حينما كان ضباط البحرية السودانيون يراقبون حركة الآليات العسكرية الروسية من قاعدة "طرطوس" السورية إلى قاعدة "فلامنغو" السودانية على البحر الأحمر في نيسان/ أبريل 2021، رفع الروس أعلامهم على أحد أبراج القاعدة وسط حال من الذهول.
وقتها، كان سياج السرية مضروباً حول التفاهمات التي جرت بين الجيش السوداني وروسيا، فلم تكن غالبية الضباط على علم بما يجري. ولكن سرعان ما تسرب الخبر إلى الصحافة، وثار رأي ضدها بحجة أن أي اتفاقية بهذا الحجم، لا بد أن تمر عبر مناضد البرلمان. ووقتذاك، لم تكن قد تشَّلت السلطة التشريعية، بسبب الخلافات الحادة التي ضربت حكومة الشراكة المدنية/ العسكرية، عقب سقوط نظام "البشير"، في نيسان/ أبريل 2019.
ويبدو أن الجيش كان قد حاول استغلال الوضع السائل وتمرير الاتفاقية على حين غفلة، من دون سند تشريعي لها، لكنه تردد. بعدها، تراجعت الخطوات إلى الوراء، ونقلت روسيا كافة آلياتها من قاعدة "فلامنغو". وحينها كانت العلاقات السودانية الأمريكية في قمتها، إذ دعمت الولايات المتحدة ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018 التي أطاحت بـ"البشير"، دعماً لا محدوداً، ورفعت تمثيلها الدبلوماسي في البلاد، بعد سنوات طويلة من العداء.
الخرطوم وموسكو…تاريخ من التأرجح
في الواقع، لم تكن روسيا بعيدة كل البعد عن السودان ولم تكن قريبة كل القرب منه. فالعلاقات السودانية الروسية تتأرجح، وفقاً لمؤشرات العلاقات السودانية الأمريكية. لكن في العام 2017، حدثت قفزة نوعية في مسار هذه العلاقات، حينما زار الرئيس المعزول "عمر البشير" موسكو، وطلب بصريح العبارة من الرئيس الروسي، "فلاديمير بوتين"، أن يحميه. ومفهوم الحماية هنا كان معلوماً وواضحاً، وهو أنها حماية من "الاعتداءات الأمريكية" كما وصفها "البشير" آنذاك، علاوة على أن "البشير" كان يتطلع إلى دورة انتخابية ثالثة، في العام 2020 وسط رفض واسع، حتى من داخل منظومته السياسية، وكان يرى في الرئيس السوري بشار الأسد نموذجاً للحماية الروسية.
غير أن العلاقات بين الخرطوم وموسكو ـ عقب تلك الزيارة الأشهَر ـ لم تشهد ذلك الانفتاح المتوقع، فقد جرَّت عدداً من الاتفاقيات، التي ظل بعضها معلقاً حتى سقوط "البشير"، خاصة تلك المتعلقة بالنشاط العسكري لروسيا في السودان.
لكن الزخم عاد، حينما أُعلن في 2020 عن موافقة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، على إقامة منشأة بحرية روسية في السودان، لديها القدرة على إرساء سفن تعمل بالطاقة النووية. وستكون المنشأة الجديدة، قادرة على استيعاب ما يصل إلى 300 فرد عسكري ومدني.
... بعدها بأسابيع معدودة، أعلن رئيس أركان الجيش السوداني "محمد عثمان الحسين" عن أن الجيش يراجع اتفاقاً روسياً حول بناء قاعدة عسكرية، متحججاً بأن الاتفاقية تمّ توقيعها في عهد "البشير"، ولم يصادق عليها البرلمان، ثم نقلت صحافة محلية أن الجيش لن يمرر أية اتفاقيات بدون برلمان، ذلك بالتزامن مع نقل الآليات العسكرية الروسية من قاعدة "فلامنغو" في مدينة "بورتسودان".
موافقة الجيش السوداني على أية اتفاقية عسكرية مع روسيا، ستمكِّن موسكو من وجود أكبر موطئ قدم لها في أفريقيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. وستدخل السودان من دون أدنى شك في مرحلة جديدة كلياً، وسط مخاوف لا تنتهي من تحوّل البلاد إلى ساحة صراع دولي مستمر.
