"لدينا خمسة مطالب أساسية، لكنها صارت محرجة من فرط بساطتها".
يعبر هذا الكلام الذي أفاد به حسن لعكون، مشارك وعضو في اللجنة التنظيمية لمسيرة سكان آيت بوكماز (إقليم أزيلال)، عن استمرار حاجة قطاع مهم من سكان الجبل في المغرب إلى منجزات اجتماعية، تدخل في خانة الأساسيات، مثل توفير البنى التحتية الضرورية، من مدارس، ومستوصفات، ومياه صالحة للشرب، وتغطية لشبكة الهاتف، وطريق يفك عزلتهم.
مصائبُ زلزال المغرب... وفوائده
17-09-2023
على غرار قرية آيت بوكماز وقرى نواحي إقليم تارودانت والحوز، المتضررة من الزلزال المدمر الذي ضربها عام2023، تعيش قرى جبلية مغربية هذا الواقع الصعب، الذي شغل الرأي العام المحلي في المغرب، بعد أن خرج سكانها عن صمتهم الذي كان مدفوناً لعقود ممتدة، ليكشفوا عن غبن ومظلومية مشروعة، نابعة من سياسات تهمش جغرافيا خارجة عن وعاء الزمن، تكرس التفاوت المجالي والبنيوي بين مغربين: مغرب ينعم بتنمية نسبية، وآخر محروم منها.
انتفاض أهل الجبل
لم يكن هذا الغضب حادثاً عرضياً، بل خطوة متوقعة أملتْها خيبات متراكمة، تكمن في بطء الاستجابة، واختلالات في توزيع الدعم، وغياب القنوات الفعالة لاحتواء هذه الأزمة في هذه الجغرافيا المنسية. ففي تارودانت، نظمت تنسيقيات متضرري الزلزال عدة وقفات أمام مقر الإقليم، إذ أعرب المحتجون عما وصفوه بغياب الاستجابة الفعلية والكاملة لمطالبهم، وخاصة رفضهم لرفع الخيام من دون بدائل سكنية وإنسانية، معتبرين أن عملية إحصاء الأضرار تشوبها تجاوزات وغياب المساواة، ودعوا إلى إيفاد لجان تقصي الحقائق البرلمانية لمراقبة صرف الدعم، واتخاذ إجراءات مباشرة ضد المتورطين في أي تلاعب.
وجود الطريق كأساس للاحتجاج الجماعي ليس تفصيلاً رمزياً فقط، بل يعكس بوضوح حجم البعد عن المركز وثقله، وانعدام البدائل أمام هذه الساكنة. فالطريق المتهالك أو غير الموجود فعلياً، كان أول العوائق أمام وصول أبسط الخدمات: سيارات الإسعاف، شاحنات نقل السلع والمواد الغذائية، وأيضاً إرسال أبنائهم إلى المدرسة يومياً.
أما في الحوز، فقد تكررت الاحتجاجات أمام مقر الإقليم وساحات المؤسسات الرسمية، إذ صارت الوقفات والمسيرات لمسافات طويلة أداة ضغط لنقل صرخة المتضررين وأوجاعهم تحت الخيام المؤقتة على مدى صيفين متتاليين. وشددت بيانات التنسيقيات على أن الوعود الحكومية لم تُنفذ بالكامل، وأعلنت عن الاستعداد لمسيرات واعتصامات مفتوحة في الرباط، دفاعاً عن حقهم في إعادة الإعمار الشامل.
يتقاطع الأسلوب الاحتجاجي لسكان قرية آيت بوكماز مع نظرائهم في إقليمي: تارودانت، والحوز، إذ سار سكان هذه القرية لمسافات غير قصيرة مشياً على الأقدام يوم 9 تموز/ يوليو نحو مقر إقليم أزيلال، تعبيراً عن تنامي واقع الإقصاء من ثمار التنمية، وهو إقصاء طالهم لعقود ممتدة. ورفعت الاحتجاجات شعارات المطالبة بأبسط الحقوق الأساسية، من قبيل إنشاء مركز صحي بطبيب قار، وتغطية شبكة الإنترنت والاتصالات، وتيسير رخص البناء وتوسعة الطريق الجبلية. وقد استجابت السلطات جزئياً وتم تعيين طبيب، وإطلاق أشغال تحسين الشبكة، مع فتح حوار مباشر حول المطالب الأخرى. في حين لا تزال مطالب متضرري زلزال إقليمَي الحوز وتارودانت يسمها التأجيل والمماطلة، أو الاستجابة البطيئة من دون تحقيق لها على نحو ناجع، وهذا ما يجعل مطالبهم أمام طريق طويل مثقل بالنضال.
