أكثر الناس حريّة..

من يمكنه أن ينسى صورة "محفوظة اشتية"، امرأة فلسطينية تعانق شجرة زيتون أمام جرافة للاحتلال تتأهب لاقتلاعها. بين تلك الصورة الخالدة، وبين انتظارها على الرصيف، مردِّدة الزغاريد، بانتظار إطلاق سراح حفيدتها "دنيا"، مرّت سنوات طويلة، ناضلت فيها أجيال متعددة بشتى الوسائل. سنوات شهدنا فيها إبادة وظلماً وظلمات، ومحاولات متجددة لمقاومة كل ذلك.
2025-01-23

شارك
لقاء إحدى الأسيرات بابنتها. قُبلٌ وورود. (تصوير: عمّار عوض – رويترز)
إعداد وتحرير: صباح جلّول

"نحنا الفلسطينيي مين يقدر يخاصمنا

آويه، ولابسين الخواتم في خناصرنا

آويه، دَعيت لربّ السما يا رب تنصرنا

آويه، نصرة قوية ولا تغلّب خواطرنا"...

وقفت الحاجة "محفوظة اشتية" عند ناصية الشارع في ساعات الليل الأكثر برودة لتردد "آويه"، زغاريدها، بينما تنتظر خروج حفيدتها الأسيرة "دنيا اشتية" من سجون الاحتلال الإسرائيلي، من ضمن الأسيرات اللاتي شملتهنّ صفقة تبادل الأسرى مع "حماس" في مرحلتها الأولى. لا بدّ أن معظمنا رأى وجه الحاجة محفوظة في لحظة أخرى لا تُنسى، عبر صورة صارت أيقونة فلسطينية شديدة الوقع في النفس، لامرأة فلسطينية تعانق شجرة زيتون أمام جرافة للاحتلال تتأهب لاقتلاعها. بين تلك الصورة الخالدة وبين لحظة إطلاق حفيدتها سنوات طويلة ناضلت فيها أجيال متعددة بشتى الوسائل، سنوات شهدنا فيها إبادة وظلماً وظلمات، ومحاولات متجددة لمقاومة كل ذلك.


حضرت "الحاجة محفوظة" مع والدي "دنيا"، من "نابلس" إلى معبر "بيتونيا"، بانتظار ظهور الحافلة التي تقلّ الأسيرات. ووجدوا، كما وجدت عائلات الأسيرات كلهنّ، قطعان المستوطنين بانتظارهم، رموهم بالحجارة وحاولوا تنغيص فرحتهم وعرقلة طريقهم. هؤلاء المستوطنون أنفسهم الذين رفع عنهم الرئيس الأميركي الجديد، "دونالد ترامب"، العقوبات الشكلية التي وضعها سلفه "بايدن"، فعادوا بحقارة أكبر يعيثون فساداً وفوضى، إلى جانب شرطة وجنود الاحتلال وتحت حمايتهم. لكنّ فرحة الأهالي ببناتهنّ وزوجاتهنّ ورفيقاتهنّ كانت أكبر من المنغّصات، فصبروا لساعة واثنتين، بل لتسع ساعات طويلة، ماطل فيها الاحتلال كعادته في إنجاز المهمّة، وإتمام نقل الأسيرات إلى حيث تنتظر العائلات والأصدقاء.

مقالات ذات صلة

عانقت دنيا، التي لم يتجاوز عمرها العشرين، والديها وارتمت في أحضان جدّتها أخيراً... هذه عدسة، مقرّبة قليلاً، على قصة واحدةٌ فقط من قصص الأسيرات والأسرى التي سنجد في كل منها ارتباطاً عميقاً بهذا النضال الطويل ومفاصله.

الأسيرة المحررة دنيا اشتية (20 سنة) برفقة جدتها الحاجة محفوظة اشتية في اليوم التالي (عن الانترنت).

