إعداد وتحرير: صباح جلّول
في الصور المعروضة امرأة واحدة، مرة بالأسود والأبيض ومرة بالألوان. نرى مرور الدهر عليها وازدياد تجاعيد وجهها عمقاً سنة بعد سنة، لكنّ الصور الأربع التي بين يديها لا تتبدل إلّا في الحجم وطريقة الترتيب. اسمها آمنة حسن بنات، وهي معروفة بأمّ عزيز الديراوي. هي لاجئة فلسطينية في لبنان، خُطف أبناؤها الأربعة في يوم واحد، خلال الجرائم المرعبة لمجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. رأتهم يوضعون في شاحنة ورأت الشاحنة تبتعد، ومذّاك صار هاجس حياتها أن تجدهم من جديد، أن ينزلوا من على الشاحنة ويطرقوا باب البيت...
افتتح "دار المصوِّر" في بيروت بالتعاون مع جمعية "لنعمل من أجل المفقودين" معرض تصوير فوتوغرافي بعنوان "أمّ عزيز: عن أمّهات انتظرن طويلاً ثمّ رحلن..."، ويستمرّ بين 22 آذار/مارس 2023 حتى 31 منه. يستعيد المعرض بمناسبة عيد الأم قصة نضال امرأة واحدة هي أم عزيز الديراوي، لكنه يكرّم من خلالها مئات أمهات مفقودي الحرب الأهلية اللبنانية، ويخلّد ذكرى الراحلات منهنّ، اللاتي عشن ومتن حاملات لصور الأبناء المسلوبين منهنّ.
إلى جانب صالة الصور، صالة أخرى يُعرض فيها فيلم وثائقي قصير (إخراج رنين يوسف) عن أم عزيز وحياتها في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين. "زوجها استشهد وأولادها الأربعة اختطفوا، ما في مأساة متل مأساة أم عزيز"، تقول أم عزيز عن نفسها بصيغة الغائب، وهي تتحدث بصيغة الغائب كلّما ذكرتْ المأساة والأهوال، كأنها تنفصل عن جسمها وتذهب إلى حيث الغائبين، زوجها وأولادها، أو كأنها شخصية من ملحمة تراجيدية. في البيت المتواضع تحيط بها صور الأبناء: بِكرها عزيز، ثم منصور وفيصل وإبراهيم، 30، 25، 22، 13 سنة... تلك كانت أعمارهم يوم توقَّف بهم الزمن، من الرجل المتزوج حتى الطفل الذي كان يلهو في الشارع.
"أخذوهم من جوّا البيت، مش واحد، الأربعة كلهّم"، تقول أم عزيز.
على كرسيها المدولب، نراها تتنقل في أحياء المخيم بمساعدة إحدى قريباتها. يعرفها الجميع هنا، يوقفونها ويقبّلون رأسها رجالاً ونساءاً، ويناديها الشباب "يا أمي، كيف حالك يا أمي؟". قضت أم عزيز الديراوي 40 عاماً من عمرها دون أن تفارقها يوماً صورة الأبناء وقضيتهم. في الصور الفوتوغرافية نراها تعلّق صورهم بالدبابيس على ثوبها الأسود وتتظاهر في الشارع. رفيقاتها الوحيدات أمهات مفقودين آخرين، يحيط بعضهن ببعض وتكثر الصور المعلّقة والمرفوعة والمخيّطة بالثوب والمسيّجة بالورود والشموع.
في الجزائر: لا خبر، لا قبر…
10-04-2022
تصف أم عزيز ذلك الأمل الصغير الذي أنهكها على مر السنين، وكيف أنه اشتعل يوم رأت تحرير الأسرى أنور ياسين وسمير القنطار واجتماعهم بأهلهم، وتمنت أن ترى أبناءها هي أيضاً وأن تعيش لحظة اللقاء تلك. تروي كيف احتفلت هي وأمهات المفقودين بفرح عظيم كلما خرج أسير، "كأنه ابني"...
في الصور المعروضة سيدةٌ يكثّف وجهها مأساة الآلاف، لا تجد لها صورة واحدة بعينين ناشفتين. أولادها أربعة من 17 ألف شخص فقدوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1990، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم. رحلت أم عزيز، رحلت عن الدنيا في آخر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ويستمرّ نضال أمهات وأهالي المفقودين دون راحة.
• يستمر المعرض في دار المصور - الوردية، شارع الحمرا حتى مساء الجمعة 31 آذار،مارس 2023، من الاثنين إلى الجمعة من الساعة 11 صباحاً حتى 7 مساءً.