جيف رايت*
لم يخفت بعد الاهتمام بالرسالة اللاذعة المكوّنة من أربع صفحات التي كتبها كريغ مخيبر، المدير السابق لمكتب نيويورك لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، في 28 تشرين الأول/ أكتوبر، ووجّهها إلى المفوض السامي فولكر تورك، متهماً الأمم المتحدة بالفشل في مهمتها لمنع وقوع ما سمّاه "حالة نموذجية" من الإبادة الجماعية في غزة. حضر حوالي 1000 شخص من جميع أنحاء العالم ندوة رقمية مع مخيبر قبل أسبوع من هذه المقابلة، شارك في استضافتها "التحالف المسيحي الفلسطيني من أجل السلام" (PCAP) و"أصدقاء سبيل في أمريكا الشمالية" (FOSNA).
مخيبر هو محامٍ متخصص في حقوق الإنسان الدولية، عمل في أدوار مؤثرة عدة في الأمم المتحدة لأكثر من ثلاثة عقود وعاش في غزة في التسعينيات. تحدّث مخيبر بعد ندوته، مع موقع "موندوايس"، وفيما يلي نسخة محررة بشكل طفيف من مقابلةٍ أوسع معه.
- موندوايس: كيف تفسر دعم بايدن المستمر لحرب إسرائيل المدمّرة على غزة؟
كريغ مخيبر: بصراحة، إنّ هذا لا يفاجئني. لقد لازمت الولايات المتحدة جانبَ إسرائيل خلالَ سلسلة من الهجمات الممتدّة التي شنتها إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين لعقود من الزمن. بما يتعلق بالوضع الحالي، أقول إن الولايات المتحدة ترتكب تواطؤاً قانونياً، كما هو معرّف قانوناً في اتفاقية منع الإبادة الجماعية. يعتبر التواطؤ جريمة محددة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. في الماضي، عندما بدأ تكشّف ارتكاب عدة جرائم إبادة جماعية، كانت خطيئة الولايات المتحدة هي أنها لم تفعل شيئاً لوقفها.
عندما كانت تظهر معالم الإبادة في رواندا، وقد عاينتُها عن كثب في وظيفتي السابقة، أعطت الولايات المتحدة تعليمات لبعثاتها الدبلوماسية بعدم استخدام كلمة "جينوسيد" (إبادة جماعية). لقد فهموا أنهم إذا استخدموا هذه الكلمة، فسيضطرون بموجب القانون الدولي إلى اتخاذ إجراءات لوقفها، وهو ما لم يريدوا فِعله.
لماذا يدعمُ الغرب جرائم إسرائيل في غزّة؟
18-10-2023
حالة نموذجية من الإبادة الجماعية
21-10-2023
وفي حالة غزّة، لا يقتصر الأمر على حقيقة أنهم لم يتخذوا الإجراءات اللازمة لوقف الإبادة، بل إنهم شاركوا فيها عملياً. بينما كانت هذه الفظائع تُرتكب في الوقت الحقيقي، كانت الولايات المتحدة تقوم بتسليح وتمويل إسرائيل وتوفير الدعم الاستخباراتي والغطاء الدبلوماسي. حتّى أنها سخّرت حقّ النقض/ الفيتو مراراً وتكراراً لقطع الطريق على وقف إطلاق النار حتى تتمكن إسرائيل من الاستمرار في ما تفعله. هذا يرقى إلى مستوى التواطؤ بموجب القانون الدولي، ولهذا السبب يقوم مركز الحقوق الدستورية (CCR) الآن باتخاذ إجراء قانوني لمحاسبتهم على هذه الجريمة المحددة في اتفاقية منع الإبادة الجماعية.Bottom of Form
ما يفعله بايدن هو ما فعله كلّ رئيس ديمقراطي وجمهوري منذ عقود. في هذه الحالة، حيث ترقى تصرّفات إسرائيل إلى مستوى الإبادة الجماعية، يصبح الأمر ملفتاً جداً للنظر، فأولاً، هذا الوضع يعرّض مسؤولي الحكومة الأمريكية للمحاسبة القانونية فيما يتعلق بالإبادة الجماعية. وثانياً، ليس هناك أدنى شكّ في أنّ جو بايدن يدفع كلفة سياسية باهظة جداً لقاءه، وهو يستعدّ العام المقبل لخوض انتخابات تنافسية ضد دونالد ترامب على الأرجح، وهما متقاربان جداً في النتائج. لقد فقد بايدن الآن كتلة وازنة من الداعمين لأنه خسر أصواتاً انتخابية بسبب ما يعتبره الأميركيون دعماً غير مشروط قدّمه لإسرائيل. فقد بايدن دعم الجالية اليهودية التقدمية ودعم العرب الأمريكيين والأمريكيين المسلمين والأمريكيين الأفريقيين ودعم الشباب كذلك. فكلّ هؤلاء اصطفوا في وجه المذبحة الإسرائيلية. لا أستطيع أن أتخيل أن فريق بايدن لم يكن على دراية ووعي بهذه التكاليف السياسية.