لم تشهد العلاقات بين الخرطوم وموسكو عقب زيارة "البشير" الأشهَر الى موسكو في العام 2017، الانفتاح المتوقع، فقد وُقعت عدة اتفاقيات، ظل بعضها معلقاً حتى سقوط "البشير"، خاصة تلك المتعلقة بالنشاط العسكري لروسيا في السودان.
وهذا التراجع، ربما يعكس حال انقسام في المواقف، بين قادة الجيش تجاه روسيا. فالعلاقات العسكرية بين الخرطوم وواشنطن شهدت أيضاً تطوراً عقب سقوط "البشير". لكن، وكما هو معلوم، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، لا تمضي في الدعم الأمني والعسكري لسلطة عسكرية محضة، فهي في سبيل الحفاظ على صورتها، تحاول أن توفّق بين الدعم العسكري ومكاسب الحكم المدني ودعم الانتقال الذي تتبناه عادة، وهي كثيرة اللعب بسياسة "الجزرة والعصا" خاصة في السودان، بينما روسيا لا تمارس ذلك.
موسكو تعرض مساعدات عسكرية بسخاء
في نيسان/ أبريل 2024، كانت القفزة كبيرة في مسار التعاون السوداني - الروسي، حيث عرضت روسيا دعماً عسكرياً "بلا سقف للجيش السوداني بحسب تقارير صحافية محلية، وهو دعم يمكن أن يصل الى حد وجود روسي على الأراضي السودانية. لكن الدعم مطروح بعد الحصول على إجابات شافية، حول التعاون العسكري بين السودان وأوكرانيا خلال فترة الحرب، فبعض التقارير تقول إن أوكرانيا توفر دعماً فنياً نوعياً للجيش السوداني مقابل صفقات تسمح بتزويد أوكرانيا بأسلحة باسم السودان.
اللافت أن الوفد الروسي بقيادة "ميخائيل بوغدانوف"، مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ونائب وزير الخارجية الروسي، لم يكتف فقط بالزيارات الرسمية.
فطالما أن سلطة الجيش الآن تباشر عملها من مدينة "بورتسودان" شرق البلاد، فقد تَحيَّن الوفد الروسي الفرصة والتقى بالفاعلين الأهليين في شرق البلاد، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لعضو بالوفد الروسي مع الزعيم القبلي "محمد الأمين تِرك"، رئيس "مجلس نظارات البجا" والعموديات المستقلة، الذي يتمتع بنفوذ قبلي طاغ في شرق السودان.
ويبدو أن الروس مدركون من أين تؤكل الكتف، في بلد يشهد صعود السطوة القبيلة على نحو غير مسبوق. "محمد الأمين تِرك" ذو نفوذ قبلي واسع، وهو حليف للجيش، وسبق أن قاد اعتصاماً شهيراً بناء على رغبة ومباركة الجيش، وكان لذاك الاعتصام الذي قطع طريق الإمداد الرئيسي في البلاد، نصيب الأسد في الإطاحة بحكومة "حمدوك"، وكثيراً ما يتباهى "تِرك" بأنه كان سبباً في تلك الإطاحة.
الجيش السوداني في حاجة شديدة إلى دعم عسكري نوعي. لكن يترتب على ذلك تحمل تبعات ثقيلة وعالية الكلفة. والسؤال الآن: هل الجيش قادر على تحمل تبعات الانخراط مع روسيا؟ والانخراط يعني أن تدخل اتفاقية القاعدة العسكرية على البحر الأحمر حيز التنفيذ. وتبعات ذلك ليست يسيرة، ولا تتحمل اتخاذ الموقف ونقيضه كما اعتاد "البرهان" أن يفعل على الدوام.
روسيا لا تنظر فقط إلى البحر الأحمر، بل عينها أيضاً على الغرب الأفريقي الذي تتمدد فيه فرنسا. وكان لافتاً انتقاد الوفد الروسي لـ "مؤتمر باريس"، الذي انعقد في نيسان/ أبريل 2024، ودعت له فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، ووصفه المسؤول الروسي بـ "التدخل الأجنبي" في شؤون السودان.
