ليس وصول قافلة الشاحنات المحملة بالوقود الإيراني إلى لبنان، نهايةَ مطاف مشهد بدأ مع إعلان السيد حسن نصر الله، أن حزب الله قرر استيراد النفط الإيراني باعتباره حلاً لمشكلة فقدانه من السوق اللبنانية، وتعطل الحياة المرتبطة به: مولدات المشافي، والأفران، والمؤسسات المختلفة، وكذلك البيوت التي كانت تعوّض انهيار القطاع الرسمي للطاقة منذ سنوات، بالاشتراك في مولدات ضخمة خاصة في الأحياء المختلفة، وهي اشتراكات باهظة الكلفة للحصول على بضعة ساعات من الكهرباء باليوم. ويتوزع السيطرةَ على تلك المولدات، التي تلوث الجو بدخانها وبأصواتها الهادرة، ويتولى تشغيلها والاستفادة منها "شبيحةٌ" يلوذ كل واحد منهم بميليشيا أحد الأحزاب الكبرى في البلد، أو هم فعلياً يعملون لديها.
وكان اللبنانيون متأقلمين مع هذا الوضع الشاذ، ويعلمون تماماً أن الكهرباء الرسمية مفقودةٌ لأنها منهوبة، وأن النهب مستمر. وقد كان الإنفاق على قطاع الكهرباء – لتوفير مستلزماتها وبحجة إصلاح المعامل والشبكات أيضاً - باباً رئيسياً للهدر المنظم (أي للسرقة الموصوفة) الذي طال خزينة الدولة اللبنانية على مدى سنوات، واستنزف كل المساعدات الهائلة التي وصلتها منذ أول برنامج دولي للمساعدات وحتى الآن.
اللبنانيون عموماً يمتلكون، قبل كل خاصية أخرى، ميلاً مدهشاً للتأقلم مع أي وضع. لذا فهم كانوا يجدون دائماً حلولاً لكل شيء. ويدفعهم هذا الميل إلى مواقف عملية وبرغماتية، وليس إلى الاستنكار والتطلّب. ولعل إعلان السيد نصر الله ذاك استفاد كثيراً من هذه الخاصية، فراحت مراكز أبحاث واستقصاء تابعة لحزبه تطرح أن هناك موقفاً عاماً، أو أغلبياً، متقبلاً للخطوة.
لبنان: ريع من نوع خاص
12-11-2020
لبنان: شراكة في النهب وفي القتل
19-08-2021
ولا بد من التنبّه إلى معطًى أساسي يحيط بالوضع اللبناني عموماً، وبهذا الموقف بالطبع، ويتعلق بالإعياء الذي نجحت خطة الحرمان والإذلال الممتدة بشكل مكثف على عامين حتى الآن في إثارته وترسيخه، بدءاً من احتجاز فلوس المودعين في البنوك، مروراً بانهيار قيمة العملة الوطنية، ومعه بإطلاق عصابات البلطجة في الشوارع، وهي عصابات منظمة، وليست فحسب نتاج الاهتزاز القائم والبؤس المصاحب له، انتهاءً بحجب الأدوية والكهرباء والماء والخبز.. ما يعني تهديد الحياة نفسها بمعناها البيولوجي البدائي... وهذه حالة تبدو مرشحةً للديمومة باعتبار أن لا أفقَ لحل، وفي ظل عدم الاكتراث الإقليمي والدولي، وهذا وضع جديد وغير مألوف.
ويعزز هذا ما يمكن وصفه بالميل إلى رؤية ما يجري كعناصرَ من "مؤامرة" أو خطة جارية في عموم المنطقة، يعبّر عنها البعض بالإشارة إلى إعادة تقاسم النفوذ بين القوى الكبرى عالمياً، وإلى أننا من "حصة" روسيا والصين، وبالتالي إيران وسوريا، ويوردون دلائل على ذلك، يساعد في رسمها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والانكفاء الفرنسي عن الاهتمام بلبنان بعد "فورة" انفجار المرفأ... ولعل ذلك الميل إلى افتراض وجود خطط سرية تُنفَّذ بدقة، وسيناريوهات لا حصر لها، هو التأتأة المبهمة لما هو بالفعل تغييرات كبرى وتاريخية على مستوى العالم، لا تكتفي بمس الجوانب السياسية والعسكرية فحسب، وهي تحتاج وقتاً للتبلور.
وسط هذا كله يتّبع حزب الله سلوكاً يدعم تلك الفرضيات المؤامراتية. فهو متهم بمسؤولية كبيرة في تهريب البنزين والمازوت إلى سوريا وكذلك الأدوية إليها، وإلى سواها، عبر شبكات مافياوية مرتبطة به، وهو متهم قبل ذلك بالتلاعب بشكل واسع بالدولار تهريباً واحتكاراً، وهو متحالف مع "التيار الوطني الحر" ويسنده، وقد أفشل تأليف حكومة برئاسة الحريري، وقبلها حمى تنصيب حكومة صُوَرية، ثم فرض مؤخراً حكومة نجيب ميقاتي الهزيلة، وذلك يعني في لبنان تهميشاً للمكانة السياسية – وبالطبع الخدمية - لإحدى الطوائف الأساسية، أي للسنّة، واعتبار عدم رضاها أمراً قابلاً للتجاهل، أو اعتبار شعورها بأنها مغلوبةٌ على أمرها غير ذي أهمية، وخصوصاً في لحظة تشهد تغييرات في السياسة السعودية، علاوةً على انشغال الرياض بملفات أخرى كبرى، كاليمن والعراق...
أنْ يتم استيراد النفط بمبادرة حزبية، ومن دون قرار رسمي من السلطات المعنية – حتى وإن كانت هذه السلطات مهلهلة وشكلية – ثم يُعلن عن تفريغ حمولة البواخر في سوريا، ثم عن دخول قافلة الشاحنات المحملة به من معبر جسر العاصي الثانوي وغير الرسمي، وعن تخزينها في "مستودعات أُعدّت لها" كما قيل، وعن توزيعها وفق رغبة الحزب ومصالحه... يتجاوز الاستعراضية، ويتجاوز الرغبة بإسداء خدمة للبنانيين الذين يتلهفون للحصول على المازوت. فهو إعلان عن أحد أمرين: فإما أن الدولة اللبنانية لم تعد قائمةً، وصارت "حارة كل مين إيده إله"، أو هو حلولٌ محلها في إمعانٍ فج في ممارسة السلطة. لم يعد الأمر "دولة ضمن الدولة" لفريق مدجج بالسلاح ومحمي إقليمياً، بل للسلوك معنًى خطير يُفترض أن يدركه حزب الله، وألا يتعامل معه بهذه الخفة المدهشة التي يصعب اعتبارها مجرد جهل بالأصول، وبتركيبة لبنان المعقدة. وهذا ليس تطوراً ثورياً في المشهد اللبناني شديد التأزم، بل هو مدخل إضافي لأحد احتمالين كلاهما مرعب: فإما غلبة لفئة على أخرى بما يطيح بأسس التوافق اللبناني ومؤسساته، وهي - هذه الأسس - التي دافع عنها السيد حسن نصر الله نفسه منذ وقت قريب، أو هو إضافة مدماك إلى ما يمكن أن يصبح حرباً أهلية لا تنتهي هذه المرة، باعتبار كل ما ذُكر هنا من تغييرات وصراعات في العالم والإقليم...