لكن الهيمنة السياسية على المؤسسات السياسية الأمريكية أصبحت مطلَقة لدرجة أنها باتت لا تعير أي اهتمام حتى لرأي الشعب الأمريكي. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الغالبية العظمى من الأميركيين – الجمهوريين منهُم والديمقراطيين - يعارضون هذا الهجوم الإسرائيلي ويريدون وقفاً لإطلاق النار وتقليصاً للدعم الأميركي لهذه العملية. إذا نظرنا ليس فقط إلى خطاب أعضاء الكونجرس من القطبَين وإلى خطاب وزارة الخارجية الأميركية والحكومة الأميركية بأكملها من جِهة، ثمّ إلى موقف الشعب الأمريكي على الجِهة الأخرى (حتى قبل أن نأخذ في الاعتبار الموقف الأخلاقي أو الموقف القانوني، وهذه تصبّ على الجانب المقابل أيضاً)، سنرى مدى اتساع الفجوة بين ما يريده الشعب الأمريكي – الحفاظ على الكرامة الإنسانية والممارسات الأخلاقيّة وحقوق الإنسان والقانون الدولي – وموقف المسؤولين المنتخَبين والإدارة الأميركية.
هناك فئات عدّة مستفيدة من هذا الوضع، ومن بينهم مُصنِّعو الأسلحة وشركات التكنولوجيا، بالإضافة إلى مجموعات اللوبي الإسرائيلي التي تكرّس نفسها بنسبة مئة في المئة، مسخّرة كامل نفوذها، من خلال وسائل الضغط وسياسات "العصا والجزرة"، لضمان استمرارية الدعم الكامل للولايات المتحدة للتطهير العرقي الذي ترتكبه إسرائيل في قطاع غزة.
- موندوايس: هلّا تحدّثتَ عن الجدل القائم الآن حول الفرق بين "سيادة القانون" و"النظام الدولي القائم على القواعد"؟
مخيبر: لقد تمّ صوغ تلك العبارة - "النظام القائم على القواعد"- في أروقة وزارة الخارجية الأميركية، وهي عبارةٌ لا تعني شيئاً في إطار القانون الدولي. بل بات يُفهم منها الآن على أنها وسيلة لتجاوز الالتزامات القانونية الدولية المحددة. فالولايات المتحدة، كما كلّ من الدول الـ193 في المجتمع الدولي، تخضع لإطار الالتزامات القانونية أمام هذا المجتمع الدولي كما يحددها القانون الدولي نفسه. غير أنّ الولايات المتحدة لم تكن عموماً صديقةً مخلِصة لهذا القانون الدولي.
القطيعة
07-12-2023
من غزة المحاصرة والمُبادة، نداء للتحرير
23-11-2023
ثمة تاريخ طويل من ازدراء القانون الدولي من جانب الولايات المتحدة الأميريكة. وعندما يتعلق الأمر بالقانون الدولي لحقوق الإنسان - أي الإطار القانوني الذي وُضع بعيد الحرب العالمية الثانية لمنع إساءة استخدام الدول لسلطتها وبالتالي الخوض في انتهاكات لحقوق الإنسان، مثل التعذيب والإعدام الميداني والاعتقال التعسفي والتمييز، بالإضافة إلى الحرمان من الرعاية الصحية والغذاء والسكن والمياه والصرف الصحي - فالولايات المتحدة هي صاحبة إحدى أسوأ نسب التوقيعات على المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان. وقعت جميع الدول الـ 193 في العالم على اتفاقية حقوق الطفل، باستثناء الولايات المتحدة. هي الوحيدة التي لم توقع على هذه المعاهدة الرئيسية والمؤسسة لحماية حقوق الأطفال. هذا موقف رمزي معبّر عن الموقف العام للولايات المتحدة تجاه القانون الدولي.
