ليس احتفاء بهذا الحدث الجنوني الذي أعاد الاستعمار إلى أساليبه الأولى، الاحتلالية، بواسطة "بساطير" جنوده وقدرة الدمار المباشرة التي تمتلكها أسلحته، وبواسطة العبث بالمجتمع المستهدَف على كافة المستويات، بخلخلة بناه المدنية والعسكرية وتفكيك مؤسساته، ونهب وتدمير تراثه وآثاره، ولو كانت تمثّل شواهد على فجر نشوء البشرية وعلى كيفية تدبر أحوالها في سومر وبابل وسواهما. وكل ذلك مترافق مع نهب ثرواته الحديثة، وعلى رأسها النفط.
لا نحتفي بمحو ما جهدت نخب المجتمعات الحديثة - وخاصة بعد الحربين العالميتين وبعد حروب دموية فظيعة ضد حركات تحررية هنا وهناك - في بنائه وفي إقراره كقوانينَ متوافَقٌ عليها ومؤسسات، ظلت عرجاء – صحيح - لعجزها عن تجاوز الطينة التي صُنعت منها، وظلت تحمل قدراً من الرياء لا يستهان به، وإنما مثّلث على الرغم من كل ذلك نسيجاً من "المبادئ" والضوابط المرجعية، وإن كانت تُخرق باستمرار. ولكنها هنا، مع الحربين العالميتين على العراق - بقيادة واشنطن ومشاركة لندن النشطة - وما بينهما وما تلاهما، انهارت لصالح تفلّت البربرية الخالصة. وكانت هذه البربرية المعلَنة بلا موارة متطابقة مع سيادة مرحلة الرأسمالية الحالية التي تُسمّى العولمة النيوليبرالية، والتي تفكِّك المؤسسات والدول – والمجتمعات – لصالح حفنة من المتسلِطين، أقرب الى المافيا منها الى أي شيء أخر.
يا عراق!
23-03-2023
عندما نطق بوش بالحقيقة!
22-05-2022
لا نحتفي بتلك المأساة التي يحق لمن يشاء الاشتباه بأنها إنما صُنعت أيضاً بتدبير إسرائيلي- صهيوني حاقد على بلاد الرافدين وأهلها، وقد صادف هوى مجانين المحافظين الجدد وتلاقى معهم، كما صادف انهيار التوازن الذي لعب دور الرادع في اشتغال تلك التركيبة الدولية البائسة، مع زوال الاتحاد السوفيييتي و"معسكره الاشتراكي".
ولا نحتفي بما آلت اليه الأمور بعد ذلك من انقلاب السحر على الساحر، بتمكّن إيران "الجمهورية الإسلامية" من العراق واستباحته على كافة المستويات، وإيقاظ أحلام إمبراطورية قديمة ورثتها نخبته الجديدة، وبتشكّل "القاعدة" ثم "داعش" وتمكّنهما من النيل من استقرار بلدان ظنت نفسها منيعة ولا دخل لها بما يجري في ساحات "متخلفة" بعيدة، فأعادت اكتشاف أن الكرة الأرضية واحدة، وأنها مكوّرة فلا بعيد وقريب فيها، بل هي هشة وقابلة للتدمير بالمفرّق كما حدث، وبالجملة مع العبَث المستمر بالطبيعة والمناخ، بقصر نظر وعدمية صادمين، يعيدان طرح سؤال الجدوى من "التقدم"، بل ومن البشرية نفسها التي – وإن لم تُعدم بؤر من المقاومات - تبدو وكأنها ساهية عن الخطر الوجودي أو مستسلمة ل"قدرها"، في معاكسة صارخة لنظريات الفلاسفة منذ القدم وحتى العصر الحديث.
نقدم هنا نصوصاً ثمانية تحمل في طياتها كل ذلك، صراحة أو ضمناً. اخترنا حقولها لأنها الأكثر تعبيراً عن تلك الحال. النص الأول افتتاحي لميزر كمال عن العراق نفسه وخرابه، ثم تتوالى النصوص، فيتناول رجا الخالدي أثر هذا الخراب على دفع النضال التحرري الفلسطيني إلى مأزق يقاوم الفلسطينيون اليوم لجعله باطلاً أو على الأقل لمنع إطباقه عليهم. وتلتقط منى سليم أثر تلك الحال العراقية في وقتها على مصر وكيفية تمهيدها لثورة 2011، ويستخرج عمر بن درة الدروس التي استخلصتها الجزائر ذات التقاليد الثورية، وعلى رأسها أن تكبيل المجتمعات من قبل السلطات الاستبدادية المهيمِنة عليها هو أسهل وصفة لإضعافها وجعلها غير قادرة على مقاومة أيّ عدوان، بينما يعكس نص سمير العيطة حال الاضطراب التي عمت سوريا بعد "سقوط" العراق. بعدها نقدّم بالاشتراك مع "جمّار" - الموقع العراقي الشاب الذي خرج مؤسسوه من رحم "السفير العربي" - ثلاثة نصوص هي شهادات معيشة على تلك الفترة، أولها لديمة ياسين التي كانت في حينه شابة في مطلع حياتها، وثانيهما لمبين الخشاني الذي كان طفلاً في الخامسة وقد بَقرت مشاهد أسلحة الجيش الأمريكي عينيه المريضتين، وآخرها شهادة أماني الحسن، وكانت طفلة في السادسة، على كيفية احتواء الرعب والتعايش معه.
وهكذا نضيئ على استمرار تلك الحرب، لأن نتائجها ما زالت فعالة ومتفاعلة، تستولد معطياتها كقنبلة ارتدادية متعددة حلقات الانفجار، وتنشئ وضعيات متجددة في العراق أولاً، المنهوب والمستباح، وفي المحيط ثانياً، وفي العالم بأكمله ثالثاً. كانت تلك الحرب على العراق حدثاً عالمياً... وما زالت!