في الجزائر: لا خبر، لا قبر…

غياب الجسد هو الّذي يتيح للسلطات والحكومة والعسكريين والشرطة ومؤيديهم من السياسيين والمدنيين تأصيلَ وتدعيمَ غيابِ المختفين قسريّاً. ولذلك فمن الضروري، وفي المقام الأول، كشف هذا الجسد المحجوب، وهو ما قامت به في الجزائر، أثناء الحرب الأهلية وبعدها، الجمعيّة غير الرسمية ولكن الحقيقية والفاعلة جداً لأمهات المفقودين. إنجازٌ هائلٌ!
2022-04-10

غنيّة موفّق

كاتبة وصحافية من الجزائر


شارك
| fr en
أمهات المخفيين، الجزائر.

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

متجاوراتٍ، أكتافهنَّ متلاصقةٌ، يقفنَ، كلّ أربعاء في موعدٍ أسبوعيّ، على مقربةٍ من قصر الشّعب في الجزائر العاصمة، عند مفترق الأحياء السكنية في البيار وحِيدْرة والمرادية. يتهامسن فيما بينهنّ، تُمَيِّزُهنّ من بين جميع النّساء الأخريات من خلال الصور الشخصيّة التي يحملنها كيدٍ ثالثة. صورٌ لأولاد، هكذا، في يومٍ من الأيام، في ليلةٍ من الليالي، من داخل منازلهم أو من الشارع، اعتُقلوا وأخذتهم قوات الأمن "الدّولة"، ومنذ ذلك الحين اختفوا ولم يعد لهم أثر.

قامت المُلَقبات بـ"أمهات المفقودين"، بابتكار كلمةٍ باللغة العربية للتعبير عمّا لا يوصف: "غبّروهم"، أي "حوّلوهم لِغُبار". لا يمكن إلا للنّساء أن يُحْدِثنَ صورةً مجازيّةً بهذا القدر من الإدهاش والدّقة، لكشف حبل الكذب والتّشكيك في اختفاء ذويهنّ: ابنٌ في الغالب، أبٌ، أو أخٌ أو زوجٌ. والآن تستوطن هذه الصور مشهدنا الإنسانيّ باختصارٍ قاسٍ: وجهُ، اسمُ، وتاريخُ الغياب القسريّ لهذا الذي ينظر إلينا من الصورة.

"أطلتُ التّحديق في خطوط كلّ وجهٍ، ولكنّني لم أرَ إلّا انعكاس مشاعري الخاصّة. غريبٌ، أليسَ كذلك؟"، تُسِرُّ الكاتبة ميساء باي، شارحةً كيف أنّ صور المختفين التي يحملها أهاليهم في المكان العام تستدعي فينا "(...) هذا التأثير العجيب للمرآة، حيث يجب أن ينصبّ اهتمامنا - وهم، أي الأهالي، يطلبون هذا الاهتمام بالفعل، وهو بلا شكٍّ الرّغبة الوحيدة الّتي تحرّكهم (1).

إنّ هذا الاعتراف الذي لا يجرؤ أحدٌ اليوم على الاعتراض عليه، هو في حدّ ذاته حدثٌ هامٌّ: لقد أظهرنَ للعلَنِ ما كان يُرادُ له أن يظلّ مخفيّاً، ضمن ما كانت السلطات الجزائريّة، والدولة بشكلٍ عامٍ، ووسائل الإعلام، لا تزال تسميه "الحرب ضدّ الإرهاب" ، ضد "جماعاتٍ إسلاميةٍ مسلّحة" تبثُّ "الإرهاب والخوف".

