تمتد نبتة القنب الهندي الخضراء أمامي، في حقولٍ متفرقة، لكنها بارزة بفضل خضرتها اللّامعة وسط الحقول الجافة حولها، التي لا يُزرع فيها شيء آخر. كما أن الخريف وهو موسم حصاد القنب الهندي، وقت ميّت بالنسبة إلى باقي ما تنتجه الأرض.
سألتُ أحد مرافقيّ عن مراحل زراعة الحشيش، فصحّح لي بسرعة: قصدك الكِيفْ. هكذا يرى النّبتة جلّ فلّاحي القنب الهندي: نوعاً من المزروعات تنتهي مسؤوليتهم عنها، عند بيعها إلى الوسطاء والمهرّبين. وما يفعله بها هؤلاء، بعدها، والذين يأتون خلفهم في السلسلة الاستهلاكية للمُنتَج، لا علاقة لهم به. لكن أحوالهم في انحدار بعد مجد سابق لمردود نبتة واحدة، كان لها مفعول السحر على حياتهم البسيطة، لم تهبهم الغنى لكنها حمتهم من الفقر. هم المقيمون في سلسلة جبال الريف ذات الطبيعة القاسية والمهمشة، بسبب عوامل البيئة والثقافة، ما جعلها حديقة سرَية مثالية تدر المليارات، إلى جانب كونها قريبة من الشواطئ، من حيث تتوجه إلى أوروبا.
أول محصول قانوني للقنب الهندي في المغرب
عام 2023، ليس مجرد تاريخ عادي في تاريخ زراعة نبتة القنب الهندي، بل هو أول سنة تتم فيها زراعة محصول قانوني، تحت إشراف ومراقبة هيئة رسمية، هي "الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي"، التي تعمل على تقنين الزراعة بشكل يحدد نوعية القنب المزروع، وحصة كل فلاح من البذور. قبلها كانت زراعة القنب محظورة قانوناً لكن من دون تنفيذ المنع إلا في حالات قليلة، يتم فيها حرق حقول القنب، التي غالباً ما تكون قريبة من الطرق الوطنية، أو تمّ الإيقاع بأصحابها في صراعات عصابات المخدرات.
"الكِيف" المغربي منعاً وإباحة
17-06-2021
صادف الحدث رحلتي في آخر أسابيع عام 2023 إلى منطقة "خميس لوطا" التابعة لـ "شفشاون"، والمُلاصقة لواد "القنار"، وهو من أكبر الوديان في المنطقة، ويضم مصبّات وشلالات صغيرة تحوّلها إلى جنة صغيرة. وتقع شفشاون شمال المغرب، وكانت محل أنظار العالم في مأساة الطفل ريان الذي وقع في البئر. انتهى أمر الرحلة بأن تحولتْ إلى مهمة صحافية، بعد أن كانت رحلة مشي جبلي.
في عالم هذه الزراعة المختلفة عن باقي ما تنتجه الأرض في البلاد، يُقدَّر عدد المزارعين الذين يشتغلون في زراعة القنب الهندي بما يقارب 400 ألف شخص، حسب أرقام رسمية. وضعف ذلك حسب أرقام أخرى. هي إذاً مصدر مهم للدخل لفئة كبيرة من الناس، لولاها لكانت أوضاعهم كارثية، أشبه بوضعية سكان جبال الأطلس، في وسط وجنوب البلاد.
وقدّرت دراسة للشبكة المستقلة "المبادرة العالمية ضد الجريمة المنظمة العابرة للحدود" إنتاج المغرب من القنب الهندي خلال السنوات الأخيرة، بحوالي 700 طن سنوياً، بقيمة إجمالية تقارب 23 مليار دولار.
الكيف لنا والحشيش للآخرين
بدأنا اليوم بفطور في منزل قروي بسيط، يقدِّم أصحابه وجبات لهواة المشي، كما فعل غيرهم من الفلاحين الذين حوّلوا منازلهم إلى بيوت ضيافة تقدم لمحبي الطبيعة بعض لمحات الحياة القروية، مقابل مردود بسيط، خاصة في سلسلة جبال الريف التي تقل فيها مناطق الزراعة، لطبيعة المنطقة صعبة التضاريس، بصخورها الكلسية والجيرية والصلصالية، التي تعمِّق وعورة المسالك.
