"الكِيف" المغربي منعاً وإباحة

بعدما تمت المصادقة على قانون من طرف الحكومة، ومجلس النواب، يسمح باستعمال مادة القنب الهندي، دخل المغرب عهداً جديداً من تاريخ علاقته بـ"الكِيف": التقنين لأغراض صناعية وطبية.
2021-06-17

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
حصاد القنب في منطقة الريف الأوسط، المغرب.

يشرح رئيس تعاونية للمواد التجميلية المحلية فوائد زيت الحشيش المقطّر. يعدد مزاياه بجدية بادية على ملامح وجهه، ويؤكد لإحدى المواقع المحلية بأن لهذه المادة أهمية كبيرة في التجميل النسائي، وللجلد عامة. لكن معظم الجمهور المتفاعل على الفيسبوك علّق على منتجاته التجارية بشكل ساخر، و شيطنها و بَخَسها. وهناك من قَيَّمَها بشكل أخلاقوي على أنها ضرب من "الانحلال" و"إشاعة لثقافة المخدرات" بين المغاربة.

قبل عقود، كان صعباً أن يعرض هذا المُنْتِج وسواه من المزارعين المحليين أمام الكاميرا منتجاته المستقاة من نبتة القنب الهندي (الكِيف). اختلف الأمر حالياً بعد أن تمت المصادقة على قانون من طرف الحكومة، ومجلس النواب يسمح باستعمال هذه المادة ، ليدخل البلد عهداً جديداً من تاريخ "الكيف" المغربي: التقنين لأغراض صناعية وطبية.

اليوم، الكيف مَرْضي عنه طبياً وصناعياً

يبدو بأن سجال تقنين الكيف المغربي، الذي دام لسنوات طويلة، قد انتهى بعد مصادقة الحكومة في آذار/ مارس 2021، ومجلس النواب في أيار/مايو، بأغلبية مريحة (119نائباً) على مشروع القانون رقم 13-21 المتعلق بالاستعمالات المشروعة للقنب الهندي. لم تعد إذاً للسياسيين المعارضين (المنتمين لحزب العدالة والتنمية الإسلامي) فرصةٌ للتراجع عن هذا التشريع، الذي مُرر بإرادة سياسية واضحة تنوي التصالح مع هذه المادة المغضوب عليها لعقود طويلة.

لا ينتفع المزارع الصغير من الاتجار بالقنب في سوق المخدرات - وهي العملية المُجَرّمَة - إلا بنسبة ضئيلة، فهو يحصل على 3 المئة من رقم المعاملات النهائي في إطار شبكات التهريب والمخدرات، مقابل 12 في المئة سيجنيها في السوق المشروعة.

إذ بات الكيف مرضيّاً عنه في الاستعمالات الطبية والصناعية والتجميلية، تماشياً مع قرارات الأمم المتحدة التي ترخّص الحشيش في هذه المجالات. ووفقاً للقانون، صار مسموحٌ لمزارعي الكيف أن يمارسوا أنشطتهم المشروعة بترخيص من "الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المرتبطة بالقنب الهندي". ويُلزمهم التشريع الجديد بالتسجيل في تعاونيات فلاحية، مع ضرورة استلام المحاصيل من قبل شركات التصنيع. كما تمتثل زراعة وإنتاج هذه النبتة بالكميات الضرورية الخاصة بالاستخدام الطبي أو الصيدلاني أو الصناعي، كصناعات الغذاء أو التجميل، ويمنع تصديرها خارج هذه الأهداف. ومَن تجاوز هذا القانون فالعقوبات ستطاله، وهي تصل إلى سنتي سجنٍ في المرة الأولى من المخالفة.

ظلت الإدانة تمس قطاعاً كبيراً من مزارعي القنب الهندي، إذ كانوا في وضع أشبه بالمعتقلين في حالة سراح. ففي أي لحظة مُباغتة يتم اعتقال أي مزارع صغير متلبّس بزراعة هذه النبتة، أو الاتجار فيها لأغراض غير مشروعة. الوضع الآن قد يختلف نوعاً ما، بعد أن صار بإمكانهم تعويض الإتجار مع شبكات المخدرات والتهريب، بالانخراط قانونياً في الزراعة لأغراض طبية وصناعية.