لقد قُمْنَ - في سياق عنفٍ لم يسبق له مثيلٌ، دُعِيَ فيه العالم بأسره إلى إدانة "الإرهابيين الإسلاميين مرتكبي المذابح في الجزائر" - باستدعاءِ فاعلٍ آخر للعنف، هوعنفُ الدولة في إدارتها لفترة ما بعد الانتخابات التشريعية الّتي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عام 1992 (الجبهة الإسلامية للإنقاذ محظورةٌ اليوم)، ووجّهنَ لها السؤال: "ماذا فعلتم بأولادنا؟" "ماذا فعلتم بأزواجنا؟". أضافت الزوجات وقريباً سيكون دورُ الأخوات ــ للواتي يتعهدنَ لأمهاتنّ على فراش الموت، بمواصلة النّضال- واللواتي سيسألنَ بدورهنّ: "ماذا فعلتم بإخواننا؟". وتقدّم جميع هذه العائلات إلى المجتمع مرآةً لتُظهِر انعكاس الصورة الحقيقيّة، ولِتضعَ اسماً لما حدث.

قامت المُلَقبات بـ"أمهات المفقودين"، بابتكار كلمةٍ باللغة العربية للتعبير عمّا لا يوصف: "غبّروهم"، أي "حوّلوهم لِغُبار". لا يمكن إلا للنّساء أن يُحْدِثنَ صورةً مجازيّةً بهذا القدر من الإدهاش والدّقة، لكشف حبل الكذب والتّشكيك في اختفاء ذويهنّ: ابنٌ في الغالب، أبٌ، أو أخٌ أو زوجٌ. والآن تستوطن هذه الصور مشهدنا الإنسانيّ باختصارٍ قاسٍ: وجهُ، اسمُ، وتاريخُ الغياب القسريّ لهذا الذي ينظر إلينا من الصورة.

عبر التّشكيك في ما حدث بالماضي، تقوم هؤلاء النّسوة في الحقيقة بسؤال الحاضر والمستقبل، مسلّطاتٍ الضوءَ على ما تمَّ طَمسُه. يقمنَ بكلّ هذا من خلال جمعيّةٍ غير رسميّة، والتي وإن كانت مشمولةً منذ العام 1999 ضمن "تجمّع عائلاتِ المفقودين في الجزائر" (CFDA - الذي أُسّسَ في المنفى في باريس من أجل إسماع أصواتهم على صعيد الهيئات الدوليّة لحقوق الإنسان)، إلّا أنّها تبقى في المِخيال الجزائري: "جمعيّة أمهاتِ المفقودين".

نشأت هذه الجمعيّة في الفترة ما بين 1995-1996، وتألّفت من آلاف النّساء المجهولات عبر كلّ مدن الجزائر الكبرى، في عزِّ حالة الطوارئ والعدالة الاستثنائية التي أُعلنت باسم "الحرب ضدّ الإرهاب" من جهّةٍ، وفي عزّ عنفِ المجموعات الإسلاميّة المسلّحة المتمرّدة ضدّ الدولة، وما بين مجازرَ جماعيّةٍ واغتيالاتٍ محدّدة. كلُّ طرفٍ يلقي اللائمة والمسؤوليّة على الطرف الآخر.

اليوم، وعلى الرّغم من أوامر الصّمت والاسكات المتعدّدة، والتي من بينها ما كان عنيفاً، فقد نجحنَ بفرض روايتهنّ الخاصة لهذه الـ"حرب بلا اسم"، العنيفة بلا هوادة، من خلال صلابة وجودهنّ وهنّ يحملنَ على صدورهنّ صورَ غيابٍ لا يُحْتَمَل.

قُمْنَ - في سياق عنفٍ لم يسبق له مثيلٌ، دُعِيَ فيه العالم بأسره إلى إدانة "الإرهابيين الإسلاميين مرتكبي المذابح في الجزائر" - باستدعاءِ فاعلٍ آخر للعنف، هوعنفُ الدولة في إدارتها لفترة ما بعد الانتخابات التشريعية الّتي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عام 1992. 

يقاومنَ اليوم، وسط عزلةٍ سياسيةٍ وصدمةٍ عميقتين تسببت بهما هذه المأساة، محاولاتِ طمسِ ذكرى اختفاءِ ذويهنّ. وعلى شكل عتابٍ وطنيٍّ، يرفضن النسيان.

يكافحنَ من أجل العدالة والحقيقة. في الواقع، إنهنَّ، وهنَّ في رمق طاقتهنّ الأخيرِ كأمهاتٍ تشيخ أجسادهنّ، يرفضنَ السماح للغبار بدفنهنّ مع أولادهن.

