«لن يستطيع أحد نزع سلاح المقاومة في جنين سوى رب العالمين»، يقول الناطق باسم كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس؛ الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، تعليقًا على الاشتباكات الجارية بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وفصائل المقاومة في المخيم، والتي تدخل يومها السادس عشر عقب تنفيذ أجهزة أمن السلطة الوطنية الفلسطينية عملية أمنية أسمتها «حماية الوطن»، وقد فرضت الأجهزة الأمنية حصارًا على المخيم وأهله، كما قُتل برصاصها القيادي في كتيبة جنين يزيد جعايصة، إلى جانب مدنيين اثنين.
يقول الناطق الرسمي لقوى الأمن الفلسطيني العميد أنور رجب إن هدف العملية هو «استعادة مخيم جنين من سطوة الخارجين على القانون الذين نغّصوا على المواطن حياته اليومية وسلبوه حقه في تلقي الخدمات العامة بحرية وأمان»، مضيفًا أن السلطة تحاول «منع تكرار سيناريو غزة، وتعمل على إنهاء الفوضى والفلتان الأمني».
بالمقابل، لا يبدو تسليم السلاح خيارًا واردًا بالنسبة لفصائل المقاومة، التي أكدت مرارًا أن سلاحها لطالما كان مصوبًا تجاه الاحتلال الإسرائيلي لا السلطة الفلسطينية التي «تسير في برنامجها السياسي منذ ثلاثين عامًا دون تحقيق نتيجة»، بحسب تصريحات القائد العام لكتيبة جنين. ومع استمرار الاشتباكات وتعنت السلطة في التهدئة تزداد ظروف أهالي المخيم صعوبة، كما تتصاعد المخاوف من توسع الاشتباكات بين المقاومة والأجهزة الأمنية إلى بقية مخيمات الضفة الغربية.
ماذا يحدث في مخيم جنين؟
بعد أيام من تحذيرات إسرائيلية من احتمال تدهور الأوضاع في الضفة الغربية تحت تأثير التطورات الحاصلة في سوريا، وفي أعقاب اجتياح اسرائيلي لمخيم جنين أسفر عن تدمير واسع للبنى التحتية والمحال التجارية، بدأت السلطة الفلسطينية في الخامس من كانون الأول الجاري عمليتها الأمنية الساعية «لحفظ الأمن والسلم الأهلي، وبسط سيادة القانون في مخيم جنين». اندفعت قوات الأمن الفلسطيني إلى مخيم جنين بعد أن اعتقلت بداية الشهر الأسيرين المحررين عماد أبو الهيجا وإبراهيم الطوباسي، إلى جانب عدد من كوادر حركة الجهاد الإسلامي، وصادرت أموالًا قالوا إنها مخصصة لدعم عائلات الشهداء والأسرى.
أعلنت السلطة أن العملية جاءت ردًا على استيلاء مقاومين على سيارتين تابعتين للسلطة الوطنية تم تفجيرهما لاحقًا للضغط على السلطة من أجل إطلاق سراح المعتقلين. لكن بعض أهالي المخيم -ممن قابلتهم حبر- يعتبرون أن السلطة اتخذت من هذه الحادثة ذريعة للهجوم على المخيم واستهداف المقاومين، خصوصًا أن الكتيبة نفسها نفت انخراطها في تفخيخ هذه السيارات، مؤكدة التزامها بالقانون وسيادته: «بس القانون على مين؟ لما الجيب الإسرائيلي يفوت على جنين يعتقلني، إنت كقانون وينك؟»، يقول الناطق باسم كتيبة جنين، في إشارة لاستهداف الاحتلال ومستوطنيه مدن الضفة وأهلها والتي أسفرت عن 811 شهيدًا منذ السابع من أكتوبر 2023.
وقد أظهرت مقاطع فيديو اندلاع اشتباكات واسعة بين عناصر الأمن والمقاومين تخللها تبادل للرصاص وانفجارات وحرائق في أزقة المخيم، كما امتدت بعض المواجهات خارج المخيم لتصل إلى مدينة جنين. يقول بعض أهالي المخيم لحبر إن السلطة أحاطت المخيم بآليّاتها العسكرية، وحولت بعض المنازل إلى ثكنات عسكرية، كما نشرت القناصة على أسطح المنازل وأطلقت النار على كل هدف متحرك، قبل إغلاق مداخل المخيم بالكامل ومحاصرة أهله والحد من حركة المواطنين والمسعفين والصحفيين بعد يومين من بدء العملية.