بالمقابل، لا يعرب كل المزارعين عن ارتياحهم لمآلات الأرباح، وتفاصيل العملية التجارية والتسويقية، إذ يروج بأن المستفيد الأول من هذه العائدات هي الشركات أولاً، ثم المزارع البسيط ثانياً وأخيراً. هذا المعطى غير الواضح حالياً، يساهم في تعزيز ميول بعض المزارعين إلى الإتجار بهذه النبتة كمخدر، لأن – بحسبهم - إيراداتها بهذا الشكل ستكون أعلى وأفضل من الإتجار بها في إطار الاستعمالات الطبية والصناعية. بيد أن المزارع الصغير لا ينتفع بشكل كلي من هذه العملية المُجَرّمَة، إذ يستفيد فقط من 3 بالمئة من رقم المعاملات النهائي المحصّل عليه في إطار شبكات التهريب والمخدرات، مقابل 12 في المئة سيجنيها في السوق المشروعة.

من جانب آخر، يُطرح في النقاش العام دواعي تقنين هذه النبتة طبياً وصناعياً في الوقت الراهن، بعد عقود من المنع الرسمي، فتقدم كمبرر بالأساس الأرباحُ المضاعفة التي جناها، وسيجنيها البلد بواسطة هذه النبتة. التوقعات تشير إلى 900 مليون دولار سنوياً بحلول سنة 2023، في حال تم تقنينها. أما العائدات السنوية الإجمالية قبل التقنين، فانتقلت من حوالي 500 مليون يورو في بداية العقد الفائت، إلى حوالي 325 مليون يورو حالياً.

قبل عقود: المنع علناً وغض الطرف سراً

بدأ المغرب مرحلة المنع الرسمي والكلي لاستهلاك وزراعة القنب الهندي بدءاً من عام 1954. وتجسد المنع الكلي لنبتة القنب الهندي في القانون الصادر عام 1974، إذ نص على عقوبات زجرية لكل من استعملها أو استهلكها أو أنتجها أو صدّرها أو تاجر بها، أو حرّض غيره على استعمالها. لكن، وبقدر ما كان المنع صارماً ومتشدداً على المستوى العلني والقانوني، بقدر ما كان متساهلاً على المستوى السري، إذ تغض السلطات الطرف عن بعض المخالفين والمزارعين، خاصةً التجار الكبار المقربين منها، ومن الجهات الحكومية التي تورطت في تسهيل عمليات التهريب والإتجار في هذه المادة الممنوعة.

غداة الاستقلال، حاولت السلطات المغربية اجتثاث زراعة الكيف مراراً وتكراراً، لكن محاولاتها باءت بالفشل، ولعل أبرزها سعيها إلى تأسيس تعاونيات فلاحية مطلع الثمانينيات الفائتة، بغية تعويض زراعة الكيف بنشاطات رعوية وزراعية أخرى وبديلة. كما قامت بإنشاء وكالة تنمية الأقاليم الشمالية، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بغية القضاء على انتشار الكيف. لكن هذه الخطوة لم تكن حائلاً دون تمدد زراعات الكيف، التي استمرت وتزايدت أكثر فأكثر في المناطق القريبة من "شفشاون" و"تطوان" و"تاونات" و"الحسيمة" و"تازة" (شمال المغرب أو كما يعرف بمنطقة "الريف").

تشير التوقعات إلى أرباح تصل إلى 900 مليون دولار سنوياً بحلول سنة 2023، في حال تم تقنين زراعة القنب الهندي .أما العائدات السنوية الإجمالية قبل التقنين، فانتقلت من حوالي 500 مليون يورو في بداية العقد الفائت إلى حوالي 325 مليون يورو حالياً.

أما المستعمر الفرنسي، فقام بتشجيع زراعة القنب الهندي في مناطق معينة كانت تحت سيطرته مثل "سوس" و"الحوز" و"دكالة"، كورقة سياسية لضرب منطقة الريف اقتصادياً، المعتمدة بالأساس على هذه المادة. لكن هذا الوضع اختلف إلى حد ما مع مرحلة حكم المقاوم عبد الكريم الخطابي لهذه الأراضي، إذ تأثر بفتاوى فقهاء الريف الذين حرّموا استعمال الحشيش، ما تسبب في انخفاض كبير في إنتاج محصول هذه النبتة. هذا الواقع لم يدم بعد هزيمة الخطابي عام 1926 أمام المستعمر الإسباني، الذي سمح بزراعة القنب الهندي، وغضَّ النظر عن تدخينه، واستعماله في مناطق محددة دون غيرها مثل "كتامة" التي عرفت مذاك بالإنتاج الوفير والجيد للحشيش، وصار اسمها لصيقاً بهذه الزراعة.

قبل قرون: تَرنح بين المنع والإباحة

لقرون ممتدة، كان استعمال الكيف في المغرب مترنحاً بين المنع والإباحة، وذلك على الصعيدين السياسي والديني.

