مصائبُ زلزال المغرب... وفوائده

انقلب هدوء قرى جبال الأطلس إلى زلزال أتى على المنازل وأهلها. ولم يبق منها سوى حجر وردم غزير. بين كومة البيوت المهدمة تخرجُ الأرواح الناجية كأنّها خارجةٌ إلى يوم الحشر، ذاهلة لا تدري ما الذي حدث. وبعض هذه القرى انقطعت بها الطرق وحوصر أهلها لأيّام، حتى وصلتهم القوافل بعد فتح الطرق.
2023-09-17

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
مسجد تينمل بعد الزلزال، المغرب.

كان عليك وأنت تمرُّ بالسيارة على الطرق الرئيسية لجبال الأطلس، أن تدقّق النظر لتلمح بضع منازل على حافة جبل أو في خاصرته، مبنية بالطين والحجر، كجزء من جغرافيا الجبال، ولا تختلف عن الصخور المحيطة بها إلّا بشكلها المربع، ونوافذها التي تبدو مثل كوىً صغيرة من ذلك البعد.

أثارت هذه المنازل المتواضعة، البدائية البناء، الوديعة على أكتاف جبال الأطلس، إعجاب السياح على مدار عقود، هم الذين يحجّون بكثرة إلى المنطقة بحثاً عن الهدوء والسكينة، اللذيْن تمنحهما الجبال الممتدة بسخاء، والهواء الجبلي النقي.

هذا الهدوء انقلب بتاريخ 8 أيلول /سبتمبر الجاري إلى زلزال أتى على المنازل وأهلها. ولم يبق منها سوى حجر وردم غزير. بين كومة البيوت المهدمة تخرجُ الأرواح الناجية كأنّها خارجةٌ إلى يوم الحشر، ذاهلة لا تدري ما الذي حدث. وبعض هذه القرى انقطعت بها الطرق وحوصر أهلها لأيّام، حتى وصلتهم القوافل بعد فتح الطرق.

قسوة الطبيعة وتهميش الدولة

تتشكل هذه القرى من تجمعات لا يتجاوز بعضها عشرات الأشخاص، أو عشرات الأسر. انتشرت على طول مساحة واسعة في الحوز وتارودانت وشيشاوة وورززات، وهي المناطق الأكثر تضرراً من الزلزال. وتركزت في جبال الأطلس، حيث صعد الناس هرباً من الفيضانات التي كانت في الماضي تأتي على الأخضر واليابس في السّفوح، فصارت هذه الأخيرة مقابر مفتوحة لمن سبق وخضع لإغراء الامتداد اللّطيف نحو السهول.

هناك مسافاتٌ كبيرة بين القرى الجبلية، مما يصعّب مأمورية الوصول إليها، حيث لكل قرية دروبها الترابية، التي تكفي غالباً لعبور سكانها راجلين أو على دوابهم بالكاد، مما صعّب حياتهم أكثر. فالاستقرار في منطقة ذات كثافة سكانية كبيرة، قد يفرض مبدئيّاً على الدولة حفر طرق، ولو ترابية، للوصول إليها بدل الوضع الحالي. تتوقف السيارات عند حد معين، وعلى الزائر بعدها امتطاء الحمير للصعود إلى القرى. وفي الشتاء تصير الأمور أسوأ، فهذه الجبال تعرف تساقطات ثلجية هي الأكثف في البلاد، وتعاني من درجات حرارة منخفضة عن المعتاد في باقي المناطق.

لم يستطع الإنسان ترويض هذه الطبيعة القاسية لانعدام الوسائل الحديثة الكفيلة بذلك، فتكيّف معها، واكتسب عادات وبنية تساعده على التعايش مع الإيقاع القاسي لحياة الجبال. ولمن لم يسبق أن زار المنطقة، كانت له الصور والفيديوهات والتغطيات، دليلاً على قوة شخصية أبناء وبنات المنطقة الذين طحنتهم الأيام، في مناطقهم النّائية عن كل شيء سوى البرد وقسوة التضاريس.

تركز الناس في جبال الأطلس، حيث صعدوا هرباً من الفيضانات التي كانت في الماضي تأتي على الأخضر واليابس في السّفوح، فصارت هذه الأخيرة مقابر مفتوحة لمن سبق وخضع لإغراء الامتداد اللّطيف نحو السهول. لكل قرية دروبها الترابية، التي تكفي غالباً لعبور سكانها راجلين أو على دوابهم بالكاد، مما صعّب حياتهم أكثر.