بدايةٌ بلا نهاية

في أوائل التسعينات الفائتة، لم يكنَّ يعلمنَ أنهنَّ سيصبحن "أمهات المفقودين". يقينهنَّ الوحيد، أنَّه في مثل هذا اليوم، وفي مثل هذا الوقت، جاء رجالٌ يرتدون الزيّ الرسميّ للدولة وألقوا القبض على ابنٍ، زوجٍ، شقيقٍ.

لا زلنَ يتذكرنَ كلَّ التفاصيل.

يعرفنَ بالضبط متى، وأيّ ساعةٍ، وصلتِ الشرطة أو الجيش أو الدرك أو أحد الأجهزة السريّة لاعتقال ذلك الذي سيصبح بعدها من "المفقودين"، ويتذكرنَ ما قالوه، وما الذي حدث وكيف حدث، حتى آخر نظرةٍ تبادلوها مع أُسرِهم، مع الأم، الزوجة، الأخت، الأخ والأب، هؤلاء الذين شهدوا تلك الليلة. يعرفنَ بأنَّ هذا الصباحَ الباكرَ قد حدث يقيناً، وأنّه فجأةً، أحدُ أعزائهم قد أصبح في عداد المفقودين.

في البداية، وحين بدأ الغياب يطول، كانت تلك الأمهات هنّ من سيبدأن رحلة البحث. وهل بيدهنَّ حيلةٌ غير البحث عن هذا الجسد المفقود؟ وهنّ يرددنَ: "لا قَبر، لا خَبَر".

من مخافر الشرطة إلى الثكنات القريبة من مكان احتجاز أعزائهنّ، كنّ يبحثن عن العنوان القانونيّ للاحتجاز قبل أن يكتشفنَ أنّ من يبحثنَ عنهم ليسوا مسجّلين أصلاً في سجلات الشرطة، لا بأسمائهم الأولى ولا بأسماء عوائلهم. لقد سلكوا بهم فإذاً طُرُقاً أخرى، طُرُقاً بدون أيّ أثرٍ إداريّ أو قانونيّ.

في رحلة البحث هذه، سلكنَ طرقاً مجهولة، وهنَّ يكتَشفنَ ويَكشِفنَ مدينةً أخرى: مدينةٌ سريةٌ، ودربٌ نحو الاختفاء. لقد كنّ يعرفنَ أيّ طريقٍ سلكوا بهم، ولكنهنّ أردنَ أن يُسائِلنَ ويتَساءَلنَ: أيُّ دربٍ هذا الذي حوّل أحبّاءَنا إلى غبارٍ؟

بين المحاكم ومكاتب المحامين، كانت بدايات الاعترافِ والتعارفِ بين أهالي المفقودين، والّتي من خلالها ومع الوقت استطاعوا تأليف جمعيّةٍ غير معترفٍ بها رسميّاً ولكن لها ثقلٌ وحضورٌ سياسيّ لا مثيل له. بخرقهنّ الصمت، كنّ يحطمنَ محرّماً. 

في رحلة البحث هذه، اكتشفنَ جغرافيةً أخرى لمُدنِهم، من مراكز الشرطة إلى الثكنات، الى اختصارات أسماء أجهزة الشرطة المتعددة ، والى ألوان الزيّ الرسميّ، أصبحنَ يعرفنَ تسلسلَ الشرطة الهرميّ، أسماءَ الضباط الّذين يتمتعون بسمعةٍ سيئةٍ، وسِلك الجيش والشرطة، متنقلاتٍ بين المحكمة والنيابة العامة وهنَ يحاولنَ المستحيل : تحديدُ أماكن احتجازٍ سريةٍ ، هي بحكم تعريفها أصلاً "غير مرئية".

لم يتم تحضير تلك النّسوة لاقتحام جغرافيا الخوف هذه، ولم تكن تعرفنَ بعد أنَّ خوض هذا الغَمار سيحولهنَّ إلى محقّقاتٍ، تُراكمنَ الأدلة والإشارات على دروب الاختفاء المظلمة، بل وإلى مؤرشِفاتٍ للاختفاء القسريّ في الجزائر.

