تُلح غزة على الحضور، كل الوقت، كما بمناسبة وقف إطلاق النار في لبنان. يتأفف بعض اللبنانيين، من "الوطنيين" جداً، لهذا التجاوز للحدود "المقدّسة"، والانشغال بسوانا. ويتأفف معهم بعض "العقلانيين"، ممن يُفترض أنهم مثقفون، يزنون كلماتهم وأفكارهم بميزان الذهب، ويرفضون الانفعالات والعواطف. بعضهم لا يزال يسارياً (يَفترض هو ذلك)، أو كان يسارياً، ثم تجاوز، بكل حكمة، طفولية البدايات...
أما أنا فأفرح - إلى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في "الجنوب" و"البقاع" و"ضاحية بيروت الجنوبية". لتلك السيارات التي بدأت الرحلة منذ الفجر، عند لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار، في خط مضيئ لا ينقطع لساعات، وفي مشهد تعجز عنه أفلام "هوليوود"، التي لو جسَّدته، لكان مجرد تقنية بلا روح، بينما هو هنا مشهد رباني بامتياز. وأقول بكل ثقة إن المتفلسِفين السابق ذكرهم أعلاه، وهم من كل الأطياف، مقزِّزون، تافهون، إذ لا تمسهم أحوال الناس بكل أوضاعها. وهنا، في صبيحة ذلك اليوم، لم يحرِّك مشاعرهم "الجنون" المعهود للبنانيين!
الوحش الكاسر... الوحوش!
26-09-2024
وأما الحذلقة من أنه لم يكن ينبغي قبول وقف اطلاق النار، فتأتي ممن يجلسون في دفء بيوتهم الآمنة، ولا يقدِّمون إلا أفكارهم النيّرة على شاشات حواسيبهم، ولا قيمة لهم في أي حساب. وأما من يأسفون لأن الاتفاق "هش"، فينبغي تذكيرهم بأن لبنان مبني على الهشاشة، وقد رافقته كل يوم، طوال تاريخه، كما في كل محطات هذا التاريخ. ولذا فالمطلوب حقاً، لتلافي أثارها، الحذر الدائم والحيطة من الأفكار السامة، تلك التي تغذِّي الطائفية وتَناحُر الجماعات، وتلك التي تُبرِّر للفاسدين فسادهم ونهبهم البلاد والعباد، أو تتقبله كأمر واقع. وهو، هذا الفساد المافياوي المستند الى الغَلبة، (المتحققة في كل مرة بفعل اعتبارات شتى، والمتنقلة بين الفئات)، تزيد البؤس العام، وتؤجج بالضرورة الصراعات على "الحصص".
... وأحزن، إلى حد الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف – منذ أكثر من عام – على مأساة سكان غزة، صغيرة المساحة إلى حدِّ الانكشاف، المحاصَرة من إسرائيل من كل الجهات، المتروكة تماماً من الجميع، عرباً وأعاجم، بحجة تأديب "حماس"، وإرضاءً لجنون نتنياهو وجماعته، وهو المنفلت من كل عقال. وأما في حقيقة الأمر، فهذا الموقف هو رجاء قبول "بطاقات الاعتماد" التي يقدمها "الزعماء" العرب لواشنطن، وهو أيضاً، ومن جهة ثانية، تآلفٌ مع ممارسات غربية قديمة، ارتكبتها أوروبا الاستعمارية لقرون عدة، في أمريكا عند اكتشافها واستيطانها، بإبادة سكانها الأصليين، ولا تزال تفعل في أماكن أخرى، ومنها فلسطين .. مما قاله نتنياهو نفسه، رداً على الانتقادات الخجولة التي تلقّاها، وكان صريحاً هذه المرة: "أفَعل ما تعرفونه وكنتم تفعلونه"، و"إسرائيل هي القاعدة الأمامية للغرب"، وهلم جرا..
فإن كان البعض يرى أنْ "لا بأس"، وأن الخطأ يقع على مَن تحرّش بالوحش - وكأن هذا الاخير كان مستكيناً - يتجاهل أن فلسطين مستباحة تماماً، بقسوة نادرة المثيل، وأنه جرى استنفاد كل الوسائل الأخرى للفعل، وجُرِّبت كل صيغ "التفاهمات" والتسويات، حتى اغتال الاسرائيليون "ياسر عرفات" نفسه الذي سعى اليها. وأنهم لا يرضون حتى ب"أبو مازن" (!)، لأنهم يسيرون بمخطط تصفية فلسطين على كل الصعد.. وأن ثمن المقاومة هنا باهظ لهذا السبب، وأنهم لا يترددون في استخدام أبشع ما يمكن لعقل أن يُنتجه، بلا أي نوع من القيود، تحقيقاً للسحق. إلا أن هذا الثمن المهول الذي دفعه الفلسطينيون عموماً والغزيون مؤخراً، عرّاهم تماماً. صمود غزة العجائبي، جعل منها رمزاً طاغياً للعدالة والحق في العالم أجمع، أكبر بكثير حتى مما كانت عليه "فيتنام" في زمانها، على سبيل المثال. ومَن يضع اللوم على من تحرش بالوحش يتجاهل أن التاريخ الذي لم يبدأ في 7 تشرين الأول/اكتوبر 2023، لن ينتهي اليوم ولا غداً.
الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب
09-02-2024
وأما من لا يرى من كل ذلك سوى صراعات القوى الكبرى – ومنها إيران وسواها - لتحسين مواقعها التفاوضية حول مصالحها، مستغِّلة عناوين مُحقَّة، فهو يتجاهل أساس الموضوع: إسرائيل لم تتوقف يوماً عن بناء سطوتها على كل فلسطين، وعن التخطيط لنيتها في التخلص من الفلسطينيين، وإنكار وجودهم. بل، وكما قال "نتنياهو" تكراراً وبوضوح خلال هذا العام الدموي، "تغيير الشرق الاوسط "، يعني هندسته بأكمله وفق ما تطمح إليه الصهيونية المتجدِّدة.
فهنيئاً لمن يقبل بالذل والعبودية!
ومازالوا يمضون قدماً