القتل خارج إطار القانون.. كيف عادت الشرطة المصرية إلى سيرتها الأولى؟

في لحظة مهيبة، وتحت إشراف كبار العائلات والمشايخ، قرر الشابان (17 و18 عاماً) تسليم نفسيهما للسلطات، كمبادرة لإطلاق سراح النساء المحتجزات كرهائن، مؤكّدَين براءتهما من أية علاقة بمقتل ثلاثة أفراد من الشرطة في يوم 9 نيسان/ أبريل 2025. لكن في صباح اليوم التالي، رافقتهما قوات الشرطة إلى طريق السلّوم الصحراوي. هناك، وفي ظل الشمس الحارقة، أطلقت عليهما النار بلا محاكمة، بلا أدلة، وبلا رحمة.
2025-05-08

نجيب صالح

باحث مقيم في فرنسا


شارك
فرج رباش الفزاري (18 عاما) ويوسف عيد فضل السرحاني (17 عاما)، قتلتهما الشرطة المصرية في 10 نيسان / ابريل 2025

مشهد أول:

في ظلال القضبان الحديدية، وقف المجند أحمد سبع الليل، الشاب الريفي الفقير، الذي كان يعتقد أن مهمته حماية الوطن من الخونة، ومن حوله تتعالى أصوات المعتقلين السياسيين. يجد نفسه في مواجهة مع مدير السجن، الذي زرع في ذهنه فكرة أن هؤلاء المعتقلين ليسوا سوى عملاء يتآمرون على مصر. لكن هذه القناعة تبدأ في التلاشي عندما يُعتقل ابن قريته حسين وهدان، الجامعي المثقف الذي علّمه المبادئ الوطنية.

يلتقي "سبع الليل" بصديقه داخل المعتقل. ويدرك أن الحقيقة ليست كما تمّ تلقينه، وأن التعذيب والظلم الذي يشهده ليس دفاعاً عن الوطن، بل جريمة ضد الإنسانية. ومع مقتل "حسين" بلدغة ثعبان سام، في نوع من التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون داخل السجن، يثور "سبع الليل" ندماً على ما فعل بالأبرياء، ويقرر الانتقام.

كان هذا المشهد من فيلم "البريء" الذي أُنتِج في آب/ أغسطس من العام 1986، وعَرض لمحات من الفساد السياسي في مصر بعد سياسة الانفتاح التي طبقها الرئيس السادات، وبالتحديد خلال فترة ما سمته السلطة بـ"انتفاضة الحرامية"، في 17 و18 كانون الثاني/ يناير 1977. ومثلما حوصر الوطن في السجون حينئذٍ، حوصر الفيلم حتى العام 2005، حينما عُرض لأول مرة كاملاً.

مشهد ثانٍ:

جلس الشابان يوسف عيد فضل السرحاني وفرج رباش الفزاري في انتظار مصير مجهول. وكانا بالكاد قد بلغا ربيعيهما الـ17 والـ 18. لم يختبرا الحياة بعد سوى من خلال أعين عائلاتهما التي تحاول حماية السيدات الـ23، اللاتي احتجزتهن الشرطة في محافظة مطروح على الساحل الشمالي لمصر.

في لحظة مهيبة، تحت إشراف كبار العائلات والمشايخ، قررا تسليم نفسيهما للسلطات كمبادرة لإطلاق سراح النساء، مؤكدين براءتهما من أية علاقة بمقتل ثلاثة أفراد من الشرطة في يوم 9 نيسان/ أبريل 2025. لكن في صباح اليوم التالي، رافقتهما قوات الشرطة إلى طريق السلوم الصحراوي. هناك، وفي ظل الشمس الحارقة، أطلقت عليهما النار بلا محاكمة، بلا أدلة، وبلا رحمة.