يُفترض ألا يقيم أحد على تلك الجبال القاسية. لكن أهل المنطقة اضطروا، مع مرور السنوات إلى الذهاب أعلى فأعلى بسبب ارتفاع جبروت فيضانات الوديان عن المتوقع. فتراهم يمشون على الجبال بحكم العادة، كأنها أرض منبسطة. وتُصاب بالرعب، ولا تصدق أنّ كثيراً من النساء يعبرن الجبال، حاملات كومات حطب على ظهورهنّ، أو ما حصدنه من أرحامهنّ من رضع.

إلى جانب كل ما سبق، جلُّ نواحي المنطقة غير صالحة للزراعة بسبب الطبيعة الحجرية للتربة. وتبقى تربية المواشي - الماعز بشكل أساسي - جزءاً رئيسياً من مواردهم. لكن ماذا عن الدولة، أين هي من ذلك كله؟

مغرب غير نافع... مغرب منسيّ

كل ما سبق يحكي قصةً حزينة لمغرب غير محظوظ، والأسوأ أنه تُرك وحيداً، بعيداً عن العين والبال، كأبرز مناطق المغرب "غير النافع"، منذ أن قسّم الاستعمار الفرنسي المغرب إلى نافع وغير نافع. المغرب "النافع" هو سهول الغرب حيث الخصوبة وانتعاش الزراعة، والمدن الساحلية على الأطلسي والمتوسط، مع تفاوتٍ بينها. بعد الاستقلال انضمت المدن الكبرى إلى المغرب النافع، لأنها تضم مناطق لها نفع على الدولة، وتشمل مدن الوسط والشمال الغربي، من محيط طنجة وتطوان إلى الرباط والدار البيضاء، إلى أكادير ومراكش وفاس. أما ما عدا ذلك من جبالٍ وصحارٍ وقفار، فهي خارج المغرب الذي يحبّه المسؤولون.

تقارب نسب التعليم والتطبيب والبنية التحتية هناك الصّفر. وأسوأ ما يحدث للمعلمين الجدد هو تعيينهم في هذه الأماكن التي لا مجال للخروج منها إلا بضع مرات في السنة. ويعملون فيما لا يتجاوز الغرفتين يدّعى أنّهما تشكلان مدرسةً. وعليهم العيش في ظروف عيش السكان بأقل القليل، مما يضعف أكثر من مستوى التعليم لدى أطفال القرى.

هذه المناطق تعرف مؤشر الفقر الأعلى في البلاد لعدم إنتاجها أي ثروة، كما لا تمثل أي أهمية استراتيجية للمخزن السياسي ولا للمخزن الاقتصادي، بل يراه كل منهما محض عبء. مع الإشارة الى أن هذه المناطق، الأمازيغية، كانت الأعنف في مواجهة الاستعمار، مثلها مثل أمازيغ جبال الريف. هؤلاء الذين وصلتهم لعنة الزلزال بدورهم منذ عشرين سنة. لكن بعد انتعاش خفيف مع إعادة البناء، عادت المنطقة إلى التهميش، حتى عرفت حراك 2017 الذي خفف عنها مظاهره. وكان سكان بعض مناطق الأطلس قد جرّبوا الاحتجاج أحياناً، لكن بلا أثر.

قد ينحصر ما أنتجته المنطقة للدولة في الجنود. فالشباب، مع غياب آفاق مهنية وضعف التعليم والفقر الشديد، لا يجدون سوى التجنيد كمهنة تقبلهم بلا تردد. وهي مهنة للأكثر فقراً لما فيها من تعب وعمل شاق على الحدود الغابوية أو الصحراوية، في البرد والحر على حد سواء، وهي ظروف لا يتحملها أهل المدن.

مصائب الزلزال

تضم المناطق الذي حدث الزلزال في مركزها 600 ألف شخص، تضرر منهم حوالي النصف، حسب الإحصائيات، إما جسمانياً أو عمرانياً. لكن حجم الخسائر المادية بالأرقام يظل متذبذباً، بسبب خصوصية المناطق المتضررة. وقد حاولت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية تقدير حجم الأضرار المادية، فقدّرتها بـ 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للمغرب، أي حوالي 11 مليار دولار، من أصل حوالي 134 مليار دولار هي الناتج المحلي الإجمالي المغربي لعام 2022، وفق بيانات البنك الدولي.