ينص دستور الولايات المتحدة على أن القانون الدولي هو قانون البلاد، وأنّ المعاهدات التي صادقت عليها الولايات المتحدة هي قانون البلاد. ولكن عندما تسمع النقاشات في المحاكم الأمريكية، على سبيل المثال، فالعادات القانونية في الولايات المتحدة تبدو معادية تماماً للقانون الدولي، فهم يسمّون القانون الدولي بالـ"القانون الأجنبي". إنه ليس قانوناً أحنبياً، إنه قانونكم، وأنتم جزءٌ منه، وقد ساهمتم في تطويره، ثم وقّعتموه طوعاً. لهذا أقول إن الولايات المتحدة ليست صديقة مخلِصة للقانون الدولي.
ترفض الولايات المتحدة الأميريكية التصديق على نظام روما الأساسي، وهي تعارض الجهود الهادفة إلى محاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عبر آليات دولية، فيما لو كان مرتكبو هذه الجرائم أصدقاء لها. تعمل الولايات المتحدة على قطع الطريق وعرقلة وتقويض ومنع والطعن في الآليات التي وُضعت لمحاسبة إسرائيل عن انتهاكاتها السابقة للقانون الدولي. إذا حاولت المحكمة الجنائية الدولية في أي وقت من الأوقات اتخاذ إجراءات قانونية ضدّ أي شخص أمريكي أو حليف للولايات المتحدة، فقد تواجه تدخلاً عسكرياً أمريكياً. في الواقع، صادق الكونجرس الأميركي على قانونٍ أطلق عليه اسم "قانون غزو لاهاي"، ينصّ على أن الولايات المتحدة مخولة باستخدام القوة العسكرية لمهاجمة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي من أجل استخراج شخصٍ ما لا يريدون له أن يُحاكم. بمعنى آخر، هذا يجيزُ لهم إطلاق سراح مجرم حرب بالقوّة.
تعبّر الولايات المتحدة عن هذا الازدراء المطلَق للقانون الدولي في نواحٍ أخرى أيضاً. كان الاتجاه السائد في المجتمع الدولي على مدى السنوات الأخيرة يميل إلى إلغاء عقوبة الإعدام. أمّا الولايات المتحدة فهي من الدول الشاذة، إلى جانب حفنة صغيرة من الدول التي لا تزال تمارس عقوبة الإعدام وتدافع عنها، مثل كوريا الشمالية والمملكة العربية السعودية وعدد قليل من الدول الأخرى. وتدافع الولايات المتحدة بشراسة عن موقفها في المحافل الدولية وتعارض التحرك في الأمم المتحدة للدفع بحظر أو إلغاء عقوبة الإعدام. هذا مثال آخر على ازدراء تطوير القانون الدولي بشكل تقدّمي.
ثمّة اعتقاد عام في هذا البلد، أشبه بالأسطورة، مفاده أن الولايات المتحدة دولة رائدة في مجال حقوق الإنسان في العالم. لقد أمضيتُ أربعين عاماً في الحركة الدولية لحقوق الإنسان ولم أرَ قطّ دليلاً فعلياً على ذلك. لدى الولايات المتحدة – بجناحيها الديمقراطي والجمهوري - سياسة رسمية قوامها معارضة برنامج الأمم المتحدة الدولي ضدّ العنصرية، على الرغم من أنه برنامجٌ جدّ خجول في مكافحة العنصرية في جميع أنحاء العالم، إلّا أن الولايات المتحدة تصرّ على الوقوف في وجه أيّ إجراء من شأنه تبنِّي برنامج مكافحة العنصرية. كما أنّ الولايات المتحدة هي واحدة من الدول القليلة (تحديداً، واحدة من أربع دول في العالم فقط) التي لم توافق على تبني إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية.
