في الحرب: أسئلة قصيرة لا أجوبة لها
فادي الشافعي
أتفقد بجسدٍ منهك الأفق البعيد قبيل صلاة الغروب. نظرت من شباك منزلي المطل على مساحة ضيقة من ميناء غزة، لأقدّر كم تبقّى من مسافة قبل أن تغرق شمسنا في بحر غزة الهادئ ذلك المساء، في مشهدٍ يتكرر، ولا يزال يسحرني مذُّ شاهدته للمرة الأولى، وقالت لي أمي إنّ ذلك اللون يسمى "القرمزي".
نزعتني من المزاج الشاعري جلبةٌ تتدحرج أسفل البناية، رجل قصير القامة يرتدي منامة قطنية سوداء ونظارات سميكة، ويبذل قصارى جهده ليمنع الناس من المرور بالقرب من "برج هنادي"، بينما ينظر الناس إليه بحيرة شديدة، وتظهر أسئلة كثيرة على وجوههم. وعلى الرغم من أنه يتصرف كأي نبي عنده خبر يقين، فقد رفضوا، ورفضت أنا أيضاً تصديق ما يقوله، وأصدرت حكمي النهائي بأن ما يفعله مجرد مبالغة لن أتعامل معها بجدية.
أغلقتُ النافذة الصغيرة، وفتحت نافذتي الكبيرة. تفقدت الشارع، بدأ أتباع النبي الصغير في حارتنا يزدادون أكثر فأكثر، وما زال هو كمن يبني سفينته في صحراء، ويقول لنا بإن الطوفان قادم. وعلى الرغم من أنّ الصورة من النافذة الكبيرة أمست متكاملةً، بحراً وميناءً، ورجلاً يحذر الناس من الكارثة، إلا أنني بعدما تأملت المشهد مرةً ثانية وأعدت تقيمه، قررت التوجه إلى حيث زوجتي لأقول لها بهدوء أن تسرع في الغناء لابنتا التي لم يزد عمرها عن الشهر الأول سوى يوم... وهو اليوم الذي ستقع فيه الحرب.
نظرتْ نحوي بعيون خائفة، ثم حوّلت نظرها نحو جسد ابنتنا العارية، ولفّتها بمنشفة. شاهدت في عينيها تلك اللحظة رغبةً شديدة للهروب ليس من البيت فحسب، وإنما من جاذبية هذا الكوكب نحو عالم آخر لا تهديد فيه على ابنتها، التي شعرتْ على ما يبدو بتوتر أمها المفاجئ فتحول لون بشرتها الأسمر إلى الوردي من شدّة البكاء.
غزة: حرب ليست ككل الحروب
20-05-2021
قلت لها: من غير المؤكد بأنَّ برج هنادي سيتعرض للقصف بعد قليل، ولكن الناس صاروا في الشارع، وبعض الجيران بدؤوا فعلاً بإخلاء منازلهم. وكان مبرري للشك هو أن الحرب لم تندلع بعد، ليبدأ الاحتلال بهدم هذا البرج الذي لا يبعد عن جدار بيتنا الغربي سوى 50 متراً، وهو بناء شاهق بالنسبة لحيّنا الذي تتناثر فيه بيوت لا يزيد ارتفاعها عن 5 طبقات. أما هو فمن 13 طابقاً على مساحة أرضية لا تتجاوز 250 متراً.
"ماذا سنفعل؟". قلت لها سنجلس في أكثر الأماكن المحصنة في البيت، حتى نتأكد من خبر تهديد الجيش "الإسرائيلي" للبرج. وتراجعت خطوات نحو أبعد نقطة في البيت عن المبنى المستهدف، بدأت أنظر من النافذة، بعد أن فتحت نوافذ البيت الأخرى كافة. وعلى الرغم من أننا في مساء اليوم، 28 من رمضان، ولم يتبقَ أمامنا لكسر صيامنا سوى دقائق، إلا أن الناس بدؤوا بحمل موائدهم، ومغادرة الحي. إلى أن قطعت جهيزة قول كل خطيب، وخرجت حافيةً من بنايتنا، وهاتفها الخليوي على أذنها اليمنى، وهي تقول: الجيش الإسرائيلي كلمني وقال لي كمان أنتو لازم تخلو بنايتكم لإنو هيقصفوا برج هنادي". اتسعت على أثر هذه الرسالة القصيرة التي أفلتت من فمٍ خائف وعينين تائهتين، عملياتُ الإخلاء لتشمل نحو نصف كيلومتر في محيط البرج المستهدف.