الطريق يجمعهم
وجود الطريق كأساس للاحتجاج الجماعي ليس تفصيلاً رمزياً فقط، بل يعكس بوضوح حجم البعد عن المركز وثقله، وانعدام البدائل أمام هذه الساكنة. فالطريق المتهالك أو غير الموجود فعلياً، كان أول العوائق أمام وصول أبسط الخدمات: سيارات الإسعاف، شاحنات نقل السلع والمواد الغذائية، وأيضاً إرسال أبنائهم إلى المدرسة يومياً.
تَحَولَ الطريق في هذه المناطق الجبلية المهمشة، من مجرد مسلك إلى فضاء احتجاج رمزي. فمع تفاقم معاناة متضرري الزلزال وتباطؤ وتيرة إعادة الإعمار، اتخذ السكان الطرق الرئيسية والمسالك الجبلية وسيلة لإسماع أصواتهم. فحشود الغاضبين لم تعد تكتفي بالبقاء على هامش القرى أو أمام مقرات السلطات، بل نقلت الاحتجاج إلى مسافات طويلة مشياً على الأقدام، مجسدة بذلك إصرارها العلني على كسر العزلة الجغرافية، التي فَرضها عليها واقعها المهمَش. بهذا المعنى، صار الطريق بالنسبة إلى المتضررين والمحتجين منصة تعبير عن وحدة الاحتياجات، ووسيلة ضغط على السلطات المحلية.

في هذا السياق، لا يمكن فصل مسألة الطريق كأداة احتجاج عن السياق الأوسع للسياسات العمومية/العامة، التي لطالما اختزلت فكرة التنمية في أرقام وصفقات، تُخصَّص بالدرجة الأولى للمناطق المركزية الحضرية، تاركة القرى الجبلية في عزلة تامة. لقد صار الطريق في الاحتجاجات الأخيرة رمزاً لقضية أكبر: غياب نسبي لخدمات وأدوار الدولة عن تفاصيل معيشة السكان عند الطوارئ والأزمات. وهو يعكس أيضاً مفارقة موجعة، إذ يُحتفى في المدن الكبرى، كالعاصمة الرباط، والدارالبيضاء، وطنجة، بشبكات الطرق السريعة والقطارات المتطورة، بينما تظل الطريق الجبلية في الهامش عنواناً للبطء والعزلة. من هنا يمكن الحديث عن مغربين متفاوتين تخلق بينهما فجوة.
فوارقُ بين مغربَيْنِ
لا يمكن لأي تحليل أن يفصل بين غضب الهامش الجبلي هذا، وظاهرة التفاوتات المجالية، التي تتعمق بين مغرب "محظوظ" (المدن الكبرى والمراكز الحضرية)، وآخر مهمش (القرى والمدن النائية).
لتأكيد هذا الكلام، نستعين بلغة الأرقام، فعلى الرغم من إطلاق برامج عديدة، كبرنامج الحد من الفوارق المجالية والاجتماعية، الذي بلغت تكلفته حوالي 5 مليار دولار بين 2017 و2023، ودورها المحوري في إنشاء المدارس والطرق والمراكز الصحية، وتوفير بعض الخدمات الاجتماعية، إلا أن النتيجة هي استمرار الاتساع النسبي للفجوة بدلاً من تضييقها. والشاهد على ذلك: استحواذ ثلاث جهات للمملكة على 58.6 في المئة من حجم الاستثمارات المحلية (جهة الدار البيضاء - سطات، جهة الرباط – سلا - القنيطرة، وجهة طنجة – تطوان - الحسيمة)، وما يترتب على ذلك من حضور نسبي لملامح التنمية في هذه الجغرافيا. علاوة على أن هذه المناطق القروية تضم حوالي 72 من "فقراء" البلد، ونسبة غير يسيرة منهم، يعيشون في الأقاليم التي يحتج فيها متضررو الزلزال. فمثلاً سجلت جهة بني ملال - ختيفرة، التي تنتمي إليها قرية آيت بوكماز، معدل "الهشاشة إزاء الفقر"[1]، بقيمة تصل إلى 9 بالمئة، وهي ضمن الجهات الأكثر فقراً في البلد.