ومن غير المستبعد، أن يكون الروس قد تلقوا نصائح بتفعيل علاقات شعبية مع أصحاب النفوذ القبلي، حتى إذا ما سارت الأمور نحو بناء قاعدة روسية، تجد مباركة وقبول القيادات القبلية، أو تضمن حيادهم على أقل تقدير.
روسيا تنظر الآن إلى وضع الجيش السوداني في ميدان المعارك، وهي تدرك أنه بحاجة إلى دعم نوعي يغيّر المعادلة في الميدان، وقد واجه الجيش تعقيدات عديدة في الحصول على دعم عسكري، أوصلته حد العزلة، خاصة بعد الظهور الطاغي للنظام السابق إلى جانب الجيش، وهو ما اشتكى منه قائد الجيش في اجتماع داخلي.
موسكو مستعدة… فهل السودان مستعد؟
بالنسبة إلى روسيا، هذا أنسب توقيت لتوظيف الدعم العسكري للجيش السوداني مقابل تمرير اتفاقية القاعدة الروسية. أما الجيش، فهو قطعاً في مأزق. صحيح أنه لم يصدر عنه أي موقف نهائي، لكنه تحدّث في تعميم صحافي تقليدي عن الاتفاق حول التعاون السياسي، الاقتصادي والعسكري، من دون تفصيل.
وفقاً لحسابات بسيطة، هو في حاجة شديدة إلى دعم عسكري نوعي، لكن يترتب على ذلك تحمل تبعات ثقيلة وعالية الكلفة. والسؤال الآن: "هل الجيش قادر على تحمل تبعات الانخراط مع روسيا"؟ والانخراط يعني أن تدخل اتفاقية القاعدة العسكرية على البحر الأحمر حيز التنفيذ. وتبعات ذلك ليست يسيرة، ولا تتحمل اتخاذ الموقف ونقيضه كما اعتاد "البرهان" أن يفعل على الدوام، هي تبعات تتطلب إعادة صياغة لتحالفات السودان التاريخية بشكل جذري.
إن أي انخراط كامل في التعاون العسكري مع روسيا، يحتم انقلاباً مدوّياً في خارطة العلاقات الخارجية للسودان، ودخول الحرب الحالية فصلاً جديداً كلياً.
روسيا لا تنظر فقط إلى البحر الأحمر، بل عينها - أيضاً - على الغرب الأفريقي، الذي تتمدد فيه فرنسا، وكان لافتاً انتقاد الوفد الروسي لـ "مؤتمر باريس"، الذي انعقد في نيسان/ أبريل 2024، ودعت له فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، ووصفه المسؤول الروسي بـ "التدخل الأجنبي" في شؤون السودان.
تلعب فرنسا دوراً محورياً في الصراع السوداني، خاصة في "دارفور". وقد سعت منذ تفجر الحرب إلى خلق تحالفات بين "الدعم السريع" وبعض حركات "دارفور" الرئيسية، المنحازة حالياً إلى الجيش، لكنها لم تفلح حتى الآن. وفرنسا التي تحتفظ بقواتها العسكرية في "تشاد"، تتطلع إلى سيطرة حلفائها السودانيين على إقليم "دارفور" غربي السودان، وهو ما قد يمكنها بالتالي من استعادة نفوذها في هذه المنطقة. وتقع الآن قوات "الدعم السريع" تحت ضغط تشادي للسيطرة على مدينة "الفاشر"، عاصمة إقليم "دارفور"، الذي سيطرت عليه قوات "الدعم السريع" بالكامل باستثناء العاصمة وما حولها.
وخلال الشهر ذاته الذي شهد التفاهمات السودانية – الروسية، نقل الإعلام الرسمي في "النيجر" وصول مدرّبين روس، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال محتفظة بقوات عسكرية في هذا البلد.
الدروس الجيوسياسية للأزمة الأوكرانية
01-03-2022
كل هذه المعطيات، لا يمكن إقصاؤها من أي تحولات كبرى في مسار العلاقات بين الخرطوم وموسكو. يبقى أن موافقة الجيش على أية اتفاقية عسكرية مع روسيا، ستمكِّن موسكو من وجود أكبر موطئ قدم لها في أفريقيا منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. وستدخل السودان من دون أدنى شك في مرحلة جديدة كلياً، وسط مخاوف لا تنتهي من تحوّل البلاد إلى ساحة صراع دولي مستمر.