خرجت إذاً فجر الاثنين في 20 كانون الثاني/يناير 2025 تسعون أسيرة وأسرى من القصّر، بموجب المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، 76 منهم من الضفة الغربية، و14 من القدس المحتلة، متنوعو الانتماءات السياسية والخلفيات وفترات الحبس.

عانقت الأسيرات حريتهنّ من الحبس الذي اتفقن جميعاً على تسميته الأدق: "القبر"، لكن بغصّة خالطت السعادة بلقاء الأحبّة، عبرت كثيرات منهنّ عنها. غصّة من أجل غزّة وقهرها، وفحواها أن لا فرح إلا بعودة غزة إلى اطمئنانها وإلى الحياة. هذا وقد تقصّد الاحتلال تأجيل إطلاق أسرى غزّة لمراحل أخرى تشفياً بالقطاع وأهله..

***

ولعلّ الخبر الأبرز في المرحلة الأولى، كان خروج "أم الأسيرات"، المناضلة "خالدة جرّار"، بعد أن كان الاحتلال ماضياً في خطة اغتيالها البطيء بتصميم. دُهش كلّ من رآها للمرة الأولى منذ اعتقالها من منزلها في "رام الله" في كانون الأول/ديسمبر 2023، أو منذ أخفاها العزل الانفرادي الانتقامي الذي وُضعت فيه منذ آب/ أغسطس 2024، والذي دخل الشهر السادس لحظة إطلاق سراحها!

لقاء الأسيرة المحررة المناضلة والقيادية في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، خالدة جرّار، بزوجها غسان جرّار فجر الاثنين 20 كانون الثاني/يناير 2025، فور إطلاقها من سجون الاحتلال. (تصوير: عفيف عميرة).
المناضلة "خالدة جرّار" وقد ظهر عليها الوهن بعد أكثر من 5 أشهر في الحبس الانفرادي الوحشي (تصوير: عمار عوض – رويترز).

في ظروف غير آدمية، في زنزانة وُصفت بأنها "الأقدم والأسوأ في تاريخ إسرائيل"، بلا شباك أو فتحة تهوئة، ومحرومة من تلقي علاجاتها الضرورية، ومن أيٍ من حقوقها الأساسية. أرادوا كسر المناضلة، فقالت لها ضابطة المخابرات الإسرائيلية في سجن الرملة "لن تعرفي أبداً سبب ولا مدّة عزلك". هو كيد الاحتلال نفسه الذي حرمها رؤية ابنتها التي خطفها الموت صبيّة، والتي كان قبرها أول مكانٍ زارته خالدة فور خروجها من السجن في المرة السابقة من اعتقالها، والآن. لقد خسرت من وزنها، وشاب شعرها بالكامل، وذوت صحّتها. لكنها في اليوم التالي هيأت نفسها، صبغت شعرها، ابتسمت إلى جانب زوجها "غسان جرّار"، رفيق الفقد والمصاعب، وبدأت بإعطاء مقابلات صحافية وشهادات عن أوضاع الأسيرات!

على الرغم من القسوة الكبيرة، لعلّ الاحتلال غيّر المناضلة بالشكل، لكنها هي نفسها، لم تتبدّل. وهل الحرية سِوى هذا؟

مقالات من فلسطين

مِن عقيدة الضاحية إلى "عقيدة جباليا": ما الجديد في الهجوم الإسرائيلي على شمال قطاع غزة؟

2025-01-23

تمثل عقيدة جباليا تصعيداً غير مسبوق في النهج العسكري الإسرائيلي، حيث تتجاوز المبادئ التقليدية التي قامت عليها عقيدة الضاحية. وبينما كانت عقيدة الضاحية تهدف إلى ضرب الحاضنة الاجتماعية للمقاومة من...

"عبئكم ثقيل، سأحمله معكم"..

2025-01-16

الآن، وفيما نترقّب جميعاً خبر وقف إطلاق النار في غزة على أحرّ من جمر، ينبغي أن نفكّر جماعياً بمعاني "التضامن"، أوجهه وجدواه بأشكاله المتعددة، وما حققه (ولم يحققه) خلال نحو...