مئوية عبد الهادي الجزار: الفنان الذي استردّ للمصريين فنّهم

صنع عبد الهادي الجزار في ثلاثة عقود من عمره ثورة في التصوير المصري الحديث، بأعماله التي خاطبت الواقع وحاورته وجسدته، وسردت قصصًا من التاريخ المصري في حقبة شديدة التقلب شهدت أحداثا خطيرة على المستويين الاجتماعي والسياسي.
2025-06-07

شارك
لوحة بعنوان العهد (1958)، عبد الهادي الجزّار.

مطلع هذا العام احتفلت مصر في أبرز فعالياتها الثقافية، معرض القاهرة للكتاب، بمئوية الفنان التشكيلي المصري الراحل عبد الهادي الجزار، والمولود في آذار 1925. الاحتفال جاء عن طريق التذكير بـ«الكاتالوج المسبب» الذي اضطلع بمهمة جمع مقالات عن الجزار وتصوير لوحاته، وقد عمل على إنجازه خبير الفنون المهندس حسام رشوان، والناقدة التشكيلية الفرنسية فاليري هيس. والكاتالوج هذا كان قد طبع أوّل مرة عام 2023، وجرى الاحتفاء به بحضور عائلة الفنان وبناته. لكن باستثناء هذه الفعاليات، لم أعثر على تناول لائق لهذا الفنان الذي فتح نافذة لوحته للمصريين، مستردًا الفن لهم من الذين حبسوه في القصور.

صنع عبد الهادي الجزار في ثلاثة عقود من عمره ثورة في التصوير المصري الحديث، بأعماله التي خاطبت الواقع وحاورته وجسدته، وسردت قصصًا من التاريخ المصري في حقبة شديدة التقلب شهدت أحداثا خطيرة على المستويين الاجتماعي والسياسي. ولم تكن لوحاته مجرد أعمال تبتغي الطموح الشخصي لفنان ما، بل كانت تطمح أن تسرد قصة أمة ووطن يمرّ بتحولات غير عادية، شهدها الجزار في عقوده التي مارسَ فيها الفن. ويبدو أن الجزار كان مهجوسًا بمعاناته مع مرض القلب الذي أصابه وهو شاب في سنته الأولى بالمدرسة العليا للفنون الجميلة، الأمر الذي أخّره عن زملائه، فاعتصر تجربته الفنية خلال نحو 21 عامًا، وقدّم أعظم إبداعاته في هذه الفترة القصيرة، بغزارة إنتاج لم تُفقِد فنه طابع الجودة. ليترك حين رحيله عن الدنيا، بعد معاناة من المرض، وبعد أسبوعين قضاهما في مستشفى المبرّة في آذار 1966، حوالي خمسة آلاف لوحة واسكتش، وله من العمر 41 عامًا.

حينما بدأ عبد الهادي الجزار ممارسة فن التصوير نهاية الثلاثينيات، لم تكن الأرض ممهدة له تمامًا، إذ واجه عقبة مثلت له ولأغلب الفنانين السابقين عليه معضلة حقيقية، فالجزار الذي انتمى لأسرة حصل جدها الأكبر على شهادة العالمية من الأزهر بعد مجيئه من سوريا، واشتغل والده الشيخ محمد عبد الله الجزار أيضًا عالمًا أزهريًا، اصطدم برغبة عائلته ألا يعمل بالفن أو يدرسه. وكانت رغبة والده أن يعمل في الطب أو في أيّ مهنة أخرى غير التصوير الزيتي. وبالفعل التحق الجزار بكلية الطب، ثم غادرها بعد عام واحد غير آسفٍ، محوّلًا بوصلته نحو كلية الفنون الجميلة، التي كانت تسمى آنذاك المدرسة العليا للفنون الجميلة. كان ذلك عام 1944، أي حينما كان الجزار في التاسعة عشرة من عمره.

الجزار في طفولته يقف على يمين والده الشيخ محمد عبد الله الجزار. المصدر: أرشيف العائلة.

