إذا ثمّة عنف موجع يمكن أن يصنَّف بعد الاغتصاب والإيذاء الجسدي، فهو طابور المصرف للنساء فى ليبيا. تفتقد ليبيا لبنية تحتية أساسية تقدّم خدمات إنسانية تواكب التطور التقني للحصول على خدمات ميسّرة أبسطها آلات صرافة. الحقوق ضائعة منهوبة تشبه نهب الخزينة العامة ومصرف ليبيا المركزي والمدخرات الفائضة وحجم الفساد المتفشي والرشى المباحة علناً بلا رقيب، في حين طابور المصرف بالساعات يُعَدّ واجباً ملزمة به المرأة دون مراعاة عمرها أو ظروفها الاجتماعية، تتحمله بلا نقاش بلا صوت بلا امتعاض ولا استياء. تقف وهي صامته إلا من ثرثرة عابرة مع رفيقات الطابور وما يحملن فوق أكتافهن من هموم..
نعيمة سيدة أربعينية مطلّقة تروي أيام البؤس مع رجل ينام صباحاً ويستيقظ ليلاً.. للسهر! فكونها تعمل في قطاع التعليم وتتقاضى مرتباً شهريّاً تحاول من خلاله ترميم وتوفير بعضٍ من الضروريات، فقد خرجت من عائلة نازحة ظالمة قاسية، وكانت ترجو أن يكون الزواج حلّاً ومنقذاً.
رجاء آنسة في أواخر الثلاثينات تحمل همّ الحياة مع والدتها المريضة بفشل كلوي، والتي تتقاضى راتب تقاعد بعد وفاة والدها، وجدت نفسها هي المعيلة بحكم كونها موظفة في قطاع الصحة. الظروف أجبرتها على التخلي عن أحلامها وارتباطها بحبيب واستقلالها بحياة ترغبها. حملها ثقيل: إخوتها الخمسة ومتطلبات الدراسة والحياة. تنهدّت تنهيدة كانت كافية لشق صخرة من الألم والحسرة .. "كيف نسيب أمي وخواتي للعازة ومد الأيد".
منيرة أرملة وأم لثلاثة أبناء (زوجة "شهداء بوسليم"، وهذه مجزرة جرت في سجن بوسليم قرب طرابلس حين داهمت القوات الخاصة السجن في 29 حزيران / يونيو 1996 بدعوى وقوع تمرّد فيه، وراح 1269 معتقلاً ضحايا في الواقعة، معظمهم من سجناء الرأي). منيرة لم تتوقف عن الحديث بلهجة منكسرة، تصف تفاصيل حياتها، فهي تتشارك المبنى ذاته مع شقيق زوجها وزوجته. تسرح بنظرها بانكسار وهي تسرد المقارنة بين حياتها كامرأة وحياة الأخريات اللواتي "يعشن بخمس نجوم"، فثمة من يجلب لهنّ قيمة الشيك حتى باب المنزل دون عناء. تحكي عن حياة يومية شاقة ومريرة، فهي من تتكفل بجميع المشاكل وتوفر كل متطلبات أولادها. مسؤولية أب وأم تُتمتم بحسرة، "الحياة غير عادلة، الحظ والسعد القوي هما القوة في الحياة. لما تولد البنت ادعوا لها بسعد قوي وراجل هني غني بيش تعيش مستقرة بعيدة عن طوابير المصارف". الشقاء قدر لا مفر منه.. فالحظ إن لم تلتقِ بنجومه عند ولادتك فلن يكون لك رفيقاً.
تلك النغمات الحزينة لأولئك النسوة اللواتي يصارعن الخيبات، أكثر من نصفهن يحملن مؤهلات جامعية، ولكن ما قيمة الشهادة وسط انعدام الخدمات في وطن لا يعي قيمة الإنسان.. أما النصف الآخر فيقف لتقاضي راتب التقاعد أو "السحب على الحمر".. بعضهن تركن أطفالاً رضّعاً، هناك مَن تعاني مرض السكر والضغط والعمود الفقري، ينزعن عنهن قناع الأنوثة وساعات الاسترخاء ويستبدلنها بطابور يصل الوقوف فيه حتى ست ساعات، نصفها في الشارع فحجم استيعاب قاعة المصارف للمواطنين لكي يصلوا لشباك الصراف صغيرة، فيُضطر الباقون للوقوف في الشارع تحت أشعة الشمس. تطول الحكايات كطول الطابور.. بلا نهاية
مواضيع
طابور المصرف في ليبيا عنف إجباري
مقالات من ليبيا
القاتل في ليبيا
الليبيون يعرفون أن المشكلة تكمن في مكان آخر: تنبأ بها عام 2022 تقريرٌ كتبته إدارة ليبيّة شبحيّة: "يجب علينا بشكل عاجل صيانة وتقوية سدَّي درنة، وهناك حاجة إلى سدّ ثالث،...
أفق التسوية السياسية في ليبيا: استبعاد القذافي وتجميد الوضع
الانتخابات الليبية في مهب الريح في ظل تشابك الأجندة الدولية مع الرغبة المحلية في الإبقاء على الوضع كما هو، على الرغم من المخاطر التي يمثلها ذلك، على غرار الاحتكاكات العسكرية...
مواطنون في غياهب النسيان: عن الإخفاء القسري في ليبيا
خلص تقرير لخبراء في الأمم المتحدة إلى أن القوات الحكومية والميليشيات في طرابلس، شأنها شأن "الجيش الوطني الليبي" الذي يسيطر على شرقي البلاد، جميعهم متورطون في ملف الإخفاء القسري لمواطنين،...
للكاتب نفسه
رمضان في ليبيا
أثَّر تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب الحرب على قدرة المواطن الليبي على تأمين احتياجاته من الغذاء في شهر رمضان، وقد أصدرت الحكومة بطاقة للشرائح الاقل دخلاً لتتمكن من الحصول على سلة...
ليبيا ما بين هلال غائم وثروات لم تبصر النور
لقد حان الوقت للتغاضي عن براميل النفط التي لم تجلب للمواطن إلا السنوات السوداء، والسعي لسلام موحد تحت راية كل هذه الثروات التي لم تبصر النور
وقود الحرب وضحايا الحقوق المسلوبة
منذ العام 2011 والشباب لم يعتلِ في ليبيا إلا محاور الحرب وجبهاتها. ترتفع نسبة الشباب ما بين 18- 35 عاماً، الذين استشهدوا في جبهات المعارك إلى 52 في المئة، هذا...