الساموراي الأخير

هكذا تحيا ليلى سويف حرة الإرادة، متسقة مع مبادئها، فعلها متسق مع ما تعتقده في صميم قلبها، رمزًا يحتذى به. هكذا تمارس الأمومة والتدريس والسياسة. بهذا المنطق، تبدو اختياراتها دائمًا واضحة وعقلانية، لا تحيد عن مشوارها ولا تغير من مسارها لأي سبب حتى إن كان ضغط المحبة وخوف الأهل والأصدقاء. فالأمور واضحة والهدف سليم، فلماذا التردد وإن غلى الثمن؟
2025-06-19

شارك
أحمد حرارة وليلى سويف، الصورة من موقع مدى مصر

من موقع "مدى مصر"

أحمد حرارة

في مشهد نهاية فيلم الساموراي الأخير، أهدى البطل سيف الساموراي للإمبراطور الشاب الضعيف، فسأله الإمبراطور: «هل ستحكي لي كيف مات (الساموراي)؟» فرد البطل: «بل سأقص عليك كيف عاش».

من يتتبع سيرة ومواقف دكتورة ليلى سويف سوف يستوعب ما تفعله من أجل ابنها علاء عبد الفتاح. إن الوضع الصحي للدكتورة ليلى يجعل الكثير من محبيها على درجات عالية من الهلع والحزن وربما فقدان الأمل من فرط إحساسنا بالعجز أمام كل هذا الظلم. أرى أصدقائي وقد أعياهم الهم والخوف عليها وأفهمهم، ولكني اختلف معهم، حيث لا يمكننا اختزال مشوار وفكر ليلى سويف في قرار واحد مهما كان صعبًا. إذا توقفنا لحظات لنتأمل رحلتها ومواقفها، سننخرط فيما تفعله الآن أكثر، فنملأ قلوبنا بالفخر والأمل حتى في لحظات الألم.

مقالات ذات صلة

تعلمت أن الفيلسوف ليس من يحب الحكمة فقط بل من يعيشها بشكل تلقائي دون تكلف، مثل التنفس، تفعله لا إراديا. تحدث أنطونيو جرامشي في مؤلفات السجن عن مفهوم المثقف العضوي، الذي يعيش بين الناس، يتفاعل معهم ومع مشاكلهم، ويكون مدافعًا عنهم. هو المثقف المنخرط في قضايا طبقته الاجتماعية، خصوصًا قضايا الطبقات المهمشة أو الثورية. لا يكتفي بالتنظير، بل يشارك في التنظيم والتغيير الاجتماعي، يمثل أداة للوعي الطبقي، ويساهم في صياغة أيديولوجيا بديلة مناهضة للهيمنة. إن ليلى سويف في رأيي هي المثال الحي للمثقف العضوي.

هذا موقف يدلل على كيف تمارس الدكتورة ليلى السياسة. في عام 2012 في ذروة عدائي الشخصي لجماعة الإخوان المسلمين بسبب تحالفهم مع المجلس العسكري والتفافهم على مطالب الثورة، نصحتني الدكتورة ليلى بأن أسعى لفتح قنوات حوار مع شباب الإخوان لأنهم ليسوا مسؤولين عن أفعال قادة الجماعة، والأهم هو توصيل فكرنا لهم فيمكن إقناعهم وبالتبعية إنقاذهم. أعماني غضبي عن رؤية حكمتها وإلمامها بالأمور وبعد نظرها، فبمنتهى الغباء لم أفعل ما نصحتني به حينها.

وهذا موقف عن كيف تُقارب مهنتها. في إحدى جلسات محاكمة علاء عام 2021 في مبنى نيابة أمن الدولة العليا، تجمع الكثير من الأصدقاء وأسرة علاء لمتابعة سير القضية العبثية التي يحاكم عنها علاء (والتي أنهى فترة محكوميتها بالفعل بالكامل في سبتمبر الماضي وهي السبب وراء إضراب دكتورة ليلى وعلاء عن الطعام الآن)، كانت تسير الدكتورة ليلى ومعها حقيبة أوراق ضخمة للغاية. في انتظار بدء الجلسة ووصول علاء من السجن، وجدتها منكبة على تصحيح أوراق أبحاث لطلبتها في الكلية. سألناها: هل هذا وقته؟ ما أهمية هذه الأوراق وسط كل ما يحدث؟ كان ردها: وما ذنب طلبتي في تحمل ذلك؟ هذا عملي وهم طلبتي وهذا واجبي. وبمنتهى الحرص والتركيز استغرقت في قراءة ومراجعة أوراق طلابها، وجلسنا كلنا في الإنتظار.