جلُّ نواحي المنطقة غير صالحة للزراعة بسبب الطبيعة الحجرية للتربة. وتبقى تربية المواشي - الماعز بشكل أساسي - جزءاً رئيسياً من مواردهم. وهذه المنطقة تمثل المغرب "غير النافع" بحسب الاستعمار الرنسي. أما المغرب "النافع" فهو سهول الغرب حيث الخصوبة وانتعاش الزراعة، والمدن الساحلية على الأطلسي والمتوسط، مع تفاوتٍ بينها. لكن ماذا عن الدولة، أين هي من ذلك كله؟

لكنّ تقديرات الوكالة غير دقيقة بالنظر إلى خصوصية المنطقة وانعدام البنية التّحتية في بعضها، التي تقيّم الخسائر وفق درجة دمارها. مما دفع جهات مغربية إلى تقديم تقديرات بعُشر المبلغ، أي ما لا يزيد عن مليار دولار.

كما أدّت بعض العوامل إلى تخفيف خسائر الزلزال على بشاعته، على الرغم من تقارب القوة بين زلزالي تركيا والمغرب. إذ لعب قصر مسافة الصدع دوراً في تخفيف الخسائر، فبينما بلغ حوالي 300 كيلومتراً في تركيا، لم يتجاوز 30 كيلومتراً في المغرب. وبالتالي، فإن الطاقة المرسلة تحت الأرض أقل حجماً فأخذ الزلزال بعداً محلياً فقط.

خسارة التاريخ أمام لؤم الجغرافيا

هناك أيضا خسائر غير مباشرة، ناجمة عن تأثر قطاعات رئيسية، مثل القطاع السياحي الذي يعتمد عليه المغرب بشكل كبير في النمو الاقتصادي. وقد اهتزت صومعة جامع الكُتبية، أحد أهم معالم المغرب التاريخية ومصدر رزق أهل بعض القرى القريبة. كذلك دُمّرت بشكل شبه كامل، مئذنة مسجد خربوش العتيق، في ساحة جامع الفنا. وتضررت مناطق واسعة من الجزء التاريخي لمدينة مراكش، التي كانت أقرب المدن الكبرى لمركز الزلزال. فتحطمت أجزاء من سور المدينة المدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، إلى جانب بعض المنازل القديمة.

تقارب نسب التعليم والتطبيب والبنية التحتية هناك الصّفر. وتعرف هذه المناطق مؤشر الفقر الأعلى في البلاد لعدم إنتاجها أي ثروة، كما لا تمثل أي أهمية استراتيجية للمخزن السياسي ولا للمخزن الاقتصادي، بل يراه كل منهما محض عبء. مع الإشارة الى أن هذه المناطق، الأمازيغية، كانت الأعنف في مواجهة الاستعمار، مثلها مثل أمازيغ جبال الريف.

قد ينحصر ما أنتجته المنطقة للدولة في الجنود. فالشباب، مع غياب آفاق مهنية وضعف التعليم والفقر الشديد، لا يجدون سوى التجنيد كمهنة تقبلهم بلا تردد. وهي مهنة للأكثر فقراً لما فيها من تعب وعمل شاق على الحدود الغابوية أو الصحراوية، في البرد والحر على حد سواء، وهي ظروف لا يتحملها أهل المدن. 

أما أكبر ضربة لآثار المغرب في المنطقة، فكانت انهيار مسجد "تينمل"، مهد الدولة الموحِّدية والمصنف تراثاً عالمياً، حيث تعرض إلى دمار شبه كامل، لم يبق منه سوى بضعة أسوار. المسجد الذي بُني في القرن الثاني عشر، في أحد أودية جبال الأطلس، حيث أقامت دولة الموحِّدين عاصمتها الأولى، كان مصدر مدخول القرى القريبة منه من السياح الذين يقصدونه.

