مثلما شهدت فترة سبعينيات القرن الماضي صراعاً وسباقاً دوليين استقطبا حتى كوبا البعيدة التي هبت لدعم إثيوبيا "منغستو هيلا مريام" التي كانت متحالفة مع الاتحاد السوفياتي - العظيمِ وقتها - وذلك في إطار الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، فإن بعض التطورات الأخيرة تنبئ بأن تلك المنطقة عادت لتستقطب الاهتمام العالمي، وهو أحد مؤشرات وميادين الصراع الدولي في صورته المتجددة.
فهناك الحرب في إثيوبيا بين الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا، والحكومة الإقليمية في إقليم تيغراي، وكذلك قرار إدارة ترامب سحب القوات الأمريكية من الصومال، والإعلان الروسي عن إقامة قاعدة قرب ميناء بورتسودان على ساحل البحر الأحمر السوداني.. وفي خلفية هذا كله التنافسُ الجاري بين الإمارات والسعودية ومصر من ناحية، وتركيا وقطر من ناحية أخرى. وهو برز بصورة واضحة إثر التدخل الإيراني في اليمن، الذي يتخذ من منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي ساحةً له، كما تنشط الدبلوماسية السعودية في اتجاه إقامة مجلس للدول المتشاطئة في البحر الأحمر، تمّ الإعلان عنه مطلع هذا العام بمشاركة سبع دول عدا إسرائيل.
ومع أن الصراع في إثيوبيا انتهى بدخول قوات الحكومة المركزية مدينة ميكيلي عاصمة إقليم تيغراي، إلا أن كل المؤشرات تتجه إلى كون إثيوبيا في طريقها للدخول في حرب استنزاف داخلية مع هذا الإقليم، قد تحدث لها انعكاسات في مختلف الأقاليم، حيث الأساسُ هو العامل الإثني. ويهدف برنامج رئيس الوزراء آبي أحمد، إلى تقليص هذا البعد الإثني، وإقامة تنظيم سياسي يتمدد على مختلف الأقاليم. وهذه تتمتع في الوقت الحالي بحق الحكم الذاتي الذي يسمح لها، ولو نظرياً، بالوصول إلى مرحلة ممارسة حق تقرير المصير. لكن أحمد يعمل على إعادة هندسة هذا الوضع بتعظيم البعد الفيدرالي في العملية السياسية، وهو ما يعتبره خصومه مسعى لإقامة ديكتاتورية جديدة.
الانتقال السوداني الهش
السودان من جانبه يمر بمرحلة انتقال هشة في إطار تحالف بين العسكريين والمدنيين والحركات المسلحة التي كانت تحارب نظام الإنقاذ المطاح به. وفي خضمّ التعامل مع المتاعب الموروثة منذ عهد الإنقاذ، وعلى رأسها الوضع الاقتصادي المتدهور، تبرز فجأة قضية القاعدة العسكرية الروسية، التي ستضيف إلى تعقيدات المشهد الداخلي.
مع أن الصراع في إثيوبيا انتهى بدخول قوات الحكومة المركزية مدينة ميكيلي عاصمة إقليم تيغراي، إلا أن كل المؤشرات تتجه إلى كون إثيوبيا في طريقها للدخول في حرب استنزاف داخلية مع هذا الإقليم، قد تحدث لها انعكاسات في مختلف الأقاليم، حيث الأساسُ هو العامل الإثني.
فالإعلان عن هذه القاعدة ورد من موسكو الشهر الماضي، وبتفاصيل تحدد مهمتها بدايةً بتوفير الدعم اللوجستي في مختلف أنواع الإمدادات، وذلك في إطار مدًى زمني يمتد لفترة 25 عاماً قابلة للتمديد عشر سنوات أخرى بموافقة الطرفين، وأنه سيخدمها 300 من العاملين، ويمكن لهذه القاعدة استيعاب أربع سفن. أهمية هذه القاعدة أنها تمثل أول عودةٍ لموسكو إلى القارة الإفريقية ومنطقة البحر الأحمر، بعد أن كانت قد غادرت موقعيها في أسمرة واليمن الجنوبي إثر انهيار النظامين الحليفين لها في البلدين، وذلك في إطار عودة روسيا إلى لعب دور أكبر على المسرح الدولي. وكانت من مؤشرات هذه العودة القمةُ التي استضافها فلاديمير بوتين في سوتشي لحوالي 40 من قيادات القارة الإفريقية العام الماضي، ومن الذين حضروها الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني.