وهنا كيف تمارس حياتها. بعد أن أعلنت الدكتورة ليلى عن بدءها في الَإضراب الكامل عن الطعام في سبتمبر الماضي، بدأ مجموعة من الداعمين لقضية علاء حملة لمساندتها بالصيام التبادلي. كل يوم يضرب أحدنا عن الطعام إعلانًا منا عن التضامن مع مطالب الدكتورة ليلى المشروعة، والتي تتمثل في خروج ابنها من السجن بعد أن قضى مدة الحكم بالكامل. أضربت عن الطعام بشكل رمزي ليوم واحد تزامنًا مع اليوم السادس والخمسين من إضراب دكتورة ليلى سويف، ووجدت الإضراب أمرًا صعبًا وأنا من صمت يومًا واحدًا، فما بالكم بمن تضرب بالأشهر، كل يوم، بلا انقطاع أو تهاون. عندما أخبرتها بذلك في زيارة لها، كان ردها، وببساطة، أن الأسبوع الأول دائمًا هو الأصعب.

ثم أخذت تحدثني عن محاضراتها التي ذهبت إليها يومها في جامعة القاهرة، وكيف حاول الزملاء والأصدقاء إعفائها من القيام بها حتى ترتاح، فيما تتمسك هي للحظة الأخيرة بمقابلة طلبتها ومتابعة عملها بشكل طبيعي، وكأن حياتها عادية ويومها عادي. كانت تصر أن تنزل وفي أحيان كثيرة تركب الميكروباص للجامعة، وتتهرب من محاولات الأصدقاء لتوصيلها بسياراتهم الخاصة للجامعة لأنها «كويسة».

في اليوم الـ218 من إضرابها عن الطعام، أي بعد أكثر من سبعة أشهر من نهاية فترة سجن علاء القانونية، كنا في زيارة لها مع بعض الأصدقاء، وأخذنا الحديث إلى الأزمة العالمية والهاوية التي يجري نحوها العالم بجنون وسرعة، فتحدثت الدكتورة ليلى عن فشل اليسار في تقديم مشروع بديل للهيمنة الرأسمالية وتحمله جزءًا كبيرًا من المسؤولية عما آل إليه الوضع. تسمع لها وتتعلم لا فقط من منطقها وفكرها ولكن من قدرتها البديعة على الاستمرار والتفاعل والمناهدة مع الدنيا.

علاء ليس هو المعتقل الوحيد التي تناضل من أجله. تتابع صفحتها على فيسبوك لتلاحظ اهتمامها الدائم بقضايا المعتقلين السياسيين دون تفرقة. تتحدث عن العديد منهم، تسرد أسمائهم وقصصهم، وتصطحبها دائمًا بهاشتاج «الحرية لهم جميعا».

هكذا تحيا ليلى سويف حرة الإرادة، متسقة مع مبادئها، فعلها متسق مع ما تعتقده في صميم قلبها، رمزًا يحتذى به. هكذا تمارس الأمومة والتدريس والسياسة. بهذا المنطق، تبدو اختياراتها دائمًا واضحة وعقلانية، لا تحيد عن مشوارها ولا تغير من مسارها لأي سبب حتى إن كان ضغط المحبة وخوف الأهل والأصدقاء. فالأمور واضحة والهدف سليم، فلماذا التردد وإن غلى الثمن؟

حياة حافلة ومسيرة عامرة وطريق صعب، لا يمكننا اختزاله في قرار ليلى سويف بالإضراب عن الطعام لنصل لحرية علاء أو لنهاية الرحلة.

فلنحتفل بحياة ليلى سويف.

مقالات من مصر