وفي التاسع من الشهر الجاري، قُتل الشاب ربحي الشلبي (19 عامًا) برصاص السلطة بينما كان يوصل إحدى الطلبات على دراجته النارية في المخيم وبعدما توقف بأمر من دورية أمنية بحسب فيديو تداولته وسائل الإعلام الفلسطينية. وقد أقرّت أجهزة أمن السلطة بمسؤوليتها عن مقتله رغم أنها قالت في البداية «أنه ضُرب حتى الموت بأيدي مثيري شغب». وقد أشعل مقتل الشلبي احتجاجات أهالي المخيم، ونشر والد الشهيد فيديو طالب فيه بأخذ حقه من العسكري الذي قتل ابنه، متهمًا أجهزة السلطة نفسها بالخروج عن القانون، وعلى خلفية الحادثة نفسها أعلن المقدّم في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني مصطفى إبراهيم صالح استقالته وبراءته من سلوكيات الأجهزة الأمنية.
بعد خمسة أيام من استشهاد الشلبي، اغتالت أجهزة الأمن الفلسطيني يزيد جعايصة أحد قادة كتيبة جنين الذي قضى قرابة سبع سنوات بين الأسر والمطاردة حيث كان مطلوبًا لجيش الاحتلال منذ سنوات. يقول أخوه معتصم -لحبر- والذي كان برفقته لحظة اغتياله، إن يزيد لم يطلق النار على أمن السلطة لكنهم رغم ذلك أعدموه بدم بارد، وصادروا منزلهم وطردوا أهله للشارع. في اليوم نفسه أعدمت أجهزة أمن السلطة الفتى محمد العامر (13 عامًا) وهو واقف على باب منزله، رغم أن والده -الذي يعمل لواءً في الأمن الوقائي- صرخ على عناصر السلطة المتواجدين بالقرب من منزله طالبًا عدم استهداف ابنه.
«يا ريتهم بحاربوا تجار المخدرات والحشيش، أو اليهود اللي بستبيحوا عرضنا زي هيك»، يقول أحد أهالي المخيم الحاضرين في تشييع جثامين جعايصة والعامر. يُذكر أن أجهزة أمن السلطة قتلت 13 فلسطينيًا في الضفة الغربية منذ طوفان الأقصى. وقد أصيب في العملية حوالي 16 فلسطينيًا، وكانت معظم الإصابات خطيرة في الرئتين والصدر والرأس، من بينهم طفلة كانت تقف على شباك منزلها، بحسب المسعف أحمد النوباني، مؤكدًا أنه يصعب التعامل مع هذه الإصابات داخل مستشفيات جنين.
فضلًا عن الاشتباكات، دمرت أجهزة الأمن خلال الحصار البنى التحتية ما تسبب بقطع الكهرباء والمياه عن سكان المخيم، كما توقف التعليم الوجاهي والأعمال التجارية، فيما يخوض المخيم إضرابًا شاملًا مستجيبًا بذلك لدعوات النفير العام التي أطلقتها الكتيبة. وقد خرج أهالي المخيم في مسيرات قادتها أمهات الشهداء هاتفاتٍ: «الشعب يريد كتيبة جنين»، وقد قابلتها أجهزة الأمن بقنابل الصوت والغاز المسيل للدموع.
وفي ظل استمرار الاشتباكات لأكثر من أسبوعين، يرى مصدر قيادي في كتيبة جنين أنه لم يتبق للسلطة ما تفعله، وأنها تبحث عن مخرج يتيح لها ادعاء سيطرتها على المخيم، مؤكدًا أن الكتيبة قوية ولن تسلّم سلاحها ما لم تقم السلطة بدورها في حماية الشعب من الاحتلال ومستوطنيه.
ما الذي تحاول السلطة تحقيقه؟
بينما تستمر المواجهات في جنين، اتّسعت دائرة التوتّر في شمال الضفة الغربية بين المقاومين والأجهزة الأمنية إذ امتدت دائرة الاشتباكات إلى مخيم بلاطة في نابلس ونور شمس في مدينة طولكرم، حيث أعلن مقاومون مساندة كتيبة جنين واستهداف مقرّات السلطة في المخيم، في حين دعا رئيس اللجنة الشعبية في مخيم نور شمس نهاد شاويش إلى وضع حد لما يجري في المخيمات الثلاثة لأنه «مخالف لمصالح الشعب الفلسطيني (..) وعلى جميع التنظيمات والأطر الفلسطينية والمؤسسة الأمنية التوصل لحل يضمن الحفاظ على حقوق الشعب والدم الفلسطيني».
