هل بُعث جهاز المخابرات الحربية المصرية ووُضع على الخطوط الأمامية للمعركة؟ يبدو أن ذلك هو المعنى الأبرز لصعود المشير السيسي إلى الحكم. عشية "28 يناير" 2011 انتهى وجود "الداخلية"، وهي اكتفت بالتمترس في خط دفاعها الأخير بين الشيخ ريحان ولاظوغلي بعابدين. وفشلت هناك كل محاولات الشباب الثائر لاقتحامها. وعلى الرغم من وقوع عدد كبير من الشهداء والمصابين في هذه المحاولات، إلّا أنها لم تكن جادة بالمقدار الذي يتيح تهديد ذلك الحصن الأخير. وفي مساء 29 يناير، استكملت قوات الجيش حصار الداخلية بالكامل، ووجهت فوهات الدبابات إلى المبنى، في إنذار واضح. تراجعت الداخلية وتُرك الأمر للجيش.
صراع الجيش والمخابرات وأمن الدولة
من الصعب معرفة حقيقة ما حدث داخل المبنى التاريخي الذي كان مركز ثقل الحكم في عصر مبارك. ولكن، وأثناء الـ18 يوماً (ما بين 25 يناير و11 فبراير 2011)، بدا أنّ ثمّة خلافا حادا بين الجيش والمخابرات العامة وأمن الدولة. سريعا، خرج أمن الدولة من المعركة بحكم تهشيم وسحق الداخلية من قبل الناس، وبقيت المخابرات والجيش في الميدان، وسريعاً أيضاً تمت تنحية عمر سليمان (نائب رئيس الجمهورية ورئيس جهاز المخابرات العامة). وسرت إشاعات كثيرة عن محاولة اغتياله من قبل الجيش، وسواء صحت هذه الأقاويل أم لم تصح، كان من الواضح، على أية حال، خروج المخابرات وقائدها من المشهد، بل أُقصي عمر سليمان مرة أخرى من قبل المجلس العسكري حينما حاول العودة من خلال انتخابات الرئاسة.
المؤسسة التي خرجت دون أدنى إصابات أو هجوم عليها كانت المخابرات العسكرية بقيادة المشير السيسي. فمنذ اندلاع الثورة، وبالأخص بعد انتهاء الـ18 يوماً تلك الحاسمة، عمّق السّيسي من علاقاته ولقاءته بكلّ القوى السّياسية الموجودة (شباب الثورة، الإخوان، القوى السياسية القديمة..) ونُشرت له العديد من الصور معهم، كما عمّق من علاقته بالإعلاميين والصحافيين أيضا. لم يمر أكثر من شهر حتى بدأ الهجوم على مقر أمن الدولة بالإسكندرية، وهي كانت معركة حقيقية خاضها ثوار المدينة بالدم والنّار. استغلت المخابرات العسكرية والجيش ذلك الهجوم في الإسكندرية وقامت بتيسير الأمور للسيطرة على مبنى "مدينة نصر"، مقر أمن الدولة في القاهرة في اليوم التالي. ليس اقتحامه وإنّما دخوله، حيث لم تحدث أي مناوشات، ولو خفيفة، بين الثوار وقوات الأمن. في هذه الموجة من الهجوم على مقرات أمن الدولة، انتقلت ملفات الجهاز بالكامل إلى المخابرات العسكرية: كان الثوار يقومون بتسليم كل ملفات أمن الدولة إما لبعض قيادات الجيش التي حضرت ميدانياً، أو لقوات الشرطة العسكرية.
كان المشهد شديد الإرباك في الإسكندرية. كان الجميع يعلم بأن تظاهرات عدّة تتّجه صوب مبنى أمن الدولة بالفراعنة. ولكن لم يتوقع أحد أن المشهد سينقلب وسيكون بهذا القدر من الدموية. فمع حلول أول خيوط الليل، انفلتت أعصاب ضباط أمن الدولة الذين اعتبروا مجرد تعرضهم للحصار بتظاهرات (بدأت سلمية)، غير مقبول وغير معقول، فجهازهم اعتبر نفسه سيد البلد الأول والمتحكم في مقاليد الأمور. وبالفعل أطلق بعض الضباط الرصاص الحي وبعض قنابل الغاز، لتنقلب الأمور ويندفع الثوار نحو اقتحام المبنى حتى تمكنّوا منه. وحضر قمر الانتقام لينير ظلمة هذه الليلة بالدماء.