قبلها سيتعرف الفتى على مدرّس الرسم حسين يوسف أمين في جمعية الرسم بمدرسة الحلمية الثانوية. هذا اللقاء سيكون محطة مهمة في حياته، إذ إن الناقد الفرنسي الشهير «إيمي آزار» يصف تاريخ التصوير المصري الحديث بأنه يبدأ عند هذا الرجل؛ حسين يوسف أمين أستاذ التربية الفنية الذي يعود إليه فضل تأسيس جماعة الفن المعاصر عام 1946. كان أمين أيضًا قد قطع رحلة طويلة مهمة في الفن والتعرف على مدارسه وممارساته، للدرجة التي جعلته أستاذًا لتلك المجموعة من الطامحين لتحويل دفة الرسم والفن المصري لناحية أخرى غير المؤثرات الغربية.

قاد حسين يوسف أمين هذه الموجة من الثورة الفنية الثانية، التي سماها الناقد التشكيلي ووزير الثقافة سابقا بدر الدين أبو غازي: ثورة الفنانين الشرقيين الجدد. أما الناقد الفرنسي إيمي آزار فيقول في كتابه التصوير الحديث في مصر «إن التصوير المصري بدأ بفضل معجزة حوالي عام 1946». ورغم أن كثيرين يعتقدون أن من الممكن إرجاع هذه البداية للسنوات الأولى من القرن العشرين إلّا أن آزار يرى أن ذاك التصوير كان يحتفظ إلى حد كبير إمّا ببصمات الانطباعية الإيطالية، كما جسدها سيجانتيني، أو بالصورية الضيقة التي أوحى بها جياكومو فافوريتو، بالإضافة إلى المدرسة الأكاديمية المفروضة من جانب مدرسة الفنون الجميلة. ورغم وجود مصورين مصريين جيدين هما محمد ناجي ومحمود سعيد، إلا أن كليهما لم يشكلا مدرسة، لأن رسالة كل منهما كانت ذاتية، يقول آزار.

الجوع للطعام، وللاستقلال، ولفن مصريّ

لنفهم جيدًا الظروف المؤهلة لظهور عبد الهادي الجزار كمصور في هذه الحقبة، لا يمكننا أن نكتفي فقط بتاريخ المدارس الفنية، بل لا بد من تحليل التاريخ تحليلًا واقعيًا. عاشت مصر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حقبة شهدت انغلاقًا تامًا في مجال الفن والقيم الفكرية، وكانت جماعة الفن والحرية التي أسسها جورج حنين وكامل التلمساني ورمسيس يونان قد أدت دورها في مواجهة الفاشية والنازية نهاية الثلاثينيات مع اندلاع الحرب وبدايات الهجمات النقدية التي مارسها النازيون على فنون بيكاسو وغيره، ولعب مؤسسو «الفن والحرية» بجدارة دورهم الأصيل في التمرد على القيم المحافظة التي أرادت السيطرة على الفن واختطافه، ولكن بقي ثمة جوع في قلوب الفنانين للنزعات المحلية، وجوع حقيقي في بطون الأغلبية الكبرى من المصريين الذين طحنتهم ظروف الحرب وتسببت في اضمحلال أحوالهم الاقتصادية. كما كانت الأوضاع السياسية المحلية تشهد تقلبًا كبيرًا بائسًا، فالدبابات الإنجليزية تحاصر قصر عابدين وتجبر الملك فاروق على قبول تعيين وزارة مصطفى النحاس عام 1942، ثم انتهت الحرب العالمية الثانية فتصاعدت مطالب المصريين بالاستقلال وبرزت دعوات غاضبة كانت قد كُتِمت طوال سنوات الحرب من ممارسات الإنجليز وتعرّض الأراضي المصرية للقصف من النازيين. وكما كانت تتشكل حركة فنية جديدة هي «الفن المعاصر» برئاسة حسين يوسف أمين، وعضوية الجزار، كانت البلاد تموج سياسيًا بانقسامات وتشكلات لجماعات سياسية جديدة؛ حزب الوفد الذي مثلّ الأغلبية المهيمنة ينقسم على نفسه ويتفتت، وتظهر على السطح جماعات بأيدولوجيات مختلفة مثل جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة مصر الفتاة، ومجموعة من التنظيمات الشيوعية. وبينما تتبنى حكومة النقراشي بيانًا يدعو لوحدة وادي النيل ويطالب بالجلاء، يماطل الاحتلال الإنجليزي ثم يرفض في أوائل 1946 أي تغيير في بنود معاهدة 1936. هذه الأحداث تقع في المشهد السياسي المصري في العام نفسه الذي يؤسس فيه حسين يوسف أمين جماعته ويضم إليها تلاميذه في مدرسة الفن الذين تابعهم حتى بعد دخولهم المدرسة العليا للفنون الجميلة، وكانوا عبد الهادي الجزار وسمير رافع وحامد ندا، وإبراهيم مسعودة وكمال يوسف ومحمود خليل وماهر رائف وسامي الحبشي.