من جهتها، اقترحت فصائل المقاومة أكثر من مرة حلّ الخلاف القائم مع السلطة وأجهزتها الأمنية لمنع إراقة الدم الفلسطيني، لكنها قوبلت بالرفض. وقد أعلنت حركة الجهاد الإسلامي أنها ليست ضد وجود السلطة في المخيم، لكنها ترفض الاعتداء على أبنائه المدافعين عن مخيمهم ضد العدو الصهيوني. بالمقابل قال وزير الداخلية الفلسطيني زياد هب الريح، إن الأجهزة الأمنية تسعى لدفع الشباب في مخيم جنين للالتزام بالقانون والبرنامج الوطني الفلسطيني، مشددًا على أهمية الوصول إلى عقول الشبان لتخفيف المفاهيم التحريضية والتوجيهات المغرضة، على حد وصفه.
يقول المحلل السياسي محمد هلسه إن السلطة تزعم أن عمليتها الأمنية هي محاولة لمنع الاحتلال من العبث في جنين ولمنع تكرار سيناريو غزة: «وكأن الاحتلال كان يوزع الورد في الضفة منذ بدء طوفان الأقصى»، في إشارة لاستهداف الاحتلال للفلسطينيين دون أن تحرّك السلطة ساكنًا. ويعتبر هلسه أن هذه العملية ليست حاجة فلسطينية داخلية كما يتم تقديمها، بقدر ما هي سعي من السلطة -بالتزامن مع مسار المفاوضات الجارية- لتقديم أوراق اعتمادها لدى «إسرائيل» والإدارة الأمريكية الجديدة، على اعتبار أنها إذا نجحت في القضاء على المقاومة في جنين فقد تكون مؤهلة لحكم قطاع غزة.
ينسجم هذا الموقف مع تحركات السلطة الفلسطينية ضمن الحوارات الأخيرة التي جرت في القاهرة، حيث أبلغت حركة فتح مصر رسميًا برفضها مقترح تشكيل لجنة مشتركة بين الفصائل الفلسطينية لإدارة غزة فيما يبدو أنها محاولة منها للعودة إلى حكم غزة بمعزل عن حماس أو رغمًا عنها. وتشير تسريبات أمريكية إلى إن العملية العسكرية في جنين حاسمة بالنسبة لمستقبل السلطة، وهي رسالة للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مفادها أن السلطة شريك موثوق به، إذ أمر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بحسب التسريبات، قادةَ الأجهزة الأمنية بإطلاق عملية السيطرة على جنين ومخيمها «بأي ثمن» رغم تحفظ بعضهم عليها.
لذلك يعتقد المحلل السياسي عادل شديد أن عملية بهذا الحجم لم تكن لتنفذ بدون موافقة الطرفين الأمريكي والإسرائيلي، إذ طلبت إدارة بايدن من «إسرائيل» الموافقة على «شحنة عاجلة من الذخيرة والخوذ والسترات الواقية من الرصاص ومعدات الرؤية الليلية والمركبات المدرعة» تُقدم لأمن السلطة بهدف دعم عملياتها الواسعة في الضفة. وبحسب شديد فإن هذه التحركات تؤشر إلى أن الإسرائيليين -على الأقل في هذه المرحلة- لا يريدون إسقاط السلطة بينما هي تنفذ عنهم بعضًا من حملاتها العسكرية، وذلك رغم موقف الصهيونية الدينية، بقيادة سموتريتش وبن غفير، الداعي لإسقاط السلطة من أجل ضم الضفة الغربية وتهجير أهلها، والذي لا يرى فرقًا بين حماس وفتح وغيرها.
ويعتقد هلسه أن ظروف المنطقة التي شهدت مؤخرًا استهداف جبهات المقاومة في المنطقة ربما تكون شجعت الرئيس عباس على هذه العملية. فالسلطة من جهتها ترى أن مثل هذه العمليات تمنع «التدخل الإيراني عبر ضخ الأموال لشراء الأسلحة وتجنيد المسلحين، كما هو الحال في غزة ولبنان»، وأنها ستحول دون تكرار الأحداث السورية في الضفة الغربية، أي منع الإسلاميين المسلحين من السيطرة على السلطة.
كثيرًا ما تثير الصحافة والمسؤولون الإسرائيليون نقاشًا حول المخاوف من امتداد الوضع في سوريا إلى مناطق أخرى في المنطقة العربية، لكن شديد يعتبر أن هذا الكلام محاولة إسرائيلية لتعميق الاقتتال الفلسطيني الداخلي، وهو ما يخدم المصالح الإسرائيلية فقط.
خلال السنوات السابقة لم تنجح «إسرائيل» بترسانتها العسكرية في وقف العمل المقاوم في المخيم ونزع السلاح، ما يعني بالنسبة لأحد أهالي المخيم أن العملية التي تشنها أجهزة السلطة اليوم بالتأكيد لن تنجح في تحقيق أهدافها بوأد المقاومة.