تعني كلمة "تينمل" المزار أو المحج، والمكان المقدس الذي تجتمع فيه القبائل لعقد المواثيق والعهود فيما بينها. هذا الطابع الروحي كان عاملاً أساسياً في اختيار ابن تومرت (مؤسس الدولة الموحّدية) للمنطقة عاصمة لحركته. وها هو الزلزال يفرق الناس عنه، بعد أن دمره. وتعرّض "سور تارودانت"، ثالث أعظم سور في العالم، من حيث الضخامة والارتفاع بعد سور الصين وسور كومبالغار في راجستان بالهند، إلى أضرار جسيمة.

مسجد تينمل قبل الزلزال

في المنطقة المحيطة بمراكش، تضرّرت قرية "مولاي إبراهيم"، المعروفة بكونها مقصداً سياحياً جبلياً في إقليم الحوز، بؤرة الزلزال. ومسّ الزلزال، ضمن ما مسه بسوء، قصبة "أكادير أوفلا" التي تعود إلى عهد الدولة السعدية في القرن السادس عشر.

فوائد مرجوّة تلي المصائب

تأخّرت الاستجابة لإسعاف ضحايا الزلزال، لكن حالما بدأت، تواترت. خاصة في فتح الطرق التي دُمّر بعضها بالكامل، بسبب وقوع انهيارات كبيرة احتاجت إلى بضعة أيام حتى يُفك الحصار عن القرى خلفها. لذا استجارت الحكومة بالشعب لدعم ضحايا الزلزال، والتكلف بالحاجيات الأولية من أغذية وأفرشة، في خطة استراتيجية لتخفيف الضغط عليها وتوزيع جهدها على فك الحصار.

وبدأ من الآن الحديث عن إعادة البناء، خصوصاً مع الدخول التدريجي في فصل الشتاء، حيث لن تكفي الخيم التي تتكاثف الجهود لتوفيرها في الوقت الحالي. وبدل الأبنية الهشة التي هدمها الزلزال، ستستفيد المنطقة من إعادة الإعمار وفق معايير جديدة قد توفر حياة أفضل لأهل المنطقة.

المشكل الأساسي في إعادة البناء أنه ما من شيء كان هناك أصلاً غير بيوت طينية صغيرة. إذاً ربما علينا الحديث عن البناء لا إعادة البناء، مد الطرق لا إعادة فتحها، إلى غير ذلك من لائحة طويلة، مما تحتاجه القرى، التي عمّق الزلزال جراحها الأبدية.

أكبر ضربة لآثار المغرب في المنطقة هي انهيار مسجد "تينمل"، مهد الدولة الموحِّدية والمصنف تراثاً عالمياً، حيث تعرض إلى دمار شبه كامل، لم يبق منه سوى بضعة أسوار. المسجد الذي بُني في القرن الثاني عشر، في أحد أودية جبال الأطلس، حيث أقامت دولة الموحِّدين عاصمتها الأولى، كان مصدر مدخول القرى القريبة منه من السياح الذين يقصدونه.

وإذا كانت حاجة ضحايا الزلزال إلى حلول عاجلة للسكن، فإن عملية "إعادة الإعمار" تحتاج خمس أو ست سنوات حسب رئيس مجلس المستشارين، الذي ترأس اجتماعاً عقدته لجنة المالية والتنمية الاقتصادية من أجل إحداث الصندوق الخاص بتدبير الآثار المترتبة على الزلزال، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تخصيص 15 في المئة من الدخل الوطني.

مقالات ذات صلة

بفضل هذه العملية يُعتقد أن المغرب سيضيف بين نقطة إضافية ونقطتين الى معدل النمو. كما أن التبرعات الخارجية والداخلية ستُعطي دفعة لقطاع البناء والبنية التحتية، مما يتوقع معه أن تتبلور دينامية اقتصادية. إذ من المرتقب أن تنتعش المبيعات في مواد البناء، إضافةً إلى تحويلات مغاربة الخارج لأسرهم في المنطقة. فعملية إعادة البناء تخلق الثروة، ما جعل بعض المحللين يُذكّرون بالمقولة الشهيرة للاقتصادي كينز "إذا أردتم تحريك الاقتصاد احفروا حفراً كبيرة وأعيدوا ردمها من جديد". لكن في هذه الحالة، كانت الحفر موجودة وما فعله الزلزال أنه عمّقها فقط، ولعل في ذلك نفعٌ ما في المستقبل، إذا التزمت الحكومة بمسؤوليتها ووعودها، على الرغم من أن جلّ المغاربة فقدوا ثقتهم فيها. 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...