بلد القبعات..

في غزة - وبغض النظر عن القصف والقتل والاعتقالات - فالحياة "العادية" نفسها في غاية الصعوبة: التنقل، واثمان الحاجيات حين تتوفر، وحتى الحصول على قبعة تقي قليلاً من الشمس الحارقة لمن يعيشون معظم نهارهم في العراء...
2024-07-04

المقداد جميل

محامي وكاتب من غزة


شارك
النزوح المتعدد، غزة / فلسطين.

يلبسُ سائق عربة الحمار قُبعة كبيرة تُغطي كلّ جوانب رأسه، قُبعة مشجرّة، لونها رمادي، تملؤها أوراق شجرٍ خضراء. إلى جانبه يجلسُ سائقٌ آخر، يلبس قبعة أُخرى، تُغطي مُقدمة رأسه. تبدو مهترئة من حرّ الشمس والوقت.
ألبسُ أنا الآخر قبعةً سوداء، تُغطي مُقدمة رأسي. كذلك يجلس اثنين آخريْن على العربة، وهُما يلبسان قبعتيْن.

قُبعتي، الجديدة بالنسبة لي، أعطاها لي "ولاء"، بعد أن طلبتُ منه واحدةً منذ نحو أسبوعيْن. كان يلبس القبعات في السابق كثيراً، علق في ذهني الأمر، وتوقّعت أن يكون لديه قبعاتٌ فائضة! اشتريتُ القبعة أو "الطاقّية" كما تُسمى باللهجة المحليّة، بداية نزوحي الجديد في وسط قطاع غزّة. أعيش في بلدة الزوايدة، وهي بلدة نائية لا ملامحَ حياةٍ فيها، سوى الشوارع الرملية وأكوام القمامة ومستنقعات المجاري والعربات التي تجُرها الحمير في كلّ مكان. المواصلات صعبة جداً، والحركة فيها تتطلّبُ المشي الطويل، ومقاومة الرمال في حرّ الصيف. لم يكُن النزوح في رفح بهذه الصعوبة. هُناك اتصلَ الشتاء بالربيع، مع وجودي في منزل، تأويني فيه جدرانٌ وسقفٌ من الباطون. اختلفَ الأمر هُنا. خيمة في صيفٍ شديد الحرارة، تغزوهُ موجات الحرّ الحامية.

اشتريتُ القبعة بداية نزوحي بعشرين شيكلاً فقط، وقد رأيتهُ سعراً مرتفعاً جداً، مقارنةً بالسعر العادي في الوقت العادي. لكن لا غرابةَ في ذلك، فلا شيءَ عادي الآن.
ظلّت القبعة صديقتي اليوميّة لأكثر من شهر.
اعتدتُ عليها للدرجة التي كنتُ أنسى أنها على رأسي حين أدخل في مبانٍ وأماكن للعمل أو لجلسة معيّنة، فأبقى مرتدياً قبعتي دون أن أفكر في نزعها.

رحلتْ القُبعة بطريقةٍ غريبة جداً، كما أقول لأصدقائي.
طارت منّي أثناء ركوبي شحن نقل، كوسيلة مواصلات "عادية جداً" في الحرب وفي هذا المكان. طارت من قوّة الريح، ومن حولي أكثر من 15 شخصاً اكتظّت بنا الشاحنة المفتوحة من الخلف.

لم تُسعفني المسافة التي ناديتُ فيها على السائق ليتوقّف، كي ألتقط القبعة التي وقعت على الأسفلت من خلفي. في الوقت نفسه، كان هناك شابٌ يجري بدراجته الهوائية، التقطها، لا ليأتي بها إلي، إنما ليستدير نحو أوّل شارعٍ باتجاه اليمين وينطلق بها.. يسرقها. للحظة ظننتُ أنني في فيلمٍ سينمائي!
- كمل طريقك كمّل، خلص. قُلتُ للسائق قبل التوقّف، وقد أيقنتُ أني أضعتُ صديقتي.
بقيتُ في الأسابيع الثلاثة الأخيرة أبحثُ عن قبعة جديدة، دون جدوى. طلبتُ من كلّ من صادفت، وسألتُ كلّ من أعرف.

أقول لهم "بتعرف وين ببيعوا طواقي؟"، يكون الرد "لا والله"، أو "وأنا كمان بدي، إزا عرفت احكيلي". أقول لآخرين "إذا عندك طاقية جيبلي".

كذلك كنتُ أجوب سوق دير البلح، حيث مركزية المنطقة الوسطى وسوقها الذي تجد فيه كلّ ما تُريد - من المفترض طبعاً ان يكون الأمر كذلك. لا محل ولا بسطة ولا أي بائع متجوّل يبيع "الطواقي".