ذاكرةٌ، معرفةٌ ومعركةٌ، كان يمكن هي أيضاً بدورها أن تختفيَ لولاهنّ.

أصبح هذا العمل فيما بعد عاملاً مهماً وأساسياً في تغذية المحامين والصحافيين والعدالة الوطنية والدولية بالمعلومات، بل وحتى الحكومة في محاولاتها لنيل صمتِ الأهالي توافقيّاً تحت حجّة "إيجاد السلام الدّاخليّ".

في بداية السنوات الأولى من العنف المسلح (1992-1993)، كانت كلّ أسرةٍ تعيش مأساتها الخاصّة في عزلة، قبل أن تكتشف بأنها مأساة جماعية.

يعرفنَ بالضبط متى، وأيّ ساعةٍ، وصلتِ الشرطة أو الجيش أو الدرك أو أحد الأجهزة السريّة لاعتقال ذلك الذي سيصبح بعدها من "المفقودين"، ويتذكرنَ ما قالوه، وما الذي حدث وكيف حدث، حتى آخر نظرةٍ تبادلوها مع أُسرِهم، مع الأم، الزوجة، الأخت، الأخ والأب، هؤلاء الذين شهدوا تلك الليلة.

بين المحاكم ومكاتب المحامين، كانت بدايات الاعترافِ والتعارفِ بين أهالي المفقودين، والّتي من خلالها ومع الوقت استطاعوا تأليف جمعيّةٍ غير معترفٍ بها رسميّاً ولكن لها ثقلٌ وحضورٌ سياسيّ لا مثيل له. بخرقهنّ الصمت، كنّ يحطمنَ محرّماً: لقد وجهنَ اتهاماً صريحاً لقوات الأمن والدولة الجزائريّة، بممارساتٍ مخالفةٍ للقانون، في حين يزعمون الدفاع عن الجمهوريّة في وجه خطر الإرهاب الإسلاميّ. عبر كشفهنَّ وتنديدهنَّ بجريمة الاختفاء القسريّ، لقد كنّ فعليّاً يغيرن طبيعة الصراع، بفرض موضوع هذه الجريمة المخفيّة في صميم دائرة النقاش العام. ومن خلال إعادة تقييم الطابع السياسي لهذه الجريمة، كنَّ ولا زلنَ يُسائلن الجزائر ونظام سلطتها حول الاسم الذي يجب أن يُطلَقَ على ما حدث.

الدولة مذنبةٌ ولكنها غير مسؤولة

لكي نفهم خصوصيّة هذه المأساة، ينبغي التذكير بأنّه وخلافاً لتجربة الاختفاء القسريّ في أميركا اللاتينية، فإنّ المفقود في الجزائر بفعلِ أعوانِ الدولة يواجه دعايةً سيئة: فهو مشتبهٌ به في كونه "إرهابيٌّ"، بل وما هو أشدّ سوءاً "إسلاميّ". وبينما يظلُّ من الصعب تحديد وصفِ/فئةِ المفقودِ قسريّاً من قِبَل الشرطة والقوّات العسكريّة، فإنّ جغرافيا اختفائهم توافق معالم الأحياء الشّعبيّة الّتي، وفي غالبيتها العظمى، قد صوّتت لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عام 1992، في أول انتخابات برلمانيّة تعدديّة والّتي كان من المفترض أن تنقل الجزائر من نظام الحزب الواحد إلى التعدديّة السياسيّة.

بالنسبة لعائلات المفقودين، فإنّ الرقم الرسميّ للمختفين قسراً على يد عملاء الدولة والبالغ 6146 مفقوداً، وعلى الرغم من الطعن فيه لحساب أرقامٍ أعلى، وعلى أرفع المستويات من قِبَل جمعيات حقوق الإنسان، إلا أنّه لا يزال ضخماً بما فيه الكفاية ليتناقض مع النّظرية الرسمية لـ"الحالات المعزولة" التي قام بها عملاء الدولة "الخارجين عن السيطرة".