لم يكن هذا المشهد سينمائيّاً، لكنه كان حادثاً حقيقياً وقع عقب مقتل أفراد من الشرطة من مديرية أمن مطروح، أثناء مداهمة للقبض على عنصر إجرامي. وبحسب شهادات الأهالي، التي تصدرت وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الشرطة قد ساومت الأهالي على إطلاق سراح المحتجزات من النساء، مقابل تسليم فردين من أقاربه، للإسهام في الوصول إلى مكان اختبائه. وقد دشن ناشطون وأهالي عبر منصة التواصل "فيسبوك" وسم (#إلا_النساء) للمطالبة بإطلاق سراح المحتجزات الـ23 لدى الشرطة، متسائلين: "منذ متى أصبح أخذ الرهائن وسيلة من وسائل إنفاذ القانون؟ أن تتحول الحادثة إلى اعتقال نساء وأطفال أبرياء للضغط على المتهم، فهذا تجاوز في حق حرمة البيوت وفي حق القانون".

وهو ما خضع له أهالي قرية النجيلة بالفعل، ليقوموا باختيار الشابين ويسلماهما في 10 نيسان/ أبريل، بحضور ووساطة نواب في البرلمان ومشايخ القبائل والعمد بمطروح. غير أنهم ما لبثوا أن علموا بتصفية الشابين جسدياً.

ولم تتوان الشرطة عن تقديم مبررات، إذ أعلنت في بيان على الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية المصرية، عبر منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، عن تمكن "أجهزة البحث الجنائي بمديرية أمن مطروح، بالاشتراك مع قطاع الأمن العام، من تحديد مكان اختباء عنصرين إجراميين شديدي الخطورة، من مرتكبي واقعة استشهاد 3 أفراد شرطة بمديرية أمن مطروح، أثناء تنفيذهم أحكام قضائية ضد أحد العناصر الجنائية شديدة الخطورة. وتم استهدافهما بمشاركة قطاع الأمن المركزى، وأسفر تبادل إطلاق النيران عن مصرعهما وبحوزتهما بندقيتان وكمية من الطلقات". أثار البيان وحادث مقتل الشابين غضباً شعبياً هائلاً لدى الأهالي، إذ كذّبوا من خلال منشوراتهم ومقاطع مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، رواية الشرطة.

تعليقاً على الأحداث، أدان المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، الذي يترأسه المحامي الحقوقي ناصر أمين، في بيان له عبر البريد الإلكتروني، الانتهاكات التي نُسبت إلى الشرطة، واصفاً احتجاز النساء كرهائن بأنه "سلوك غير قانوني، ويمثل انتهاكاً جسيماً للحق في الحرية والسلامة الجسدية"، وأن تصفية الشابين الجسدية تمثل جريمة إعدام تعسفي منْهيٌّ عن ارتكابها وفقاً للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والقانون المصري، ما يعد إخلالاً بالتزامات مصر الدولية، وانتهاكاً للاتفاقات الدولية، وأحكام الدستور والقانون.

ساومت الشرطة الأهالي على إطلاق سراح المحتجزات من النساء، مقابل تسليم فردين من أقارب المتهم الهارب. وقد دشن ناشطون وأهالي عبر وسم (#إلا_النساء)، للمطالبة بإطلاق سراح المحتجزات الـ23 لدى الشرطة، متسائلين: "منذ متى أصبح أخذ الرهائن وسيلة من وسائل إنفاذ القانون؟ أن تتحول الحادثة إلى اعتقال نساء وأطفال أبرياء للضغط على المتَهم، فهذا تجاوز في حق حرمة البيوت وفي حق القانون".

في الوقت نفسه، أدانت المرشحة الرئاسية السابقة جميلة إسماعيل، عبر صفحتها على "فيسبوك"، حادث مقتل أفراد الشرطة، ثم تصفية الشابين الجسدية، مطالِبة بفتح تحقيقات فورية بخصوص الوقائع المذكورة.

أيضاً- أدانت حركة الاشتراكيين الثوريين ما حدث في النجيلة، قائلة إن "هذه الجريمة تقع في إطار سياسات نظام غاشم يمارس القمع الوحشي تحت شعار فرض النظام، كما يواصل استغلال النساء كأوراق ضغط للمساومة، وهو ما يفضحه حجم الانتهاكات التي تعرضت لها عائلات الضحايا في مطروح. إن النضال الشعبي في مواجهة إرهاب الدولة قادر على تغيير هذه المعادلة القمعية، ومحاسبة القتلة والمجرمين في هذه الحادثة وغيرها. إن الإرهاب الذي تمارسه السلطة في مطروح هو مثال واضح على الاستبداد السياسي في مصر".