عبد الهادي الجزار واقفًا بجوار لوحته «جسم هابط من السماء»، وإلى يمين اللوحة يقف حسين يوسف أمين مرتديًا نظارة سوداء. المصدر: أرشيف العائلة.

أفول عهد استبدادي وبزوغ ثورة فنية

بينما كان عهد فاروق يأفل والأحوال السياسية تزداد اضطرابًا، يتفق هؤلاء الفنانون على تكوين جماعة فنية تسترد للمجتمع فن التصوير الذي كان قبلهم فنًا مهادنًا غرضه البهجة والزينة، حبيس القصور والطبقة الأرستقراطية، باستثناءات قليلة طبعا كأعمال محمود سعيدـ. تيقنت الجماعة أن هذا الفن فقد مقوميْن مهمين هما الحرية والإبداع، وصار غريبًا عن الشخصية المصرية فأصدرت بيانين، الأول بمناسبة إقامة أول معرض لفناني الجماعة عام 1946 ذكّروا فيه بضرورة خلق قيم جديدة تحل محل النسيج الفكري الكامن وراء فهم الناس للطبيعة وعلاقاتهم فيها على أساس غير صحيح. كما شرحت جماعة الفن المعاصر في بيانها أن الفنان إذا لم يطو في نفسه الفيلسوف فسيظل بعيدًا عن كل القمم التي يأمل في الوصول إليها.

وبعد هذا المعرض بعامين، أقامت جماعة الفن المعاصر معرضها الجماعي الثاني، ونشرت تزامنًا معه بيانًا جديدًا، شددت فيه على أن الفنان هو المكتشف والقائد الذي يفتح أمام الإنسان إدراكه ويرهف حساسيته ويعمق نظرته كخطوة للسيطرة. وعاودت الجماعة هجومها على كل الاتجاهات المسايرة للفنون التقليدية التي لا يمكنها أن تواجه روح العصر.

كانت الجماعة تسترد الفن المختطف من الناس وترده إليهم. وهكذا إذا رصدنا إنتاج عبد الهادي الجزار منذ بداياته مع معرض الجماعة الأولّ وحتى لوحته الأخيرة، سنجد أنه ألزم نفسه بفكرة ارتباط الفن بالحياة، وبالوعي بالأوضاع الاجتماعية، وجعلَ اللوحة نافدة لها.

ومن وعيه بأوضاع الناس ومواكبته لأحوالهم، جاء نقده للسلطة، حتى لو كان ثمن هذا النقد هو السجن.

لكن قبل الحديث عن واقعة حبسه بسبب لوحة «الجوع» أو «الكورس الشعبي»، من المهم التطرّق سريعًا إلى المرحلة التي سماها حسين يوسف أمين عند الجزار بالمرحلة التحضيرية، بينما سماها صبحي الشاروني بمرحلة «فناني القواقع» وفي هذه المرحلة كان اتجاه الجزار يميل للطبيعة بفعل تأمله في بيئته السكندرية الأولى. في تلك المرحلة سيبدع لوحات «امرأة في قوقعة» و«رجل في قوقعة» و«الإنسان والقواقع» و«آدم وحواء».

يزداد اقتراب عبد الهادي الجزار من أبناء بلده، حينما يسكن وأسرته بالقرب من مسجد الرفاعي بعد الانتقال من الإسكندرية إلى القاهرة، وتأتي هذه السكنى ملاصقة لحي السيدة زينب، وحينها يحتك بقوة برواد الموالد ومرتاديها. ستكون هذه المرحلة نهاية الأربعينيات هي المميزة لثورته الفنية عبر مسيرته. ولأن هدف الجزار، ومن ورائه هدف الجماعة، الاقتراب من الناس وفتح مصراعي اللوحة لهم، سنرى هنا لوحات «فرح زليخا» و«عربة السيرك» و«المجنون الأخضر» و«قارئ الفنجان» و«جلسة تحضير الأرواح». وبسبب هذه الرغبة الصادقة في منح الشعب فنه، والتعبير عن آلامه وأوجاعه وفقره ومعاناته، سيصبح الجزار مادة وعنوانا للصحف، وستصبح اللوحة مدانة، وستصبح لوحة «الجوع» التي رسمها عام 1948 موضع اتهام له، خاصة بعدما زين الفنان لوحته بمقولة «هؤلاء هم رعاياك يا مولاي».