 لقد كان إلغاء الانتخابات بناءً على قرارٍ من القيادة العسكرية - وضدّ رأي الرئيس الشاذلي بن جديد الذي قاد هذه المبادرة الإصلاحيّة الّتي انتهت بالإخفاق - عبارةً عن الطلقة الأولى لموجات عنفٍ لم تكن مُتخيَلةً لا من قِبَل قوات الشرطة والقوات العسكرية من جهة، ولا من جهة "التّمرّد الإسلاميّ"، المتشرذم على شكل جماعاتٍ مسلحة متعددةٍ تعمل دون قيادةٍ أو رؤىً سياسية، ويصبُّ الطرفان كلّ جهدهما في التأثير على القناعات العامة، واتخاذ مواقف ضدّ الآخر متهماً إياه بارتكاب أشنع الفظائع.

في هذا السياق، يقع المفقودون بين نار عُنفَين وروايتَين مختلفتَين عن العنف، ويصبحون ضحيّةً جانبيّةً يصعب تحديد هويتها داخل هذه الأحياء الشعبيّة المتّهمة أصلاً من قبل مؤيدي الجمهوريّة "المهدّدة"، بكونها مناصرةً للجبهة الإسلاميّة للإنقاذ.

أكبر التّحديات التي تواجه عوائل المفقودين تتمثّل في إقناع الآراء العامّة - المستمالة أصلاً من قِبَل الرواية الرسميّة المهيمنة -، بأنّ أبناءهم لم ينخرطوا يوماً في صفوف الجماعات المسلّحة. "استهدفت ظاهرةُ الاختفاء القسريّ المدنيين الواقعين أصلاً بين نارَي المجموعات المسلّحة الإسلاميّة وأجهزة أمن الدولة. لم يكن المفقودون، وكما روّج الخطاب الرسميّ أمام الآراء العامّة والهيئات الدوليّة لحماية حقوق الإنسان، إرهابيين مسلحين. لقد تمّ توقيفهم من داخل منازلهم، في الأماكن العامّة، في مقارّ عملهم، وبشكلٍ عشوائي وهم يقومون بمهامهم اليوميّة". (2)

من الصعب تقدير العدد الفعليّ للمفقودين، ولكن ضمن خطة "الوئام المدنيّ" (التي وضعتها الحكومات والرؤساء المتعاقبين في الفترة من 1995 إلى 2006، على مدى إحدى عشر عاماً، ما بين قانون "الرحمة" الذي يقترح نزول المجموعات المسلّحة من الجبال ومنحهم العفو القانونيّ مقابل توبتهم، ووثيقة الوئام والمصالحة الوطنيّة المعتمدة في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2005، والتي ستضع حدّاً لأعمال العنف بشكلٍ رسميٍّ)، فقد تمّ إدراج عوائل المفقودين تلقائياً في الآليات المطروحة.

في مقالٍ يلخّص جيداً هذه العمليّة: "بعد إنكار حالات الاختفاء القسريّ، أنشأت السلطة التنفيذيّة لجنةً متخصصةً في عام 2003 لـ"معالجة" قضية "المفقودين الجزائريين". وكانت هذه اللجنة مسؤولةً عن تحديد حالات الاختفاء القسريّ بإجراء بحوث مع السلطات المختصة وإبلاغ الأُسر بنتائج التحقيقات ". (3)

وقد قام فاروق قسنطيني وهو رئيس "اللجنة الاستشارية الوطنية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان" (CNCPPDH) بتقديم نتائج البحث: بعد ثمانية عشر شهراً، أعلنَ أنّ اللجنة تعترف بـ 6146 حالة اختفاء "من قبل عملاء للدولة معزولين". وأضاف أنّ "الدولة قد تعتبر مسؤولةً بالنظر الى عدم تمكنها من حماية بعض المواطنين الجزائريين، ولكنّها غير مذنبةٍ نتيجة تجاوز سلسلة القيادة أو بعض تراتبيتها، مما مكّن بعض أعوان الدولة من التصرف بشكلٍ فرديّ"(4).

هذا الاقتباس الطويل يختزله الرأي العام في الجزائر في عبارةٍ وجيزة: "الدولة مذنبةٌ ولكنها ليست مسؤولة".