كانت العلاقة بين الثوار والجيش لم تصب بالتوتر بعد، وجسور الثقة بينهم كانت ما زالت مشيّدة. وأثناء نقل الملفات، أصيب العديد من ضباط الجيش بالصدمة والغضب حينما اكتشفوا تجسس جهاز أمن الدولة عليهم. كان هذا أمراً معلوماً لدى البعض قبل الواقعة، ولكن يبدو أنّه كان جديداً على البعض الآخر. وأصيب ضباط الجيش بقدر كبير من التناقض. فهم من ناحية يودون السيطرة على الوضع، وفي التحليل الأخير فاقتحام أحد مباني الدولة أمر غير مقبول بالنسبة لعقيدة الجيش. ومن ناحية أخرى، أعرب بعضهم عن فرحه الشديد لانهيار هذا المبنى. لم تكن جماعة الإخوان حاضرة في هذا المشهد الملحمي، وفضلت الاحتفال في ستاد الإسكندرية بحضور المطرب حمادة هلال، وبعثت ببعض أفرادها في آخر الليل بحثاً عن بعض الملفات، وبالفعل نجحت مهمتهم في الحصول على بعض الملفات وخرجوا بها.
المخابرات العسكرية
انتهت الليلة عند هذا. انتهى آخر ما تبقى من دولة مبارك. ولكن في الصباح، كان هناك موعد ولقاء مع قلب دولة يوليو! عادت المخابرات العسكرية بكل قوتها للمشهد. وهي تسلمت الحكم على مرحلتين: الأولى حينما فوّض مبارك المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد. والثانية، حينما انتقلت ملفات إدارة البلاد من أمن الدولة إلى المخابرات العسكرية. امتلك السيسي الملفات الكاملة الخاصة بإدارة البلد وأخضع أهم جهاز أمني فيها لسيطرته. وبما أنها كانت فترة اضطراب عنيفة، كان الجيش في منتهى الحذر والخوف من حدوث أي انشقاق أو تصدعات بداخله. وبالفعل جاءت أحداث نيسان/أبريل 2011 لتؤكد وجود هذا الخطر، وقام الجيش بأول عملية قمع حقيقية ضد بعض ضباطه الذين عرفوا لاحقا بـ "ضباط 8 أبريل"، حيث حاولوا الانضمام علانية لصفوف الثورة في تمرد واضح على قيادتهم، وتم الاحتفاء بهم وحملهم على الأكتاف، ثم شيّدت خيمة لهم في الاعتصام القائم وقتها بميدان التحرير.
قادت هذه الأحداث، والوضع المختلّ أصلا لبنية السّلطة (بوجود صراع سابق على الثورة بين الأجهزة الثلاث، وكان محسوماً وقتها لمصلحة أمن الدولة)، وعجز الثورة عن الحسم، وتحالف الإخوان والسلفية العلمية ("حزب النور") مع العسكر.. قادت إذاً إلى تعاظم دور السيسي وجهازه. فهو الوحيد المتبقي من الأجهزة الأمنية، وهو الوحيد القادر على مراقبة الجيش من الدّاخل، وهو الجهاز الأخير محل ثقة المؤسسة العسكرية وأفرادها. أضف إلى ما سبق قرب السيسي الشديد من طنطاوي، واعتبار طنطاوي السيسي خليفته وموضع ثقته الكبيرة على المستويين الموضوعي والشخصي. والسيسي كان أحد المقربين من الأميركان، ومعروف منهم بحكم الدراسة والمنصب، كذلك الحال بالنسبة للسعودية بحكم عمله هناك كملحق عسكري. لم يلتفت الإخوان لكل هذه التعقيدات في شبكة علاقات السلطة وبنيتها، واختاروا السيسي ليكون وزير دفاع مرسي بناء على مظهره المتدين، وصغر سنه نسبياً، وبناء على خوفهم من مطامع قيادات المجلس العسكري وإمكانية مناطحتهم لهم على شرعية الحكم. السيسي كان الشخص المناسب لتتلقفه الجماعة ببلاهة منقطعة النظير. فهو محافظ ورجعي، وعائلته هي الأخرى من النوع الذي يثير إعجاب الإخوان المسلمين على المستوى القيمي، ولا يثير لديهم أيّ مخاوف، حيث يعمل والده بحرفة الخزف في الجمالية، وهي منطقة شعبية، وأسرته محافظة وفي الوقت نفسه تعد من وجهاء المنطقة.