إن فكرة الريادة الأمريكية في حقوق الإنسان هي كذبة تمّ اختلاقها في واشنطن، ثمّ رُددَت ببغائياً مراراً وتكراراً. لكننا نعرف أن تلك الفكرة هي مدعاة للهزء والسخرية من قبل مَن هُم خارج الولايات المتحدة، ومن قبل الأشخاص الذين يعرفون السجلّ الفعلي للولايات المتحدة في هذا المجال. وهذا قبلَ أن نتطلّع حتى على انتهاكات حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة نفسها، التي يعاني منها الأمريكيون من أصول أفريقية والأمريكيون الأصليون والمساجين في مجمعات السجون الصناعية، بالإضافة إلى حرمان الناس من الرعاية الصحية ومن مروحة كبيرة من حقوق الإنسان المدوّنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي يُحرم منها بالفعل الكثير من الأميركيين. في الواقع، لم تكن الولايات المتحدة رائدة في مجال حقوق الإنسان، لا في الداخل ولا في سلوكها في الخارج ولا في تموضعاتها في النظام الدولي... على الأقل ليسَ منذ ترأست إليانور روزفلت لجنة حقوق الإنسان التي اعتمدت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، وربما مع تحسّن طفيف في عهد جيمي كارتر.
- موندوايس: ما الذي يحفّزك على الاستمرار؟
مخيبر: الغضب..
انظر، ليس لديّ قدرة على التسامح مع الظلم. لقد نشأتُ في بيئة متآكلة صناعياً، في ظلّ الكساد الاقتصادي والتمييز العنصري والتدهور البيئي بدءاً من ستينيات القرن العشرين، في مدينة تقع ضمن نطاق ما يسمّى بـ"حزام الصدأ" في الولايات المتحدة الأميريكة، وهي مكان اشتهر بالكوارث البيئية مثل كارثة "قناة لوف". وهي كذلك مكانٌ معروف بالصناعات الكيميائية التي كانت تتمركز هناك والتي أدّت إلى تدهور بيئي كبير وخلقت اقتصاداً محلياً تابعاً. عندما أُغلقتْ هذه الشركات في المنطقة، تركتْ وراءها قوة عاملة محبَطة وقاعدة ضريبية مدمَّرة، ومجتمعاً متحلّلاً. شهدتْ المنطقة انتهاكات من الشرطة في العقود السابقة وعنصريةً وصنوفاً من الظلم والحرمان. أعتقد أن هذا جعلني حساساً جداً للظلم. هذه الأشياء التي حصلت لم تكن حوادث طبيعية. لقد تأتّت من ذلك النظام الذي يمنح امتيازات لبعض البشر ويفرض أعباء على البعض الآخر.
عندما ذهبت إلى الجامعة في بوفالو في الثمانينيات، تحوّل هذا الوعي المحلي لديّ إلى وعي عالميّ، إذ كنت أتعلّم المزيد حول ما كنا نفرضه على البلدان الأخرى، وعلى وجه الخصوص، حول التأثيرات التي كنا نفتعلها، التأثيرات السلبية على الناس في جميع أنحاء العالم. في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة لا تزال تدعم الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وكانت تدعم "فرق الموت" في أمريكا الوسطى، وتدعم أيضاً اضطهاد الشعب الفلسطيني وسلبه أراضيه.
واكتشفت في تلك الفترة أنّ هناك أشخاصاً يملكون عقلية مشابهة لي حول العالم يناضلون عبر التضامن من أجل الدفع برؤية مختلفة... رؤية مبنية على مجموعة كونية من المبادئ تسمى حقوق الإنسان. وفهمت أنهم نجحوا في بعض الأحيان. وهذا ما يجعلني أستمر: التضامن مع الضحايا ومع الأشخاص المهتمّين بقضاياهم ومع حركات حقوق الإنسان في جميع أنحاء الكوكب. هذا التضامن يمكن أن يكون أمراً بغاية القوّة.
- موندوايس: ما تقوله يحيلني إلى التفكير في ما فعتله منظمة "أصوات يهودية من أجل السلام" (JVP)، بإغلاق محطة "غراند سنترال" في نيويورك، والاحتجاج الآخر المتمثل باحتلالهم تمثال الحرية، وفي وقتٍ سابق في إغلاقهم تقاطعاً رئيسياً في مدينة دنفر خلال المؤتمر العالمي للصندوق اليهودي الدولي.
مخيبر: وهكذا، وفي ضربة واحدة، تمّ تقويض كلّ رواية الهسبارا الإسرائيلية التي تدّعي العمل باسم اليهود. دمّرها هؤلاء اليهود أصحاب المبادئ والمدافعين عن حقوق الإنسان. إسرائيل دولة، وهي لا تمثل الشعب اليهودي. جرائمها تخصّها، وهي وحدها المسؤولة عنها. هذا الاتحاد بين اليهود والمسلمين والمسيحيين والملحدين والمدافعين عن حقوق الإنسان وناشطي السلام وغيرهم، معلنين أن الإبادة الجماعية شيء لا يمكن السماح به في القرن الحادي والعشرين، هو أمرٌ ملهم.
- موندوايس: هل ترى أية بوادر تغيير في الأمم المتحدة؟
مخيبر: عندما أتحدث عن الأمم المتحدة، أحرص على تحديد أيّة أمم متحدة أقصد. الأمم المتحدة عبارة عن شبكة معقدة من المنظمات والمكاتب. هناك الأمم المتحدة الأكثر ظهوراً، وهي الجانب السياسي من المنظمة، كمجلس الأمن والهيئات الحكومية الدولية والأمين العام والقيادات السياسية العليا. وهذا الجزء من الأمم المتحدة مأزوم. لقد ضلّ هذا الجزء من الأمم المتحدة طريقه تماماً، منتهجاً التنفّع السياسي ومستسلِماً للترهيب، خوفاً من أن تعاقبه الدول القوية إذا حاول اتخاذ موقف مبدئي ما. هذا أمر خطير للغاية، وفي هذا الجانب يجب ممارسة الضغط واحتماله.
لكن هناك جانب آخر من الأمم المتحدة، وهو محرّك الأمم المتحدة، المتمثّل بكل الموظّفين العاملين في مجالات حقوق الإنسان والتنمية. هؤلاء يعملون في المنظمة لأنهم يرفضون الفقر والظلم والحرب، وهم يعملون على محاولة القضاء على هذه الأشياء. إن هؤلاء الأشخاص - بما فيهم أكثر من 138 من العاملين والعاملات في الأونروا في غزة وعائلاتهم الذين قتلتهم إسرائيل في الأسابيع القليلة الماضية – فإنني متضامن بالكامل مع هؤلاء الأشخاص، الآن ودائماً. ليس لدي انتقادات موجّهة ضدّهم شخصياً، بل أن القيادة السياسية للأمم المتحدة قد تخلّت عنهم.
أمّا التنازلات التي تقدِّمها الأمم المتحدة بسبب الخوف من حكومة الولايات المتحدة، ومن اللوبي الإسرائيلي، ومن الدول الغربية مثل المملكة المتحدة وألمانيا وغيرهما، فإنها في الحقيقة تعرّض موقف المنظّمة الأخلاقي للخطر وتضعف قدرتها على القيام بأيّ من أعمالها. وينطبق الشيء نفسه على المحكمة الجنائية الدولية.
- موندوايس: هل يمكنك الاستفاضة هنا في الشرح حول المحكمة الجنائية؟
مخيبر: المحكمة الجنائية الدولية ليست مؤسسة تابعة للأمم المتحدة، لكنها مؤسسة دولية مهمة تم إنشاؤها لمحاولة توفير فرصة لتحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية. لكن بدلاً من ذلك، تحولت هذه المؤسسة إلى آليّات تركّز فقط على بلدان الجنوب، ومحاكمة الزعماء الأفارقة وعدد قليل من الآخرين، وترفض القيام بأي إجراء قد لا يعجب الغرب. والمثال الأكثر وضوحاً هو السرعة التي تحرّكت فيها المحكمة فيما يتعلق بمزاعم ارتكاب روسيا جرائم حرب في أوكرانيا، حيث بادروا في غضون أيام إلى اتخاذ إجراءات قانونية، وبالمقابل، التباطؤ الفاسد الذي لطالما تعمّدوه عند التحرك بخصوص الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين، وذلك لتجنّب اتخاذ أي إجراء فعلي، على الرغم من أن هذه القضايا مرفوعة منذ سنوات.
تكمن المشكلة اليوم في المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، وهو شخص فاسد تماماً سياسياً، وهو يضرب سمعة المحكمة بالكامل بسبب انحيازه الواضح وتقديمه خدماته المتزلّفة للمصالح الغربية. سيجلب هذا الوضع عاراً حقيقياً على المحكمة، ما لم تُحرِّر نفسها من الهيمنة السياسية والفساد الذي عشعش بها، وخاصة داخل مكتب المدعي العام. هذه المحكمة عُرضة لأن تخسر دورها بسرعة كبيرة ثمّ تتلاشى في خلفية التاريخ، وهو ما سيكون وصمة عار على أولئك الذين نظموا جهودهم على مدى عقود من الزمن لإنشاء المحكمة وغايتهم مساءلة الجناة الأقوياء في هذا العالم. بل سيكون تلاشيها خسارة للجميع.
نرى الشيء نفسه يتكرر مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إذا تمكّنتْ إسرائيل من الإفلات من المحاسبة في جرائم الحرب الهائلة والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي والإبادة الجماعية في غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وإذا كانت الرسالة التي تُقال لنا هي أن هذه القواعد التي أُرسِيت بعد الحرب العالمية الثانية لا تنطبق على الولايات المتحدة وحلفائها، ستكون هذه بداية النهاية للإطار الدولي برمته... فمن سيجرؤ على المطالبة بهذه الآليات والأدوات بعد أن سمعوا من الولايات المتحدة أنها لا تنطبق عليهم وعلى أصدقائهم، ولكن تنطبق على الجميع سِواهم. ستكون هذه نهاية هذا الإطار القانوني، مما سيعود بالخسارة علينا جميعاً.
- موندوايس: قد تكون خسارة تمتد لعقود...
مخيبر: تماماً، وقد تكون خسارة دائمة. هذه الآليات الموضوعة هي من بين القواعد القليلة جداً التي يمكن أن تحول بين الأفراد الذين يريدون صون كرامتهم وحقوقهم من ناحية، والقوى الهائلة للدول وجيوشها وشرطتها ووكالات استخباراتها من ناحية أخرى.
- موندوايس: ماذا ترى بعدَ هذه المرحلة؟
مخيبر: أعتقد أن إسرائيل تعمل على تسريع كلّ عملياتها الآن استكمالاً لهدفها الأصلي المتمثل في التطهير العرقي في غزة، والذي يشكل جزءاً من مشروعها الأكبر الذي بدأ في 1947. أعتقد أنهم يسرّعون أيضاً، وبالتوازي، جهود عمليات التطهير العرقي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. أرى أنّ هذه لحظة تاريخية ترغب فيها إسرائيل بتحقيق أكبر قدر ممكن من التقدّم الخبيث، لتعزيز مشروعها الاستعماري-الاستيطاني العرقي-القومي. نحن نتحدث عن قطاع غزة الذي دُمّر ثلثاه بالفعل. نحن نتحدث عن 18 ألف قتيل، بل على الأرجح 20 ألفاً، مع الآلاف الذين لا يزالون عالقين تحت الأنقاض، والآلاف الآخرين الذين سيموتون من المرض والجوع والعطش. وقد دُمّرت بالفعل البنية التحتية المادية لقطاع غزّة إلى الحدّ الذي تختفي فيه كل البنى الضرورية للحياة، للطعام والماء والكهرباء والحياة الثقافية والكنائس والمساجد وعمل المدارس والشعراء والمؤلفين. كل هذا دُمّر.
أعتقد أنهم سيحاولون إنهاء أكبر قدر ممكن من تلك المهمّة في الأسابيع القليلة المقبلة، ثمّ سيحاولون عرقلة أي عملية إعادة إعمار أو أيّ تنظيم للعودة بشكل بنّاء، وذلك بهدف إجبار الناجين على الاختيار بين البقاء في جنوب غزة والعيش في ظروف بائسة وهشّة أو العبور من رفح إلى سيناء، ليعيشوا ما تبقى لهم من سنوات البؤس في خيم لجوء في الصحراء، أو ليتمّ نشرهم في الشتات وإرسالهم إلى بلدان أخرى حتى تتقدّم إسرائيل بشكلٍ أبعد في مشروعها للتطهير العرقي في فلسطين.