قبل استقلال المغرب، كان التشريع الاستعماري الفرنسي متساهلاً في تدخين الكيف الذي كان يتم عبر "السيبسي"، وهو عود تقليدي يستخدم لهذا الغرض، كما أن زراعته والإتجار به كانت تؤطره تشريعات تلزم الفلاحين بإبلاغ السلطات بالكمية التي يرغبون في زراعتها، ويتم تغريم كل مخالف لهذا الإجراء.

بقدر ما كان المنع صارماً ومتشدداً على المستوى العلني والقانوني، بقدر ما كان متساهلاً على المستوى السري، إذ تغض السلطات الطرف عن بعض المخالفين والمزارعين، خاصةً التجار الكبار المقربين منها، ومن الجهات الحكومية التي تورطت في تسهيل عمليات التهريب، والإتجار في هذه المادة الممنوعة.

في الماضي، فرضت الظروف الاقتصادية المتأزمة للبلاد سداد الديون بأي ثمن للأوروبيين، وكان الحل السهل هو إباحة الكيف تجارياً، ما أقدم عليه السلطان الحسن الأول، الذي حكم البلاد في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، اضطراراً وتحت الضغوط الخارجية المفروضة عليه، مخالفاً نصائح الفقهاء وآراءهم. 

عرف الكيف أوج انتشاره خلال القرن الخامس عشر، إبّان حكم السعديين، الذين لم يتسامحوا مع هذه النبتة، إذ كانوا يجمعون محصولها ويحرقونه بشكل متكرر. لكن هذه الخطوة لم تؤد إلى اجتثاث هذه النبتة، إذ وصل مداها إلى طرق صوفية اعتمدتها في ممارساتها الروحانية مثل مريدي طائفة "هداوة"، الذين يرون بأن الكيف "مقدس" و"نعمة" لكل مؤمن ومتصوف، وأنها تسهّل عليهم ذكر الله وعبادته والتقرب إليه. كما يذهبون في زعمهم بأن النبي محمد بشّر المؤمنين بأن "الوقت لن يتأخر طويلاً حتى يكتشف المسلمون نبتةً تكون نعمةً عليهم". هذه العلاقة المحبة للحشيش، والتي تبرره دينياً وروحياً، اختزلت في جملة زجلية تقول: "اللي قال على الكيف ماشي نعمة يْكْمِيه (يدخنه) وما يشرب الما (الماء)".

بيد أن هذا التصور الديني لم يكن مقبولاً من معظم الفقهاء، إذ يرون دائماً وأبداً بأن الحشيش/الكيف/القنب الهندي ضربٌ من ضروب الانحلال والسكر والبعد عن تعاليم الله، ويتنافى مع أخلاقيات الإسلام. وقد أثر هذا المنظور الفقهي الذي تمسّك به رجال دين المغرب على قرارات السلاطين، فأصدر السلطان سليمان، خلال عام 1814، تشريعاً يقضي بالامتناع عن "الطابا"(التبغ) و"الكيف" وإحراقهما في كل البلاد. أما السلطان الحسن الأول الذي حكم البلاد في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، فحاول جاهداً القضاء على "الكيف"، إذ أصدر أمره بإحراق حقول القنب الهندي. لكن الوضع لم يستمر على هذا الحال خلال العقود التالية، إذ فرضت الظروف الاقتصادية المتأزمة للبلاد أن يسدد ديونه بأي ثمن للأوروبيين، وكان الحل السهل هو إباحة الكيف تجارياً.

لم يتسرع السلطان الحسن الأول في قراره المصيري،إذ قام باستشارة الفقهاء حول هذه النازلة. لكن آراءهم كانت مشيطنة ومعارضة للنبتة تحت مسوغات أخلاقية، وأخرى أمنية (درءاً لكل مساس بالأمن الداخلي للبلاد). وفي النهاية، أذعن السلطان للحل السهل "المحرم" فقهياً، وتحت الضغوط الخارجية المفروضة عليه أباح الإتجار بالكيف اضطراراً.

____________________________ 

مراجع: 

-كتاب تاريخ الضعيف (أو تاريخ الدولة السعيدة). محمد الضعيف الرباطي. تحقيق وتعليق أحمد العماري. طبعة 1986.

-دراسة "تهريب الكيف بالمغرب خلال فترة الحماية بين 1912 و1956 .محمد عبد المومن.

-مجلة "زمان" المغربية .العدد 90. نيسان/ابريل 2021.

-La culture du cannabis au Maroc entre l’économie et le religieux. Khalid Mouna. Théologiques 2009 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه