العراق: ليس للفقير إلا الريح

ما يطال العراقيين من دمار الحرب في النفوس والممتلكات بات كالسحر يملأ أفواه الساسة لصدّ المجتمع العراقي عن مطالبه الحياتية.
2016-06-23

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
ملاك الشاذلي - مصر

ما يطال العراقيين من دمار الحرب في النفوس والممتلكات بات كالسحر يملأ أفواه الساسة لصدّ المجتمع العراقي عن مطالبه الحياتية. "فقط لبعد المعركة.. لنخرج من قدَر الإرهاب الذي وُضعنا فيه، وسنمضي بعدها سويّة إلى برِّ الأمان، إلى دولة الرفاه".. هذه فحوى خطابات غالبيّة زعماء الأحزاب في وجه المجتمع الذي صار أعضاؤه فاعلين سياسياً على نطاق واسع عبر حمل سلّة مطالبهم والخروج بها إلى الشارع وساحات الاحتجاج. هي خطابات لا تخلو من "مَسْكَنة" كما يفعل رئيس الوزراء، العبادي، الذي يحاول إقناع العراقيين بالصبر عليه ومساندته في حروبه ضدّ "الفاسدين" و"المخربين" و"البعثيين".. وأعداء آخرين، طبعاً ممن يتم تصنيعهم لمرحلة ما بعد داعش.

وإزاء الواقع العراقي المتفجِّر اليوم واتساع حالة الرفض، ليس للحكومة فحسب وإنما للعمليّة السياسية بكل نظامها النهّاب، أخذت تصريحات المسئولين والأحزاب للإعلام تُثير السخرية. فحتّى أشهر مضت، قبل أن يزداد تحدّي الشبّان الغاضبين وهم يدخلون لثلاث مرّات المنطقة الخضراء، معقل السياسيين المحصّن، كان جميع الساسة يشيرون إلى "إفلاس وشيك" للعراق بعد هبوط أسعار النفط وارتفاع أكلاف الحرب. لكنّهم اليوم يضخّون وعود الرفاه وتحسّن الأحوال والمستقبل الوردي القريب. وحتّى لو كانت هذه الوعود صحيحة، وتهدف لإنقاذ الأسواق من الكساد، إلا أن الآليات المستخدَمة وغياب منطق الدولة لا يشيان إلا بأن الأموال التي تتجهّز الحكومة لإطلاقها كقروض، ستسلك طرق النهب والهدر، كما كان يحصل لها حتّى وقت قريب.

جاءت هذه الوعود منقِذاً للحكومة لخفض الغضب المتصاعد ضدّها، عوضاً عن استرداد الأموال المسروقة وتقديم الفاسدين إلى القضاء والحدّ من نفوذ الفصائل المسلحة وتعديل مسار المؤسسات الحكوميّة الغارقة في الفشل وضبط آليات الإنفاق العام. وبذلك لا تختلف حكومة العبادي عن الحكومات السابقة التي كانت تفطن في كل هبّة احتجاجية إلى وجود أزمتين متفاقمتين هما السكن والفقر الذي يرتبط بالعمل ومصادر الدخل، فتقوم بإطلاق وعود مدويّة بالقضاء عليهما، لتخدير الناس وحثّهم على الحفاظ على "النظام" بل والدفاع عنه من أجل أن تتحقق هذه الوعود.. بسرعة!

لمن السكن؟

الدستور العراقي ينص على واجب الحكومة توفير السكن لمواطنيها. إلا أن هذا القطاع يعاني من عجز يصل إلى 2.8 مليون وحدة سكنيّة، بحسب وزارة الإسكان، فيما تقدّر بعض الدراسات المتخصصة العجز الفعليّ لسد النقص بالضعف، أي بنحو 4.2 مليون وحدة سكنيّة. وبطبيعة الحال، فإن نقص السكن يتسبّب بالخلافات العائلية ويؤدي إلى حالات طلاق، والحديث عن أي "وعد" بحلّ هذه الأزمة يأخذ أهميّة كبيرة، وبخاصة لفئة الشباب الساعين إلى تكوين حياتهم. وحكومة العبادي تلقّفت هذه الحاجة، وأخذت تتحدّث عن "دراستها بتفحص"، وفي نهاية أيار / مايو الفائت، أعلنت أنّها ستبيع للمواطنين قطع أراضٍ "مخدومة"، وبشروط "ميسّرة"، وبالتقسيط، للحدّ من الأزمة.