بدأتْ الاتصالات تنهال عليَّ، ويسألني الجميع عن صحة الأخبار التي وصلت إليهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حول طلب المخابرات الإسرائيلية من محيط برج هنادي الإخلاء فوراً، فأكدتُ لهم الخبر، واتصلت بأخٍ لي على دراية أكثر مني بقوة صاروخ الـF16، وسألته ما النطاق الذي عليّ أن أخرج منه كي لا أصاب بأي أذى، فقال لي باختصار: لا أحد يمكنه أن يعرف الإجابة، لأن الصواريخ الإسرائيلية "أشكال وألوان" ولا يمكن لنا معرفة ما هو نوع الصاروخ الذي سيقررون استخدامه لإسقاط هذا المبنى في ثوان معدودات، وأضاف: "الأفضل أن تغادر البيت إلى حين انتهاء الضربة".
إلى أين سأذهب؟ وماذا يجب أن آخذ معي؟ لدينا خبرة شخصية مع النزوح، بالإضافة إلى خبرتنا الغائرة في ذاكرتنا الجمعية من الأحاديث والمشاهد التي تركتها النكبة، التي كانت ذكراها هي الأخرى تلوح في الأفق.. وأنا لم أفرغ بعد من مشاهدة "التغريبة الفلسطينية" مرة أخرى سوى قبل بضعة أيام.
كيف يتّسع أيّ شيءٍ لكلّ أولئك الأطفال الذين قُتلوا؟
18-05-2021
رسالة إلى شيماء
20-05-2021
أخذنا حليب الطفلة، وحفاضاتها، وغيارين للطوارئ، ونزلنا السلّم بعجلة. كانت السيارة تنتظرنا أمام المنزل كما كل سكّان البنايات المجاورة، بعدما صعدنا إليها سألنا السائق السؤال المعتاد: "إلى أين؟" لكن هذه المرة كان للسؤال وقعٌ مختلف، فكررته في نفسي، والتفتُّ إلى زوجتي وابنتي في المقعد الخلفي. شاهدت حينها الزمن الماضي، لاح شريط الذكريات، ورأيت المرات التي حملنا بها أبي، أنا وأخوتي قبل سنوات، في ظروف مشابهة، أيام الاجتياحات الإسرائيلية لحيّنا في مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، قبل أن يختفي نصفه، ويمسي أثراً بعد عين.
وها أنا بعد نحو عقدين، أسير على الطريق، وأحمل طفلتي وزوجتي إلى الوجهة غير المعلومة ذاتها. لكن هذه المرّة كنّا ننظر من النافذة، فنرى القدس!
**
"حنعمرها"… حملة شباب غزّة بعد دمار مدينتهم
عبد الله أبو كميل
هدأ العدوان، واستكانت غزّة، وتجلت مظاهر الألم في كلّ زاوية من القطاع، وبين زوايا الأماكن التي كانت تسمّى مساكن قبل الدمار. إذ تشوّهت معالم المدينة الحزينة، وتغيّر الكثير، وتشابهت المطارح لكثرة الخراب، حتى المارة تاهت عنهم الأماكن!
أحد عشر يوماً من القصف العشوائي فوق رؤوس المدنيين، ألقت إسرائيل خلالها ما يقارب الـ 11 طناً من المتفجرات، راح ضحيتها حوالي 253 شهيداً من بينهم 69 طفلاً، و 40 سيدةً، وهناك نحو ألفي مصاب.