حادث آخر.. قتل جديد داخل قسم الشرطة

في 12 نيسان/ أبريل الفائت، استيقظ المصريون على إعلان أسرة الشاب العشريني محمود أسعد، عن مقتله أثناء احتجازه داخل قسم شرطة الخليفة بالعاصمة القاهرة، بعد القبض عليه في الأسبوع الأول من شهر رمضان المنقضي. وقد اتهمت الأسرة أفراد الشرطة داخل القسم بتعذيبه حتى وفاته، وظهرت آثار التعذيب على جثمانه في مقطع مصور أذاعته أسرته من داخل المشرحة، إلا أن بيان الداخلية نفى ذلك، مؤكِّداً أن الشاب احتُجز بقرار من النيابة العامة على ذمة قضية اتجار بالمخدرات، وقد نشبت مشاجرة بينه وبين آخرين في الزنزانة، ما أجبر قوة القسم على نقله إلى زنزانة انفرادية، لكنه أصيب بحالة من الهياج نقل على إثرها الى المستشفى ثم توفي.

وبحسب شهادات وثقتها الشبكة المصرية لحقوق الإنسان - منظمة حقوقية غير حكومية - فقد قامت إدارة قسم شرطة الخليفة، عن طريق بعض أمناء الشرطة، بتهديد شهود العيان الذين كانوا محتجزين، وشهِدوا واقعة قتل الشاب من قبل الشرطة، قبل مثولهم أمام النيابة، وذلك بالتصريح العلني بتلفيق قضايا لهم ومعاقبتهم. ووفق بيان الشبكة، فإن معلومات وردت لها تفيد بقيام بعض أفراد الشرطة بالتواصل مع أسر وزوجات الشهود، في محاولة للضغط عليهم لتغيير شهاداتهم أيضاً.

خلال سنوات حكم السيسي، وبحسب الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، فقد شهدت مقار الاحتجاز شيوعاً في حالات الوفاة داخلها. وتتعدد أسباب وأهداف التعذيب المفضي إلى الموت، ومن ضمنها: الضغط على أفراد من طبقات شعبية ومهمَّشة، للعمل كمرشدين لهم داخل أحيائهم، أو استهداف نشطاء سياسيين، أو حمل الضحية على الاعتراف والإدلاء بمعلومات ذات أهمية للأجهزة الأمنية.

ارتفع عدد السجناء/ المحتجزين الذين وثّقت لجنة العدالة – وهي منظمة حقوقية تعمل من خارج مصر - وفاتهم داخل السجون ومقار الاحتجاز المصرية منذ بداية العام 2025 إلى حوالي 13 ضحية، بحسب بيان اللجنة في 29 نيسان/ أبريل الفائت. ويأتي ذلك خلافاً لرصدها 50 حالة وفاة خلال العام الماضي 2024. 

وقد رصدت "لجنة العدالة" - منظمة حقوقية تعمل من الخارج - وفاة محتجز سياسي يُدعى ياسر محمد الخشاب، في 11 نيسان/ أبريل الفائت، في مستشفى سجن بدر، وهو معتقل منذ ما يقرب الـ 10 سنوات. وأيضاً- أعلنت خلال الشهر نفسه، في 9 نيسان/ أبريل، عن رصدها وفاة المعتقل السياسي محمد حسن هلال، داخل مستشفى قصر العيني بالقاهرة، بعد نقله من سجن "بدر 3" في حالة حرجة، وسط شكوك قوية حول تعرُّضه لتعذيب مُميت أو عملية تصفية جسدية ممنهجة داخل محبسه. يرتفع عدد السجناء/ المحتجزين الذين وثقت اللجنة وفاتهم داخل السجون ومقار الاحتجاز المصرية منذ بداية العام 2025 إلى حوالي 13 ضحية، بحسب بيان اللجنة في 29 نيسان/ أبريل. ويأتي ذلك خلافاً لرصدها 50 حالة وفاة خلال العام الماضي 2024.