جرعة "أمل" كبيرة قُدّمت إلى سكّان بلاد ما بين النهرين! لكن آلية البيع لا تحمل الأمل للفقراء، وهم من المفترض أنّهم الفئة المستهدَفة بما أنهم يشكّلون أكثر من ثلث المجتمع العراقي. فالأراضي "المخدومة" بالماء والكهرباء وشبكات الصرف الصحي والطرق يُدفَع مقابل كل متر فيها نحو 60 دولاراً كأجور للبنى التحتيّة للبلديّات تسدّد دفعة واحدة أو دفعتين. والحكومة ستخصّص أراضي بمساحة 200 متر، أي أن ثمن خدمات الأرض وحدها ستّكلف نحو 12 ألف دولار بمعزل عن سعر الأرض الأصلي الذي سيُقسّط على 10 أعوام، وهذا يعني ضمناً أن سعر بناء الأرض سيكلّف نحو 35 ألف دولار للمنزل المتوسّط، ما يجعل الأمر مستحيلاً أمام الفقير الذي يحاول الحصول على الأرض وبنائها، إذ لا يتعدّى دخله السنوي، في حال كان يملك عملاً أصلاً، نحو 4500 دولار.

بالمقابل، فإن قرار البيع يخصّ أراضي تعود ملكيّتها لمؤسسات الدولة، وهي في مراكز المُدن، ويطلّ بعضها على نهري دجلة والفرات. وهذا الأمر لطالما كان حُلماً للأحزاب السياسيّة من أجل تملّك ما استولت عليه من عقارات بشكل غير شرعي بعد أن وضعت يدها عليها منذ احتلال بغداد في نيسان / أبريل 2003. ويبدو أن الوقت حان، وفقاً للقرار الجديد، لاستيلاء الأحزاب ورجال أعمالها على أملاك الدولة بطرقٍ قانونيّة باسم الفقراء المحتاجين للسكن.

وعلى المنوال ذاته، فقرار منح القروض لإنشاء مشاريع وتشجيع القطاع الخاص وتوفير نحو 250 ألف وظيفة، الذي تزامن مع قروض السكن وبيع الأراضي، وخُصِّص من أجله 4.8 مليار دولار.. لا يبدو بعيداً عن مسعى خدمة السلطة لذاتها، بإخراج الأموال من خزائن ومصارف الدولة مجدداً إلى الأحزاب ورجال أعمالها بطرقٍ شرعيّة، فضلاً عن إرضاء شريحة من العراقيين المتعلمين والمندرجين في إطار السلطة وخدمتها.

وعود بلا ميزانية

تزامنت القرارات الإقراضية للحكومة (التي تدرسها منذ نحو عام قبل الإعلان عنها الشهر المنصرم)، مع أزمة ماليّة خانقة اضطّرت على أساسها لاقتراض 13 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، بشروط سيضطّر العراق على أثرها لتخفيض مرتبات الموظفين ورفع الدعم عن بعض الخدمات. والبلد يعاني اصلاً فجوة ماليّة تقدّر بنحو 50 مليار دولار، وعجز في الموازنة العامة بلغ نحو 40 في المئة، يُضاف إليه الدين الخارجي والداخلي الذي قدّر في عام 2015 بنحو 122.1 مليار دولار، وتُمهدّ الحكومة لارتفاعه أكثر عبر قروض جديدة تعمل على الاتفاق عليها.

وفي الواقع، لا يبدو جديداً أن يتزامن الحديث عن القروض والإسكان مع التظاهرات. ففي 2011، حين حوصر نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، باحتجاجات واسعة وُوجهت بالقمع والاتهامات أيضاً، أُعلن عن مشروع "سكن لكل مواطن"، وسرعان ما تبيّن أنه ليس سوى قبض ريح. كما أن القروض الرامية إلى إنشاء مشاريع خاصّة، التي أعلنتها حكومة العبادي مزهوّة، لم تتوقّف إطلاقاً طوال الأعوام الماضية، غير أنها ضخّت المزيد من الأموال إلى خزائن السلطة (يتردّد أن الحكومة استعانت بالاحتياطي النقدي الذي انخفض خلال عامين من 75 إلى 50 مليار دولار).

والحال، فإن الإنفاق على المبادرات الزراعية والسكنيّة والصناعيّة طوال الأعوام الماضية، حتّى لو كان في بعضها حسن نية، لم تكن سوى تهريب للأموال العراقية إلى الحسابات المصرفيّة للأحزاب والتجّار في الخارج. وقد تحدّثت وزارة العدل عن أنّ نحو 50 مليون دولار "أُهدرت" في قروض صناعية وزراعية وإسكانيّة تم "التلاعب" بها مؤخراً، فضلاً عن إيقافها لهدر مبلغ مشابه. والإعلان عن مبلغ كهذا في العراق من جهة حكوميّة يعني أنّ ما تم إغفاله عشرات أضعاف ما أُعلن.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...