لكن ماذا سيحدث؟ هل سيتمّ التسامح مع هذا التطهير؟ حسناً، من المرجّح أن تكون هناك صفقات بدأ طبخها بالفعل في هذا الأثناء خلف الكواليس بين الأمريكيين وغيرهم، لمحاولة تعزيز نجاح إسرائيل في تطهيرها العرقي لغزة. أعتقد أنهم سيبدأون بعد ذلك بمتابعة المسار الذي بدأوه في تسريع وتيرة الاضطهاد في الضفة الغربية والإطباق عليها. لقد قاموا حتى الآن بتطهير عدد من القرى عرقياً هناك، واعتقلوا عدداً كبيراً جداً من الناس وفرضوا ظروفاً حياتية تُطْبق الخناق على أهل الضفة في محاولةٍ لدفع المزيد والمزيد من الناس إلى تركها أيضاً. الإسرائيليون يحاولون ترسيخ مشروعهم لدولة الفصل العنصري، أي التفوقية والاستعمارية الاستيطانية والقومية العرقية "من البحر إلى النهر".
صدع عميق في المجتمع الإسرائيلي
25-10-2023
نكبة ثانية؟ مسؤوليات "المجتمع الدولي"
17-10-2023
يفلت الإسرائيليون من العقاب بسبب تواطؤ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد من الدول الأوروبية. وهم يفلتون من العقاب أيضاً بسبب فشل الهياكل القانونية الدولية والمؤسسات الدولية التي قامت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، ولا يبدو أن أيّاً من هذه الهيئات سينتفض فجأة ويتّخذ موقفاً مبدئياً. هذا يعني أن الأمل في منع إسرائيل من الإفلات من العقوبة على ارتكابها الإبادة الجماعية، والأمل في إنهاء حلمها المحموم بدولة عرقية قومية قمعية وإقصائية، يقع على عاتق الناس العاديين في إسرائيل وفلسطين وجميع أنحاء العالم.
أظنّ أن الأمل موجود لأن هنالك ملايين من البشر، يهوداً ومسيحيين ومسلمين ومدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء سلام ونقابات عمالية وآخرين، يقفون جميعاً ضدّ ذلك، ينتفضون ويقولون "لا". إذا استمر كلّ هذا، وإذا أمكن محاسبة المعنيين في المحاكم وإرساء محاسبة اقتصادية من خلال المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS)، ومن خلال العصيان المدني والمظاهرات الحاشدة في بلدان الغرب، ومن خلال حركة متعاظِمة مناهِضة للفصل العنصري، فلن تتمكن إسرائيل من الإفلات من العقاب بعد اليوم على تلك الجرائم التي أفلتت منها على مدى 75 عاماً خلت. إن انتصار رؤية حقوق الإنسان يعتمد على مدى نجاحنا في النضال ضدّ الأبارتهيد والنكبة المستمرة.
دعونا نأمّل في البدء في تفكيك نظام الفصل العنصري في إسرائيل وفلسطين، وتفكيك القومية-العرقية، والبدء في العمل نحو إقامة دولة تقوم على حقوق الإنسان والمساواة للمسيحيين والمسلمين واليهود. وهذا ما يطالب به الناس في جميع أنحاء العالم. وإذا تمكنّا من الضغط بشكل كافٍ وفعال من خلال كل هذه الضغوط السلمية، فقد نشهد تحوّلاً حقيقياً في الاتجاه الذي تأخذه الأمور، ولعلّ هذا سيستغرق وقتاً طويلاً كما حدث في جنوب إفريقيا. لكننا قد نشهد انعطافاً في المسار شديد الظلمة الذي يسير فيه العالم اليوم.
المفارقة الكبرى هي أن عام 1948، العام الذي أُقرّ فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعام الذي أُقرّت فيه اتفاقية منع الإبادة الجماعية، كان نفسه عام النكبة في فلسطين – أول إبادة جماعية وتطهير عرقي في فلسطين، وكان نفسه العام الذي اعتُمِد فيه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كذلك.
- موندوايس: ماذا لاحظت منذ أرسلتَ رسالتك إلى المفوض السامي، وما الذي أدهشك بعدها؟
مخيبر: ما وجدته صادِماً هو وجود أشخاص متحمّسين بالفعل، بل يعلنون بغضب دعمهم للإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة والأراضي الفلسطينية، أي كما كتب ييتس: "الأفضل بين الناس يفتقر إلى القناعة الراسخة، في حين أن الأسوأ بينهم مليء بالحماسة الشديدة"، في حين نرى كلّ يوم جثث الأطفال والنساء والرجال والأجساد المتلاشية والدمار الشامل للحياة المدنية في غزة. إن رؤية بعض الناس يتنظّمون لدعم دولةٍ ترتكب أفظع الانتهاكات ضد المدنيين العزّل، وسماع الآراء العنصرية العميقة التي يبرّرون بها دعمهم هذا، متغافلين تماماً عن لا-أخلاقية الموقف الذي يتخذونه جهاراً... فهذا أمر صعب الهضم وقد صعقني بالفعل.