ماذا يحدث في مقرات الاحتجاز المصرية؟

شهدت السنوات التي تلت تولي النظام الحالي مقاليد الحكم، تزايداً ملحوظاً في عدد الوفيات داخل مقار الاحتجاز الشرطية، خاصة المعلن منها، مقارنة بالوفيات التي شهدتها القاهرة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. يفسّر ناشطون في حقوق الإنسان وملف السجناء ذلك، بأن الحالات المسجلة والموثّقة في الفترة التي سبقت ثورة كانون الثاني/ يناير من العام 2011، كانت قليلة، نظراً لندرة التغطية الخاصة بها وقتئذٍ، إضافة إلى استعانة أجهزة التحقيقات - خاصة جهاز أمن الدولة - بفرق طبية أثناء الاستجوابات، للتدخل وإنقاذ المحتجَز حال تعرّض حياته للخطر أثناء التعذيب، ما أبقى الحالات في حدها الأدنى وقتئذٍ. وكانت أشهر قضايا القتل داخل مقار الاحتجاز في العام السابق لعام 2011، مقتل خالد سعيد وسيد بلال، اللذين كانت قضيتهما من أبرز القضايا التي أشعلت الثورة المصرية.

أما في السنوات التالية، وخلال حكم السيسي، وبحسب الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، فقد شهدت مقرات الاحتجاز شيوعاً في حالات الوفيات داخلها، وتتعدد أسباب وأهداف التعذيب المفضي إلى الموت، ومن ضمنها: الضغط على أفراد من طبقات شعبية ومهمَّشة للعمل كمرشدين لهم داخل أحيائهم، أو استهداف نشطاء سياسيين، أو حمل الضحية على الاعتراف والإدلاء بمعلومات ذات أهمية للأجهزة الأمنية.

بحسب شهادات وثقتها الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، فقد قامت إدارة قسم شرطة الخليفة، بتهديد شهود العيان الذين كانوا محتجزين، وشهِدوا واقعة قتل الشاب من قبل الشرطة، قبل مثولهم أمام النيابة، وذلك بالتصريح العلني بتلفيق قضايا لهم ومعاقبتهم. ووفق بيان الشبكة، فإن معلومات وردت لها تفيد بقيام بعض أفراد الشرطة بالتواصل مع أسر وزوجات الشهود، في محاولة للضغط عليهم لتغيير شهاداتهم أيضاً.

شهادات الأهالي والسجناء، كانت كافية لمساعدة المنظمات الحقوقية في رصد بعض الانتهاكات، ومن بينها حوادث الموت. مثالاً على ذلك، وبحسب تقرير مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، في أيار/ مايو من العام الماضي، فقد سُّجل 314 انتهاكاً. وتضمنت هذه الانتهاكات 6 حالات وفاة ناجمة عن الإهمال الطبي، وظروف الاحتجاز، إلى جانب 9 حالات تعذيب. 

وتسود حالة من الغموض في مسألة الوفيات داخل مقرات الاحتجاز. إلا أن شهادات الأهالي والسجناء المرافقين، كانت كافية لمساعدة المنظمات الحقوقية في رصد بعض الانتهاكات، ومن بينها حوادث الموت. مثالًا على ذلك، وبحسب تقرير مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب في أيار/ مايو من العام الماضي، فقد سُّجل 314 انتهاكاً. وتضمنت هذه الانتهاكات 6 حالات وفاة ناجمة عن الإهمال الطبي، وظروف الاحتجاز، إلى جانب 9 حالات تعذيب.

التقرير، ومجمل الوقائع المرصودة من قبل جهات حقوقية، تشير إلى تصعيد ممنهج للانتهاكات في مصر، إذ لم تعد تلك الممارسات حالات فردية، بل جزءاً من نمط عام يعكس غياباً فعلياً للمساءلة القانونية. كما أن استمرار القتل خارج إطار القانون، واللجوء إلى أساليب الضغط مثل، احتجاز النساء كرهائن، يؤكد أن السلطات تستخدم وسائل غير شرعية لتحقيق أهدافها الأمنية. هذه الممارسات لا تهدد فقط حياة الأفراد، بل تقوّض أسس سيادة القانون وحقوق الإنسان، ما يفرض، أكثر من أي وقت مضى، تساؤلاً جاداً حول إمكانية التدخل العاجل والمساءلة الضرورية.

مقالات من مصر