قبالة بيت الضيافة، الذي يقف بعيداً عن باقي البيوت، يتمدد حقل صغير للقنب الهندي، بخضرته الباهرة، بعد صيفٍ أكلت فيه الشمس معظم خضرة الأرض. رافقني فريد وشقيقه ـ مضيفانا - إلى الحقل ليجيبا عن أسئلتي حوله.
فما كان من الأخ الأكبر سوى أن قطف لي نبتة، وهو يشرح لي دورة حياتها. ولصغر الحقل أشفقتُ عليه من خسارة هذه الحبّة، لكنه أصر. كانت رائحة الحقل قوية ونفاذة، حتى أنني سألتُ أكثر من مرة ما إذا كانت لا تؤثر علينا عند شمّها أو لمسها. لكن الفلاحين أكّدوا براءة النبتة الخضراء من التّخدير، إلى أن تجف وتخضع لعملية طويلة في تحويلها إلى مُنتج مخدِّر. لكن كيف نتأكد من ذلك في مجتمع لا بدائل لديه حتى لو كان للعيش حول الحقول آثارٌ عليه؟
يُقدَّر عدد المزارعين الذين يشتغلون في زراعة القنب الهندي بما يقارب 400 ألف شخص، حسب أرقام رسمية. وضعف ذلك حسب أرقام أخرى. هي إذاً مصدر مهم للدخل لفئة كبيرة من الناس، لولاها لكانت أوضاعهم كارثية، أشبه بوضعية سكان جبال الأطلس، في وسط وجنوب البلاد.
هل هذا كل ما لديكم؟ أجابا: هناك حقول أخرى متفرقة.
لكن لم يكونا سعيدين وهما يتحدثان. فالأسعار انهارت حتى بلغت ما بين 100 و200 دولار للكيلوغرام الواحد بعدما كانت تبلغ حوالي 500 دولار.
كم كيلوغراماً ينتج هذا الحقل؟ حوالي سبعة كيلوغرامات.
بعد ساعة من المشي، وصلنا إلى "واد القنار"، حيث استقبلنا أحمد الذي يملك مقهى بسيطاً، مع أجهزة تخييم على ضفاف الوادي. أكد أن وضعية الفلاحين ساءت منذ فترة، مع انهيار الأسعار، بسبب المنافسة العالمية على تجارة الحشيش وتصديره إلى أوروبا. وهذا على الرغم من أنه حتى في فترة الانتعاش، كان فلاحو النبتة بالكاد يعيشون بشكل مريح مع ما ينتجونه، فيما يغتني الوسطاء والمصدرون غنى فاحشاً.
في منطقة الوادي تنتشر حقول القنب بشكل يقدّم صورة كاشفة عن وضعية أصحابها. فبعضها ضئيل الحجم ونباته شاحب وقصير القامة يدل على ضعف حيلة أصحابها في موارد الريّ. بينما تتطاول الرؤوس الخضراء ما استطاعت في العلو والخضرة، في حقول كبيرة أخرى. لكن الملاحظ أنه ما من حقل كبير بما يكفي. ربما هي استراتيجية محلية للمزارعين، ـ"تفريق البيض" وعدم وضعها في سلة واحدة وربما هي كل ما يملكه هؤلاء من أرض.
دورة حياة النبتة
تزرع نبتة القنب الهندي بين شباط/ فبراير وآذار/ مارس. وتقطف في بدايات الخريف. هناك نوعان من بذور القنب الهندي، البلدي والرومي. هذا الأخير هو الغالب لأنه يعطي غلة أكبر، ولا يتطلب كثيرًا من الماء خلال عملية نموه، فيما يحتاج البلدي إلى سقي كثيف.