أمّا الأمر الآخر الذي أعتقد أنه فريدٌ في هذه الحالة، بل ربما لم نشهده منذ عهد مكارثي، وأعتقد أنه الأكثر إثارة للخوف في هذه المرحلة، فهو الهجوم المنظم على المدافعين عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة. وقد جُنّد ضدهم الكونغرس الأمريكي والسلطة التنفيذية وحتى الجامعات التي خضعت لهذه الفكرة الرهيبة. يتمّ إقرار تشريعات على مستوى الولايات وعلى المستوى الفيدرالي لتقييد حرية التعبير المتعلّقة بالدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني. لم أرَ في حياتي شيئاً مماثلاً لما يحدث. إنه أمر خطير جداً ويجب إيقافه، وهو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان واعتداء صريح على معايير حرية التعبير وحرية تأسيس الجمعيات وحرية التجمّع. هذا انتهاك لحقوق المدافعين عن حقوق الإنسان وانتهاك للحق الأساسي لكل فرد في هذا البلد في رفض انتهاك حقوق الإنسان. الطريقة التي تم بها تمرير هذا الأمر واقتراحه هي طريقة غير مسبوقة في تاريخنا وهي خطيرة للغاية.
ولكن هناك أيضاً طلابٌ شباب شجعان و"مقاولون حكوميون" (شركات صغيرة توفر الخدمات والسلع للمواطنين بموجب عقود حكومية) وأشخاصٌ عاديون يرفضون الانصياع لجوّ الترهيب ويرفضون الصمت. هؤلاء يتظاهرون في الشوارع بالآلاف، معرِّضين أنفسهم لخطر الاعتقال أو الضرب على يد الشرطة - ليس فقط في شوارع الولايات المتحدة، ولكن أيضاً في أوروبا، حيث تم منع هذه المظاهرات.
إنه أمر مرعب للغاية أنّ دولة أجنبية – وهي دولة تمارس الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني وتشارك في إبادة جماعية كاملة – قادرة على التأثير على القانون والسياسة داخل الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى بشكل ينتهك حقوق الناس في هذه البلدان. أرى إصرار الناس على عدم السماح للسلطات بإسكاتهم أمراً ملهِماً. عدد الذين يتخذون هذا الموقف سوف يستمر بالتعاظم. وأعتقد أن التاريخ سيحكم على هذه الحقبة بشكل مناسب، وسيحكم على أولئك الذين ساهموا في القمع في الولايات المتحدة بقسوة شديدة. علينا العمل بلا كلل أو ملل لنتمكّن من تحقيق هذا الحكم التاريخي عليهم عاجلاً، وليس آجلاً.
- موندوايس: ما هي خطوتك التالية في مسيرتك؟
مخيبر: كنت قد خططت للعودة إلى البيت والاستقرار والكتابة والتفكير بشكل غير مقيّد. ولكن المثل يقول، "إذا كنت تريد أن تجعل الله يضحك، أخبره بخططك." الآن، خطتي هي مواصلة العمل تضامناً مع حركات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، وخاصة هنا (في الولايات المتحدة)، فخطّ المواجهة الأول في مجال حقوق الإنسان بالنسبة للعديد من الأشخاص حول العالم يقع هنا بالذات، في الولايات المتحدة، في قلب الإمبراطورية. نحن الذين نعيش هنا نتحمّل مسؤولية خاصة بإعلاء الصوت وتحريك الأمور حيث يجب. هذه هي خطتي.
- موندوايس: كريغ، رسالة استقالتك كانت مذهلة. هل تلقّيت أيّ جواب من رئيس عملك؟
مخيبر: لم أتلقَّ أيّ جواب. صمتٌ مطبِق.
* هذا النص هو ترجمة لمقابلة أجراها الصحافي جيف رايت مع كريغ مخيبر، المدير السابق لمكتب نيويوك في مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ونُشرت باللغة الإنجليزية على موقع "موندوايس" بتاريخ 14 كانون الأول/ ديسمبر 2023.
- ترجمتها من الانجليزية صباح جلّول