تسببت إسرائيل خلال عدوانها بنزوح 120 ألف مواطن، من بينهم خمسون ألفاً في مراكز الإيواء، والباقي في منازل أقربائهم. وتضرر ما يقارب 16800 وحدة سكنية، سواء بشكل كلي أو جزئي، و74 مرفقاً حكومياً، و 66 مدرسةً، بالإضافة إلى خمسة أبراج سكنية هدمت بشكل كلي. أمّا البنية التحتية فباتت غير صالحة. وتقدر كلفة إعادة الإعمار بما يزيد عن ثلث مليار دولار. وأنه يحتاج لعدّة سنوات، وأنَّ حجم الدمار المرصود فاق خراب عدوان عام 2014 الذي استمر 51 يوماً.
وعجز مجلس الأمن خلال ثلاث جلسات عن لجم عدوان "إسرائيل" على المدنيين في غزَّة، ليكتفي بعد انتهاء العدوان بإعلان نيته فتح تحقيق لما حصل في غزَّة.
لحظة كل الممكنات وكل المخاطر
26-05-2021
وأما السكان، فعلى الرغم من الألم والخوف والحزن، فقد نزلوا إلى الشارع فور توقف القصف، وأطلقوا حملة "حنعمرها". والحملة جاءت بدعوة من المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشكلةً مزيجاً من كل شرائح المجتمع كالفنانين والصحافيين، والرياضيين والأكاديميين. الكلّ أجمع على إضاءة أنوار المدينة المعبقة برائحة البارود.
الحملة المستمرّة مذّاك، تهدف إلى تعزيز المشاركة المجتمعية، وتسخير الإمكانيات لإعادة الحيوية لشوارع غزّة، من خلال تنظيفها من الركام الذي خلفه دمار الأبراج والمساكن المدنية، واستهداف "إسرائيل" للطرقات العامة بشكل عشوائي. وأعداد المشاركين تزداد يومياً، وكانت قد بدأت بحوالي ثلاثة آلاف مواطن.
بدأت الفرق الشبابية بالانطلاق من برج هنادي المدّمر الذي يتكون من 13 طابقاً، فعملت على تنظيف الشوارع المحيطة به، وحاولت قدر الممكن إزالة الركام، ورشّ الطرقات بالمياه لتذويب الغبار، مروراً بشارع الوحدة الذي ارتُكِبت فيه مجزرةٌ راح ضحيتها 43 مدنياً، إلى كلّ معْلم دمّره المُحتل، كما برج الشروق المدمّر، الذي كان يحتوي المؤسسات الإعلامية والإنسانية والمحال التجارية.
وقد اجتمع في الحملة النساءُ والرجال والأطفال، وخرجت غالبية المتطوّعين بأدوات بسيطة وفّروها بأنفسهم، وأحياناً بدفع من أسرهم الذين أصرّوا على المشاركة. الكلّ يساهم في إعادة الحياة إلى المدينة المنكوبة. ووثق الفنانون ما دمّره الاحتلال برسوماتهم على جدران المساكن والمؤسّسات المهدّمة.
بلدية غزَّة تبنّت الحملة بعد انطلاقها، من خلال الإرشادات، وتسخير طواقمها العاملة للمساهمة في العمل، بالإضافة لعقدها اجتماعاً تنسيقياً مع كافة المشاركين، وتحديد طبيعة العمل، وكيفية استثمار ذلك الجهد.
إطلالة حب على حرب غير أخيرة
04-06-2021
ما يميّز "حنعمرها" هي الرسالة التي وجهها المتطوعون "لإسرائيل"، مِن أنّه على الرغم من الرعب ومن الجراح، فنحن مصرّون على حبّ مدينتنا، وهي فيها ما يستحق العيش بإنسانيّة كباقي مدن العالم، وأنَّ السلام الداخلي الذي يعيشه هؤلاء المدنيون مع أنفسهم قادر على جعلهم يتخطّون كلّ الصعاب، إنَّ الورود التي قُصِفت ستعود لتنبت من جديد في الغدِ القريب، وتفوح رائحتها، ونشتمّها.
واشتهر أحد الأطفال الذي كان يزاحم الشباب خلال العمل بقوله: "خلي إسرائيل تُعيد حساباتها المرّة الجاي لما تتعامل معانا، نحن شعب الجبارين صعب تقدر لنا، إلي بيستشهد بيجي غيره، و يا جبل ما يهزك ريح".