عدتُ إلى البيت بالنبتة التي سألتُ غوغل عن استعمالاتها، فكانت الإجابة مفاجئة: يمكن إعداد شاي منها، وعصير علاجي، ويمكن استعمالها في الطبخ بأن تُرش بعد أن تجف على البيتزا كالزعتر، فتُضيف قيمة غذائية كبيرة إلى الأطباق.
الهدف الأساسي من تحويل القنب الهندي إلى منتجات تجميلية أو طبية، هو إنقاذ الفلاحين من الزراعة غير المشروعة، وهذا ما حاولت أن تصل إليه موجة سياسية مرّت بسرعة وطوي ملفها بانتهاء المصلحة.
في مناطق أخرى غزيرة الإنتاج أكثر من هذه، مثل "كتامة" المجاورة، عاصمة زراعة الكيف في المغرب، يكتفي كثير من المزارعين بمرحلة الحصاد، وتسليم المُنتج خاماً، وهذا يحرمهم من أرباح أخرى لو أنهم حولوا النبتة بأنفسهم إلى منتَج نهائي، سواء أكان حشيشاً نقياً يُصنع من البذور، أو باقي الفئات المتوسطة ورديئة الجودة، التي تصنع من الأوراق وبقايا النبتة. بينما في المنطقة حول القنار الواحد، يعمل كل فلاح على منتجه حتى يسلِّمه في شكله النهائي، وهو الغبار المطحون الذي يحوله المتاجرون إلى معجون يتم تقطيعه ليباع بالقطعة.
في المغرب، يُستهلك "الكيف" في معظم الحالات،عبر تدخينه بـ "السبسي"، وهو غليون طويل ودقيق، تُوضع في نهايته قطعة صغيرة من معجون الحشيش، تُشعل بالولاعة.
طباخ السم يذوق
تَعرف المنطقة المحيطة بمدينة شفشاون وداخلها، حالات انتحار هي الأعلى في البلاد. إذ تشير الإحصائيات إلى حدوث ما يقرب من ثلث حالات الانتحار في المغرب. وهي دليل على وجود حالٍ من الهشاشة النفسية هناك، مع العلم أن أكثر من نصف الحالات شباب لم يبلغوا العشرين.
قصة المخدرات يرويها تلامذة من الدار البيضاء
23-04-2014
الناجح: لا أحد
19-12-2023
كثيرون يلومون الظروف الاقتصادية الصعبة، لكنها ظروف مشتركة مع مناطق أخرى في البلاد مهمشة ولها طبيعة قاسية. سألت أحمد عن تأثيرات تدخين الحشيش على أهل المنطقة، نفى أي تأثير سلبي له. ماذا عن حالات الانتحار؟ لم يَبدُ قادراً على الإجابة، وهو الخبير في أنواع المخدرات بحكم استضافته لعدد من البوهيميين، ومحبي التخييم الذين يجدون في حياة الخلاء فرصة لحرية أكبر في الحياة، بما فيها كل ما هو غير قانوني. لكنه أنكر مسؤولية الحشيش عن الانتحار، ولام بدوره "البراني" (الدخلاء) الذين يحملون بلاوي مخدِّرة أشد إلى شباب المنطقة. أما الكيف فلا ضرر يأتي منه في نظرهم.
يلوم بعض المفسرين الظروف الاجتماعية. فزراعة القنب الهندي أثرت على العلاقات الاجتماعية في الدواوير (القرى)، وأنتجت بالتالي صراعات داخل المجموعات القبلية، مع الصعوبات الاقتصادية التي خلّفها التضييق على التجارة، وغياب أي بدائل أخرى للدخل. فلا مصانع ولا فلاحة، ولا حتى قطعان ماشية، ولا ميل إلى الهجرة السرية، التي تمثل حلماً جماعياً في مثل هذه المناطق التي تزرع اليأس في أطفالها.
تَعرف المنطقة المحيطة بمدينة شفشاون وداخلها، حالات انتحار هي الأعلى في البلاد. إذ تشير الإحصائيات إلى حدوث ما يقرب من ثلث حالات الانتحار في المغرب. وهي دليل على وجود حال من الهشاشة النفسية هناك، مع العلم أن أكثر من نصف الحالات شباب لم يبلغوا العشرين.