تحدي السلطة الآفلة، أعني بها النظام الملكي الذي كان يضطرب تحت ضربات انقسامات حزبية وانشقاقات حكومية، وهجوم من المحتل على سياساته، كان كافيًا كي ترى أجهزته القمعية في البطش بالجزار وسيلة لإسكات صوت فنان رفض غض البصر عن أوجاع ناسه.

لوحة «الجوع»، أو «الكورس الشعبي». وعلى إثر هذه اللوحة سجن الجزار.

في أعماله، لم يغمض الجزار عينيه عن العادات المتأصلة في مجتمعنا، ولم ينبذها كما فعل غيره باعتبارها مظهرًا من مظاهر التخلف، وإنما جاب الموالد والتقط المظاهر العجيبة كفنان أصيل يغمس نفسه في مجتمعه، فبرزت في لوحته التمائم والتعاويذ وعادات السحر والشعوذة التي يلقي فيها الفقراء أنفسهم هربًا من واقعهم الصعب. وجسّد الجزار كل ذلك في لوحته لا ليروج له، بل ليدينه، وليدين النظام الحاكم الذي تشاغل عن شعبه. فسقوط سواد الناس في الخوف من المجهول، وإلقاء أنفسهم في دوامات الخرافة هو مسؤولية النظام وأجهزته الحكومية المختلفة.

مع هذه اللوحات لم تكن مواجهة الجزار مع الدولة فقط، وإنما كذلك مع نقاد اتهموه بالترويج للشعوذة، وتمجيد النماذج البشرية الغارقة في الأوهام، وأنه نقل بخار الخرافة وعادات الدجل والشعوذة إلى لوحته.

ولادة الجزار في حيّ القباري بالإسكندرية ثم نشأته بالقرب من البسطاء في موالد السيدة زينب، وسكنه بالقرب من مسجد الرفاعي في قاهرة محمد علي، كلّ ذلك جعله متصلًا بهؤلاء المصريين الذين يحافظون على تقاليدهم، ويتقربون لآل البيت، ويعودون من الموالد بالأحجبة والتمائم، لتحصين أنفسهم ولتحسين حيواتهم. ولذا كانت لوحته في هذه المرحلة غزيرة الإنتاج بين عامي 1948 و1951 ترغب في أن تقبض على كل شيء، وأن تسبر غور المجهول، وتلتقط الصراع مع الفقر والشياطين واللاعقلانية والأساطير.

لنتأمل بعض لوحات تلك الفترة، مثل: «مصباح الظلمات» و«المجنون الأخضر» و«فرخ زليخة» و«أبو أحمد الجبار» و«الزار» و«تحضير الأرواح» و«المرأة ذات الخلخال» و«الماضي والحاضر والمستقبل» أو «مفتاح الزمن» و«العائلة». كلّ هذه اللوحات، وعناوينها اللافتة، تقول لنا لأي عالم كان الجزار يفتح لوحته، لعالم السحر. تقتبس الكتب والمقالات التي تتحدث عن سيرة الجزار مقولة له من تلك الفترة: «دعني أعيش في السحر الذي أحبه فإني لا أريد أن أعرف ما هي الأشياء».

لوحة «إنسان السد العالي»

من التعاويذ والتمائم إلى المكائن والتروس

وإذا انتقلنا إلى الفترة التي عاشها الجزار في إيطاليا دارسًا للفنون في السنوات بين 1957 حتى 1961، سنجد أن تأثير الحقبة على فنه كان بليغًا، وأن الحوار مع الفنانين الأوروبيين وأعمالهم كان له من قوة التأثير أن وجه الجزار لوحته إلى وجهة جديدة، وفتح لها آفاقا مختلفة عن آفاقه السابقة، فقد استوقفته على سبيل المثال أعمال الفنان بورديلفو كما يشير صبحي الشاروني،[1] عندما زار الجزار في بروكسل سنة 1958، وأخذ في تتبع أعماله. ثم بدأت هذه الرحلة الأوروبية تلفت أنظار الجزار لما يحدث في العالم نهاية الخمسينيات من تطور ملحوظ، كان على رأسه الاهتمام بالعلم، وهيمنة الآلة والميكانيكا على المجتمعات، ولعل دخول مصر في عصر تشييد مشروع ضخم كالسد العالي، هو الذي جعله ييمم لوحته تجاه هذه الآفاق.