في آخر الأمر، نجحتْ محاولتي بمُعجزة لا أعرفُ كيفَ صارت. بالصدفة، سألتُ بائع الفواكه بعد أن اشتريتُ منه أربع حبات تُفاح، ودفعتُ له 22 شيكلاً، "بتعرف وين ببيعوا طواقي؟". ردّ صديقه الذي يقف إلى جانبه، ليدُلني على مكان يبعُد نحو المئة متر. تجوّلت هناك كثيراً وسألت. لكنّي قرّرت المحاولة مرةً أخرى، كأنّ القدر كان يسوقني إلى شيء كُتبَ لي.

قُرب محل يبيع البرادات، سألت صاحب بسطة يبيعُ مستلزماتٍ حياتية يوميّة عادية جداً "عندك طواقي؟"، فأشار إلى زميله في البسطة المُقابلة له، وقال "هداك ببيع". صدمة، هُناك من يبيعها، وهُناك من دلّني على مكان! مُعجزة فعلاً.
التفتُ إلى البائع المُقابل وناديت "عندك طاقية؟"، ناديتُ دون أن أنتبه أنه كان يُمسك بقبعة في يده ويلوّح بها، قبل أن يقول لي "هي آخر حبّة". حقًا مُعجزة، وهي الأخيرة أيضاً عند بائعها، وأنا أتيتُ لآخذها!

اشتريتُ القبعة الأخيرة لدى البائع، التي لا ترقى لمستوىً نظيف ومُميّز وقوي، بثمن 35 شيكل. أي ما يزيد بـ15 شيكلًا عن القبعة السابقة الهاربة من شاحنة المواصلات، الأصلية والمُميّزة والقوية. ما يُقارب نصف حقها، لكن مثل كلّ أمور الحرب، ما بيدي حيلة. اشتريتُ ودفعتُ.

تدور في الشارع، تمشي في السوق، تصعد في السيارة، تركب الباص، تستقلُ كارة حمار، تنظرُ إلى البائعين، تُشاهد المارّة. هناك شيءٌ مشترك لدى أغلب الناس: يلبسون قُبعات!

في إحصائية سريعة قمتُ بها، أثناء تأملاتي الذاتية، بيني وبين صوتي الداخلي الذي ينطلقُ من عقلي، وجدتُ أن ثُلثي الناس في غزّة يلبسون القُبعات.
لا يوجد شخص واحد في قطاع غزّة كله، لم ينزح من بيته، ولو لأيام أو لأسبوع أو لشهر.
كُلنا اضطرتنا هذه الحرب لنهرُب، كما لم تُجبرنا حربٌ أخرى.
وكُلنا احتجنا قُبعة.

بعيداً عن القُبعة، وفي الأيام التي كنتُ أبحث فيها عن واحدة، أقضي وقتاً طويلاً في البحث عن سيارة أو انتظار وسيلة مواصلات، فيغلي فيها رأسي، أشعر أن الحرارة تصل الى ذروتها فيه، مع ضرب الشمس الشديد له. للحظة أعتقدت أنني سأصاب بضربة قاتلة من شدّة الحرارة.

كلّ الناس يعيشون الأمر نفسه هُنا. تمشي في الشمس طويلاً طويلاً. حرارة مرتفعة، اختناق، واسمرار شديد، الجلود تنسلخ، والبشرة تتقشّر وتحترق.. وآآه، نُريد قُبعة.

"بتعرف من وين بشتروا طاقيّة؟"..
"لا والله، لو لقيت أنا كمان بدي"..
"خلصوا والله، في كل البلد"..
"كلو لابس طواقي"..
"طاق طاق طاقية.. تعيش الوحدة العربية"..
"بس يا حمار، أيّة وحدة، واحنا مش لاقين طاقيّة واحدة!!"

أقف في الشارع وأتأمّل، أُحصي العدد، لا أستطيع العدّ. من يلبس قبعة عددهُ أكبر ممن لا يلبسها، وإن سألت من لا يلبسها، فهو يُريد، لكنهُ لا يستطيع، فهو مثلي يبحثُ عنها، بالتأكيد يسأل في كل مكان ولا يجد، ولا يعرف صديقًا مثلَ ولاء يوفّر لهُ قُبعة.

أقف وأنظر وأتأمل..

بالتأكيد هذهِ بلد المليون قبعة.. أو طاقية!

مقالات من فلسطين

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

إعادة تكوين العقل الغزّي

أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم في...

للكاتب نفسه

إعادة تكوين العقل الغزّي

أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم في...

يتفاوضون على دمنا

أهل غزّة يعرفون أنّ الحرب عليهم، والهُدنة ليست لهم. إنها هُدنة الأسرى الإسرائيليين، هُدنة ليعودوا إلى أحبائهم. أولئك الذين تفرّقوا بين شمال وجنوب غزّة، والذين صاروا في القاهرة وأهلهم في...

لم يبقَ إلّا البحر..

يبدو ألّا شيء سيبقى للناس، إلّا البحر. فليذهبوا إلى البحر، فهو صديقُهم الوحيد، وهو الباقي فقط ليحفظَ ذاكرة أهل غزّة. لكن، هُناك، وعلى بُعد عشرات الأمتار القليلة، تقعُ الزوارق الإسرائيلية،...