وبعد ذلك بعامين، ومع اعتماد "الميثاق الوطني" واقراره في عام 2005، سادت الروح نفسها التي تُرجمت بالمصطلح القانونيّ عند صياغته لوضع حدٍّ لما سمّاه النّص "المأساة الوطنيّة".

"يُموِّه ميثاق عام 2005 المسؤوليّات ويُحجِّمها، ويَحُول دون بلورة أيّ تفكيرٍ نقديٍّ حول 10 سنواتٍ من موجات عنفٍ مميت. "المأساة الوطنيّة" كما حددت صياغتها الدولة الجزائريّة، لا تحتمل التحليل والنقد حول الصدمات التي خلفتها أو حول مسؤوليات الدولة، وقوات الأمن والإرهاب الإسلامي. إنّها - بصيغتها هذه - تمنع أيّ شكلٍ من أشكال العدالة الانتقاليّة وتضميد جراح الضحايا"، كما توجزُ المؤرّخة كريمة ديراش سليماني. (5)

لا تزال أمهات المفقودين تجتمعن كل أربعاء ، متجاوراتٍ، متكاتفاتٍ، يتناقص عددهنّ مع الوقت، لكنهنّ مستمرّاتٍ في الإدلاء بشهادتهنّ: لا يوجدُ ميتٌ من دون جثةٍ. ومن دون مراسم دفنٍ ليسَ الميتُ ميتاً بعد، ليس طالما أنّه لا يزال ممنوعاً من حفرةٍ تسمح له أن يقول: أنا هنا. انطلاقاً من هذا المطلب، لا تُحدِّثنا أمهات المفقودين عن الماضي فحسب، بل عن المستقبل.

نقاشٌ لا يَنضبُ ولا يَتعب. ولكنّ الجدير بالذّكر من جملةِ هذا المسار الطويل أنّه وبالنسبة لعائلات المفقودين، فإنّ الرقم الرسميّ للمختفين قسراً على يد عملاء الدولة والبالغ 6146 مفقوداً، وعلى الرغم من الطعن فيه لحساب أرقامٍ أعلى، وعلى أرفع المستويات من قِبَل جمعيات حقوق الإنسان، إلا أنّه لا يزال ضخماً بما فيه الكفاية ليتناقض مع النّظرية الرسمية لـ"الحالات المعزولة" التي قام بها عملاء الدولة "الخارجين عن السيطرة".

وهذا الرقم بحد ذاته كفيلٌ بإدانة نظامٍ قسريٍّ بالفعل. هو رقمٌ يشمل عدداً كبيراً جداً من العائلات المعنيّة، والكثير من الجثث المحتجزة، والكثير من عملاء الدولة، والعديد من الآليّات والمركبات، والكثير جداً من ذوي البذل الرسميّة، والكثير الكثير من أماكن الاحتجاز السرية، وهذا الـ"كثيرٌ جداً" هو بحد ذاته دليلٌ على وجود آلة قمعٍ حقيقية تتجاوز كل شرعيّةٍ وتشبه بشدةٍ استراتيجيةَ إرهابٍ مضادٍّ منظمة.

وقد أدّى هذا الاعتراف، حتى وإن كان مصنوعاً على قياس الدولة إلى إعادة الاعتبار لأسر المفقودين، وأزاح عن جبينهم وصمة العار التي تُعرِّفهم بـ "عوائل الذبّاحين"، ورحّب بشكلٍ نهائيٍ بالعوائل ضحية الاختفاء القسري في صفِّ وإلى جانبِ ضحايا ما يسمى الآن "المأساة الوطنية". وفي نهاية المطاف، استعادت أمهات المفقودين، بشكل من الاشكال ورمزياً، أطفالهنّ، وبعودتهم، عاد الأهالي إلى المجتمع الوطنيّ الذي استُبعِدوا منه.

وقد منحهم هذا وأخيراً الحق في السؤال: والآن، أخبرونا أين هم مفقودو "المأساة الوطنية" ؟ وهذا ما يفعلنه، على الرغم من القانون الذي يحظّر الحديث عن المآسي تحت تهديد عقوبة السجن والغرامة، في العفو/النسيان.