بين أسباب الانتحار "الأكثر منطقية"، الإدمان على أنواع رديئة من القنب الهندي، تؤدي إلى أضرار على الإدراك العقلي. ولاعتياد استهلاك الحشيش يسهل على الشباب الانتقال إلى مخدرات أخرى، وخلطها معاً، في مجتمع تقليدي إذا اهتزت قيمه وعلاقاته لا يملك وسائل لمقاومة هذا الانسياق نحو هاوية الإدمان. ولتوافر الحشيش بشكل كبير، يبدأ الأطفال في استهلاكه في سن مبكرة، مما يسبب أضراراً على الدماغ... بالإضافة إلى الاستخفاف العام بآثار الإدمان على الحشيش.
قانون لم يجد طريقه وأجندة سياسية عابرة
وصف أحمد زراعة القنب الهندي بأنها "غير حرة"، وتمنى لو أن هناك حلولاً أخرى. المقصود بـ"الحرة" هي الشرعية والأمان من القلق من تقلب السياسة في النظر إلى مزروعاتهم. وتقلب السلطات المحلية في التعامل معهم، بين التشدد والتواطؤ.
عدتُ إلى البيت بالنبتة التي سألتُ غوغل عن استعمالاتها، فكانت الإجابة مفاجئة: يمكن إعداد شاي منها، وعصير علاجي، ويمكن استعمالها في الطبخ بأن تُرش بعد أن تجف على البيتزا كالزعتر، فتُضيف قيمة غذائية كبيرة إلى الأطباق. لم أطبخ الغصن ولم أشربه شاياً، ربما هو نفور نفسي أكثر منه موقفاً. فليست كل أجزاء النبتة مخدِّرة، بل هي نبات مفيد جداً في كثير من المجالات، وأهمها التجميل والصناعة والطب. وهذا ما تسعى الدولة الى توجيه الزراعة إليه، في محاولات تعود إلى عدة عقود لكنها ظلت تراوح مكانها.
الهدف الأساسي من تحويل القنب الهندي إلى منتجات تجميلية أو طبية، هو إنقاذ الفلاحين من الزراعة غير المشروعة، وهذا ما حاولت أن تصل إليه موجة سياسية مرّت بسرعة وطوي ملفها بانتهاء المصلحة. واستغرق القانون المنظم لتقنين الزراعة الصادر عام 2017 أربع سنوات ليدخل إلى حيز الوجود عام 2021، مع مصادقة الحكومة على القانون المتعلق بالاستعمالات المشروعة للقنب الهندي، انشأت الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي، ومهمتها التنسيق بين القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية والشركاء بهدف الإشراف على زراعة هذه النبتة، ومنح التراخيص للمزارعين، مع مساعدة الفلاحين على تنمية حشائشهم الغالية، ومن بينها تزويدهم ببذور صالحة لزراعة أكثر جدوى.
الوظائف السياسية للحشيش
18-07-2012
سُلّمت أول دفعة من بذور القنب الهندي، المستوردة من سويسرا، ذات النسبة الأقل من المادة المخدرة THC، للمزارعين والتعاونيات في أقاليم الحسيمة وشفشاون وتاونات (شمال المغرب)، وهي المنخرطة بقوة في زراعة القنب الهندي. لكن المبادرة شملت عدداً من المستفيدين فقط. والرُّخص التي جرى منحها حتى الآن تعتبر تجريبية لاختبار فاعلية النظام الحالي، خاصة أن عشرات الآلاف من الفلاحين متابَعون قانونياً بسبب زراعتهم للقنب الهندي. يتم التغافل عن معظمهم لكنهم يبقون دوماً في خشية من تفعيل المتابعة. وهذا ما يترك المزارعين الذين لم يحصلوا على تراخيص بعد، والذين يشكلون الأغلبية العظمى، في مهب الحيرة، حيرة الوجود وحيرة المآل.