.. الذعر من الإسلاميين
في هذه الفترة، انتقل السيسي من سيطرته الخفيّة على الجيش والملفات المختلفة إلى سيطرة علنية وصريحة على الجيش كلّه كوزير دفاع ("بنكهة الثورة" كما لقبه الإخوان). وفي أثناء حكم مرسي، مثّل الجيش زاوية الأمان لكثير من القوى السياسية التي دخلت في معركة صريحة مع حكمهم، إذ أصيبوا بذعر وهلع من صعودهم ولفزعهم العام من الإسلاميين. ولكنّ الأهم هو تحفظ بقية أطراف الدولة على الإخوان، وبالأخص القضاء. منذ الثورة، لاذ القضاة بالجيش، حتى بالمعنى الجسدي المباشر، حيث كان يتولى تأمينهم ونقلهم. وهذا على الرغم من أنّ العديد من قوى الدّولة أبدت قدراً من التحفظ على السيسي، وذلك حتى لحظة "30 يونيو"، إذ كان هناك تخوف من أن يكون إخوانيا متخفيا، تم زرعه منذ سنوات داخل الدولة المصرية. انقلبت الأمور كلها بالوصول إلى محطة 30 يونيو. وهنا كان كل شيء متاحاً لأي تحرك من قبل السّيسي: كان الشرط الموضوعي لقبول أي تحرك من الجيش متحققا على نطاق واسع اجتماعيا وسياسيا وحتى ثوريا. على الصعيد الاجتماعي، كان هناك شبق لظهور سيد ومخلّص، يتولى أمر الإخوان والثورة. وعلى الصعيد الإقليمي، كانت الفرصة الذهبية لانتصار الحلف السعودي - الإماراتي على الحلف القطري - التركي. لم يكن السيسي يملك كل خيوط اللعبة فقط، بل أيضا تحققت له كل الشروط المطلوبة للعصف بخصومه وتسيّد المشهد. أما على الصعيد الدولي، فقرار الانقلاب العسكري لم يؤخذ من دون علم CIA أو إسرائيل، وهذا مشار إليه في ما صدر حول تلك الفترة. وسياسياً، فالإخوان حلفاء الولايات المتحدة الجدد بينما العسكر هم حلفاؤها القدامى والحاليّون، والخسارة بالتالي لن تكون فادحة في حال قبول الولايات المتحدة اطاحة الإخوان، بل ربما كانت تلك الخسارة جسيمة في حالة عدم القبول بذلك، حيث تعني احتمال فقدان مصر كحليف استراتيجي بالغ الأهمية، في ظل تفجر المنطقة بشكل خاص. أما بالنسبة لروسيا، فالمصلحة الإقليمية كانت تقتضي القضاء على الإخوان لدعمهم أعداء الأسد في سوريا، وكذلك كان الحال مع إيران.. وهي مفارقة كبرى، حيث ولأول مرة، اتفقت طهران والرياض، وكان ذلك على إطاحة الإخوان. وبالفعل حضر كلاهما حفل تتويج السيسي على عرش مصر بعدها بعام.
دورة التاريخ، وانهيار مشروع الوطنية المصرية قادا الدولة لتُخرِج قلبها الأمني الصلب إلى العلن، ولكن هذه المرة بلا أي مشروع سياسي أو افق أو خيال عما يمكن أن يكون، وما ينبغي أن يحدث. فقط كتحذير عنيف من مخاوف السقوط والانهيار. هذه المرة، لم تكن "إما الفوضى وإما الاستقرار" ـ ثنائية مبارك حيال الانتفاضات العديدة التي وقعت في عهده ــ هي ما طُرح على طاولة التفاوض والمساومة الاجتماعية، وإنما ثنائية الوجود أو الانهيار الكامل. ثمة عطب شديد أصاب الدولة في مقتل. وهي الآن عارية من أي ادعاءات أيديولوجية أو أحلام ووعود عن المستقبل.