بالسكان، ووصل تعداد سكانها قبل الحرب إلى أكثر من 8 ملايين نسمة.

فجوات طبقية مركبة

خلَّف هذا الوضع الشائه تفاوتاً طبقياً فادحاً، انفجر خلال العامين الماضيين، وها هو يحاول إعادة ترتيب نفسه في مدن السودان بشكل عام، وفي مدينة الخرطوم على نحو خاص.

لم تكن الفجوات الطبقية مقصورة على الفارق بين سكان الخرطوم وسكان الأقاليم، التي لم تجد النصيب نفسه من التنمية -على قلته- بل انسحبت حتى على سكان الخرطوم نفسها، فانقسمت ما بين مركز مدينة وهوامشها التي تحاول التشبث بامتيازات مركزها. وكان سكان هذه الأطراف يزحفون يومياً إلى قلب الخرطوم، للاستفادة من الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها.

قبل الحرب، كانت الخرطوم تعبيراً صارخاً عن مركزية الحكم في السودان وسوء توزيع التنمية، وكانت نموذجاً جلياً لاختلال العدالة الاجتماعية والاقتصادية، إذ كانت تستحوذ على كافة الامتيازات الخدمية والتنموية، مما جعلها وجهة رئيسية للهجرة الداخلية من الأقاليم.

ألقت هذه الحرب الطاحنة بظلالها بشكل أكبر على الطبقات العليا والمتوسطة، بينما الطبقات الهشة لم تتأثر بشكل كبير، لأنها في الأساس طبقات مطحونة ليس لديها الكثير لتفقده، وكأن هذا الفقر قد شكّل لها حصناً منيعاً من تبعات الحرب، التي بدأت في 15 نيسان/ أبريل 2023. 

كانت الطبقات العليا والمتوسطة تقطن في المناطق الحيوية وسط المدينة، حيث ترتفع أسعار العقارات بصورة خرافية تبعاً لكثافة النشاط الحضري، التجاري والاجتماعي، علاوة على تمركز المؤسسات والمرافق الرئيسية فيها. كل هذه الطبقة أو أغلبها غادرت الخرطوم مع أيام الحرب الأولى، لأنها تمتلك المقدرة المالية على التحرك، وكذلك خيارات الوجهة داخل البلاد أو خارجها على الأغلب.

مقالات ذات صلة

فيما تقطن أطراف العاصمة وهوامشها الطبقات الأقل من متوسطة، والفئات الهشة ذات الدخل المحدود. وقبل الحرب، كانت غالبية أفراد هذه الطبقة تشتغل في الأعمال الحرفية والعمالية، علاوة على موظفي الخدمة المدنية في الدرجات المتوسطة والأقل. ومع توقف مصادر الدخل، اعتمدت هذه الفئات في حصولها على الغذاء على المطابخ الجماعية الخيرية بشكل رئيسي، أو ما يُعرف شعبياً في السودان بـ"التكايا"، واعتمدت هذه المطابخ على دعم السودانيين المقيمين في الخارج والمنظمات.

لم تكن الفجوات الطبقية مقصورة على الفارق بين سكان الخرطوم وسكان الأقاليم، التي لم تجد النصيب نفسه من التنمية -على قلته- بل انسحبت حتى على سكان الخرطوم نفسها، فانقسمت ما بين مركز مدينة وهوامشها التي تحاول التشبث بامتيازات مركزها. 

هذه الطبقة التي تتشكل في الأساس من أرياف السودان المختلفة، ونازحي الحروب في عقود مضت، هي التي ظلت صامدة وباقية في الخرطوم، والسبب الرئيسي هو انعدام المقدرة على مجابهة تكاليف الهجرة خارج البلاد، ولا مجابهة أسعار إيجار العقارات في الأقاليم، والتي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة. عزّز ذلك أن هذه الأطراف لم تكن في مرمي نيران الحرب خلال فترتها الأولى، بحكم أن الاشتباكات في الشهور الأولى كانت في أواسط المدينة، حيث مقار الجيش الرئيسية، فصارت الأطراف ملجأ آمناً لكثير من سكان وسط المدينة، ممن لا يملكون المقدرة المالية للحركة خارجها، أو أولئك الذين عادوا إلى الخرطوم لاحقاً، إذ دُمّرت البنية التحتية على نطاق واسع في وسط المدينة، فيما نجا عدد من أطرافها.

وبصمود هذه الفئات الاجتماعية داخل العاصمة، انسحبت الحياة تدريجياً من مركزها إلى هامشها، حيث شهدت هذه المناطق الطرَفية انتعاشاً اجتماعياً واقتصاديا، بفعل انتقال الخدمات إليها، بعدما خلا قلب المدينة تماماً من الحياة.

حافظت الأطراف، التي تحولت إلى مركز خلال عامي الحرب، على تماسكها بشكل مدهش. وحتى بعد استعادة الجيش السيطرة على الخرطوم، وبدأت موجات عودة طفيفة إلى العاصمة، فلا تزال هذه الأطراف مركزاً للمدينة، حيث يلجأ العائدون للخرطوم إليها، للحصول على الخدمات الأساسية وعلى رأسها الخدمات الصحية، وحتى الأسواق الكبيرة.

ألقت هذه الحرب الطاحنة بظلالها بشكل أكبر على الطبقات العليا والمتوسطة، بينما الطبقات الهشة لم تتأثر بشكل كبير، لأنها في الأساس طبقات مطحونة ليس لديها الكثير لتفقده، وكأن هذا الفقر قد شكّل لها حصناً منيعاً من تبعات الحرب، التي بدأت في 15 نيسان/ أبريل 2023.

بصمود الفئات الاجتماعية متواضعة الإمكانات أو شبه المعدمة داخل العاصمة، انسحبت الحياة تدريجياً من مركزها إلى هامشها، حيث شهدت هذه المناطق الطرَفية انتعاشاً اجتماعياً واقتصاديا، بفعل انتقال الخدمات إليها، بعدما خلا قلب المدينة تماماً من الحياة. 

حافظت الأطراف، التي تحولت إلى مركز خلال عامي الحرب، على تماسكها بشكل مدهش. وحتى بعد استعادة الجيش السيطرة على الخرطوم، وبدأت موجات عودة طفيفة إلى العاصمة، فلا تزال هذه الأطراف مركزاً للمدينة، حيث يلجأ العائدون للخرطوم إليها، للحصول على الخدمات الأساسية وعلى رأسها الخدمات الصحية، وحتى الأسواق الكبيرة.

بعد أكثر من عامين على الحرب، صارت الأطراف هي قلب المدينة النابض بالحياة، ولا يزال وسط المدينة فقيراً بالخدمات وسط عودة طفيفة للمواطنين.

هذه التحولات الاجتماعية التي شهدتها الخرطوم بعد الحرب قد تشكِّل تحديات جديدة، لكنها تفتح أبواباً لفرص جديدة للتنمية والنمو، لتحقيق التوازن المطلوب بين النمو الاقتصادي والاجتماعي، وهي فرصة كذلك لمعالجة اختلالات التنمية والعدالة، ليس في الخرطوم فحسب بل في كافة مدن البلاد.

مقالات من السودان

السودان: تقرير جديد لأطباء بلا حدود يوثق الفظائع الجماعية ضد المدنيين في الفاشر ومحيطها في شمال دارفور

استنادًا إلى بيانات أطباء بلا حدود والشهادات المباشرة من فرقها، إلى جانب أكثر من 80 مقابلة أُجريت بين مايو/أيار 2024 ومايو/أيار 2025 مع مرضى ونازحين من مدينة الفاشر ومخيم زمزم...

للكاتب نفسه