لوحة «تكريم عمال قناة السويس» (1965)

يعود الجزار إلى مصر، ويزور السد العالي، وتبدأ حقبة جديدة في أعماله، يصبح الإنسان في هذه الحقبة ماكينة، وأعضاؤه تروسا، وجلده حلقات معدنية من الصواميل العجيبة الضخمة المستديرة أو المكعبة. وتبدأ اهتمامات الجزار بالعلم تغزر، ويتطلع إلى السماء أكثر فأكثر. وكما يقول الناقد التشكيلي صبري منصور الذي كان طالبًا من طلبة الجزار في الفنون الجميلة، إن عبد الهادي كان يحثهم دائمًا على الانشغال بمجتمعهم وقضاياه وضرورة مواكبة الفنان لأحداث عصره، ليأتي تعبيره وإبداعه الفني منفعلًا بها. ولهذا سيبدع بين عامي 1962 و1963 لوحات «رجل الفضاء» و«الحزام المغناطيسي»، و«ميلاد كوكب» ثم ستكون أعجوبته الفنية «إنسان السد العالي» حينما يزور المنطقة ويشهد عن قرب تشييد السد عام 1963.

حلت الآلات والماكينات والتروس عند الجزار محلّ التعاويذ والتمائم والأحجبة، والحيوانات. والخرافة والأسطورة صارت بمجاز جديد هي الآلة والماكينة والحديد. لقد شيد الجزار في لوحته مَعبَرًا بين مصر التي كانت غارقة في خرافتها في عهد ما قبل ثورة يوليو إلى مصر التي تُشيد وتبني وهي مهمومة بجمع شتات نفسها لتلحق بركب الأمم.

لقد كانت مئات التفاصيل المعدنية والحواجز العجيبة التي تشكل عنق عملاق لوحته «إنسان السد العالي» بمثابة ورشة تصنيع هائلة، تمر فيها الأمة المصرية عبر هذا العنق العجيب الشاهق. أما لوحته الأخيرة، فكما يرى صبري منصور في مقاله عن الجزار، كانت بمثابة لوحته الجامعة لمشواره، كما لو كان يستشرف نهايته ويشعر بدنو الأجل. كانت لوحة «السلام» التي نفذها سنة 1965 كما يشير منصور، تحوي عالم البحر والقواقع، والشخوص الشعبية، والحيوانات الأليفة التي صحبته في لوحاته كالحصان والقط، وتضم أيضًا بين ما تضم إنسان الفضاء، كل ذلك أسفل جناحين عملاقين، يحتضنان كل هذه المراحل الفنية العذبة التي قطعها في حياته.

لوحة «السلام» (1965)، وهي اللوحة الأخيرة للجزار.

يُستعاد الجزّار اليوم أكثر من ذي قبل؛ يُستعاد الحوار مع القضية الإشكالية التي أثارها وهي قضية التصوير الواقعي للجسد العاري،[2] ويُستعاد أيضًا في فضاءات سوق الفن حينما يُعثر فجأة على لوحة له كانت ضائعة، ويقوم صاحب مقهى من مقاهي القاهرة الشعبية بتسليمها، بعدما ظلت اللوحة حبيسة مخزن تاجر أثاث لعقود. وكانت الاستعادة الأكبر لفن الجزار، حينما نُشر عام 2023 كاتالوج أعماله المسبب.

مقالات من مصر

القتل خارج إطار القانون.. كيف عادت الشرطة المصرية إلى سيرتها الأولى؟

نجيب صالح 2025-05-08

في لحظة مهيبة، وتحت إشراف كبار العائلات والمشايخ، قرر الشابان (17 و18 عاماً) تسليم نفسيهما للسلطات، كمبادرة لإطلاق سراح النساء المحتجزات كرهائن، مؤكّدَين براءتهما من أية علاقة بمقتل ثلاثة أفراد...