تتعمق التفاوتات المجالية بين مغرب "محظوظ" (المدن الكبرى والمراكز الحضرية)، وآخر مهمش (القرى والمدن النائية). فعلى الرغم من إطلاق برامج عديدة، كبرنامج الحد من الفوارق المجالية والاجتماعية، الذي بلغت تكلفته حوالي 5 مليار دولار بين 2017 و2023، وأنشأ مدارساً وطرقاً ومراكز صحية، ووفّر بعض الخدمات الاجتماعية، إلا أن النتيجة هي استمرار الاتساع النسبي للفجوة بدلاً من تضييقها. فقد استحوذت ثلاث جهات من البلد على 58.6 في المئة من حجم الاستثمارات المحلية.
أما على مستوى منطقة الحوز، فقد بلغ عدد المشاريع المصادَق عليها برسم سنة 2025 حوالي 57 مشروعاً تنموياً، بالمقارنة مع مئات المشاريع، التي تمول سنوياً في مدن كالدار البيضاء والرباط. وعلى أن هذه المشاريع تمثِّل تحسناً على مستوى الكم، إلا أن دراسة نسب التحسين في البنى التحتية الأساسية توضّح استمرار الهوة: في أيت بوكماز مثلاً، يُعتبر مجرد وصول طبيب إلى المستوصف، أو تفعيل شبكة الإنترنت "نجاحات استثنائية"، وهي نتاج ضغط الاحتجاجات، وليس في سياق مخططات تنموية معدة سلفاً من قبل الجهات الحكومية.
يحيل هذا الواقع على أزمة عميقة، في معالجة الحكومة لقضايا الهامش الجبلي والقروي. فبرامج التنمية البشرية المحلية، لا تزال تموِّل مشاريع ذات أثر محدود على المستفيدِين، ناهيك عن الفساد والاختلالات، التي اعترت صناديق تنمية العالم القروي لعقود طويلة. كما أن أشغال إعادة البناء تسير بوتيرة متفاوتة في مناطق الزالزال، وهي لا توازي الحاجات الآنية، ولا تستجيب لحق هؤلاء السكان، في تنمية تضمن لهم الحد الأدنى من العدالة المجالية والتكافؤ مع المناطق الحضرية.
في المحصلة، لم تعد الفوارق مجرد أرقام، بل تترجم الشعور بالحرمان والتهميش لدى هؤلاء المحتجين، كما أنها مؤشر ضمني إلى أن البلد لا يزال يعيش على وقع فجوة تاريخية، تعود إلى أيام الاستعمار الفرنسي: "مغرب نافع" و"مغرب غير نافع". وستحضر هذه الهوة صيفاً وشتاءً، ومع كل كارثة طبيعية وأزمة اجتماعية، وستدوم في ظل عجز الهامش عن مواكبة المغرب الآخر، الذي يمتاز بسلاسة نسبية للحياة العملية في المدن الكبرى (على الرغم من وجود تفاوتات داخل هذه المدن). كما ستستمر هذه الاحتجاجات وسواها بلا توقف ولا هوادة، ما دام هناك إهمال وتأجيل لمشاريع، كان يمكنها أن تكرِّس العدالة المجالية بين الهامش والمركز.
-
"معدل الهشاشة إزاء الفقر": هو مقياس يقيس النسبة المئوية، للأفراد أو الأسر التي تعيش في حالة "هشة"، من حيث تعرضها لخطر الوقوع في الفقر في المستقبل. ↑