لا تزال إذاً، كلّ أربعاءٍ، تجتمع أمهات المفقودين، متجاوراتٍ، متكاتفاتٍ، يتناقص عددهنّ مع الوقت، لكنهنّ مستمرّاتٍ في الإدلاء بشهادتهنّ: لا يوجدُ ميتٌ من دون جثةٍ، ومن دون مراسم دفنٍ ليسَ الميتُ ميتاً بعد، ليس طالما أنّه لا يزال ممنوعاً من مكانٍ، من حفرةٍ، تسمح له من حيث يتواجد، من أرضِه، أن يقول: أنا هنا.

مقالات ذات صلة

انطلاقاً من هذا المطلب، لا تُحدِّثنا أمهات المفقودين عن الماضي فحسب، بل عن المستقبل. إنهنّ الوعي المعذب لجزائر التسعينات الفائتة، يطلبن بحقهنّ بالمعرفة، يكافحنَ النسيان والصمت، الأكاذيب وممارسات الدولة، كما يستحضِرنَ أيضاً جميعَ القوى السياسية والاجتماعية التي، وباسم "حماية الجمهورية" بالقوة العسكريّة في عام 1992 - ومنذ صدور القوانين الاستثنائية وإعلان حالة الطوارئ التي لم تُرفَع حتى شباط/فبراير 2011 - اختاروا الصمتَ لأنّه وبحسب تعبيرهم في ذلك الوقت "لا يمكن صنعُ عجّة بيضٍ دون كسر البيض".

تُذكّرنا أمهاتُ المفقودين اليوم أنّ لكلٍّ مصيرٌ، حتى الماضي له مصيرٌ: "ها هنا، ربما، تَكتب من تشيلي أنتونيا غارسيا كاسترو، واحدةٌ من أهمّ انتصارات عوائل الموقوفين-المفقودين: القدرة على جعل الاختفاء القسريّ مرآةً حيث يمكن لكلٍّ منّا أن يرى بنفسه كيف سيكون في أعين الأجيال القادمة". (6)  

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

الترجمة من الفرنسية: مسلمة الشهال

______________________

1) A Fleur de silence, Anaïs Pachabézian, Maissa Bey, ed Barzakh, 2011.
2) « Les disparitions forcées en Algérie : un crime contre l’humanité, Collectif des Famille de disparus en Algérie, CFDA, février 2013.
3) L’Algérie « post décennie noire » : de l’imposition de l’impunité à la revendication de la justice transitionnelle, Morgane Jouaret, https://d@oi.org/10.4000/anneemaghreb.10017
4) Idem
5) Algérie : La « décennie noire », une mémoire interdite, par Karima Dirèche Slimani, https://information.tv5monde.com  Afrique
6) Hors-thèmes : la mémoire des survivants et la révolte des ombres : les disparus dans la société chilienne (1973-1995), Antonia Garcia Castro https://doi.org/10.4000/conflits.2163  

مقالات من الجزائر

الذهب الأزرق في الجزائر

يميز الجغرافيا الجزائرية التباين البالغ من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، حيث يتركز تدفق الأمطار في الحافة الشمالية الضيقة للبلاد بينما يكون في المناطق الداخلية ضعيفاً إلى شبه...

للكاتب نفسه

الجزائر: الصحة في زمن كوفيد-19

لم تؤدِ الجائحة إلى انهيار النظام الصحي في الجزائر، لكنها، مع ذلك، كشفت بحدة هشاشته الكبيرة، وذلك عبر الاستراتيجيات المعتمدة بين الدولة والقوى الاجتماعية الجديدة، وبين القطاع العام والمنظومة الصحية...

الصحافي ليسَ شرطيّاً… دائماً

في العاشر من آب/أغسطس، انتهت محاكمة الصحافي الجزائري خالد درارني، الذي كان موقوفاً احتياطياً منذ آذار/مارس، مع بداية الحراك الذي انطلق في 22 شباط/فبراير. حُكم عليه بثلاث سنوات حبس بتهم...