صراعات الاقليم تنتقل إلى البحر الأحمر
11-01-2018
ومع أنه لم يصدر تأكيد من السودان حول القاعدة الروسية، وقيل إن السلطات لا تزال تُخضع الأمر للنقاش، إلا أن عدة ملاحظات تلفت النظر: فموضوع القاعدة هذا طرحه الرئيس السابق عمر البشير عندما زار بوتين في العام 2017، وذلك كوسيلة لحمايته شخصياً، ونظامه من الاستهداف الأمريكي كما أوضح وقتها. وتأتي غالباً متابعة البرهان لهذا الملف بالاستناد إلى الموروث العسكري في التعاون الروسي –السوداني، إذ ظلت موسكو من أكبر موردي السلاح للجيش السوداني. وهناك إشارة إلى أنه، في مقابل القاعدة، ستقدم موسكو سلاحاً واستمراراً في برامج تدريب الجيش السوداني. وهذا التطور يدعم الوجود الروسي في السودان، وربما يفتح الباب للعب دور سياسي، سواء على المستوى الداخلي أو حتى في مواجهة النفوذ الغربي، خاصةً الأمريكي، حيث صدر قانون بأغلبية الثلثين في مجلس النواب، يطلب من الإدارة الأمريكية دعم الجناح المدني والتحول الديمقراطي، والعمل على قصقصة أجنحة العسكريين في الحكم، وسيطرتهم على المؤسسات الاقتصادية.
وقد اعترضت موسكو وبكين على تعيين دبلوماسي فرنسي لقيادة البعثة الأممية المشتركة التي ستبدأ عملها في السودان الشهر المقبل، وذلك كما تردد في استجابة لطلب من المكون العسكري في مجلس السيادة.
السودان من جانبه يمر بمرحلة انتقال هشة في إطار تحالف بين العسكريين والمدنيين والحركات المسلحة التي كانت تحارب نظام الإنقاذ المطاح به. وفي خضمّ التعامل مع المتاعب الموروثة منذ عهد الإنقاذ، وعلى رأسها الوضع الاقتصادي المتدهور، تبرز فجأة قضية القاعدة العسكرية الروسية، التي ستضيف إلى تعقيدات المشهد الداخلي.
وهكذا، فإن المرحلة الانتقالية التي يمر بها كلٌّ من السودان وإثيوبيا تبدو مفتوحةً على مختلف الاحتمالات. فإذا نجحتا في العبور والتأسيس لوضع ديمقراطي تعددي، لا يستثني أحداً ويحترم حقوق الإنسان، فإن ذلك سينعكس على بقية المنطقة، وإلا سيصبح الوضع يواجه حالةً من الحروب الأهلية المستمرة، ونزوحاً للاجئين يتجاوز المنطقة.
الانفجار الديمغرافي
في عامي 2018 و 2019، نزح قرابة 300 ألف نسمة، بسبب الصراعات المحلية، خاصة في اليمن وإريتريا. وإذا حصل انهيار في السودان أو في إثيوبيا، حيث عدد السكان في السودان هو 40 مليوناً، بينما يصل عدد السكان إلى 110 ملايين بالنسبة لإثيوبيا، فإن الهجرة المتوقعة يومئذ ستتجاوز الأرقام السابقة بمراحل.
يحدث في القرن الافريقي
17-07-2018
وهذا العامل الديمغرافي القابل للانفجار يشمل كل المنطقة التي يتوقع لعدد سكانها أن يتضاعف من 280 مليوناً في الوقت الحالي، إلى نحو 530 مليوناً بحلول العام 2050، مع ملاحظة أن حوالي 43 في المئة من هؤلاء تقل أعمارهم عن 15 عاماً، الأمرُ الذي يجعل المنطقة شبابيةً، لها طموحاتها السياسية والاجتماعية، وهي تصب بصورة عامة في إطار توفير فرص العمل والمشاركة السياسية ووجود نظام للحكم يحترم مواطنيه، ما يجعل هذه الآمال والطموحات عنصر قلق وعدم استقرار.
إدارة ترامب، وفي إطار استراتيجيتها المعلنة بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، قامت بسحب قواتها الخاصة من الصومال على الرغم من حراجة الوقت، ومن أن البلاد تتجه إلى إجراء انتخابات رئاسية، مع استمرار النشاط المتزايد لـ"جماعة الشباب" المرتبطة بتنظيم القاعدة. كما أن إثيوبيا التي كانت تشارك في مواجهة تنظيم الشباب الصومالي، أصبحت مشغولةً أكثر بقضاياها الداخلية..
في عامي 2018 و2019، نزح قرابة 300 ألف نسمة، بسبب الصراعات المحلية، خاصة في اليمن وإريتريا. وإذا حصل انهيار في السودان أو في إثيوبيا، حيث عدد السكان في السودان هو 40 مليوناً، بينما يصل عدد السكان إلى 110 ملايين بالنسبة لإثيوبيا، فإن الهجرة المتوقعة يومئذ ستتجاوز الأرقام السابقة بمراحل.
منطقة البحر الأحمر أصبحت ترتبط بصورة وثيقة بكلّ من منطقة الخليج، والمحيطين الهندي والباسيفيكي، الأمرُ الذي يعطيها ثقلاً استراتيجياً يساعد فيه وجود منطقتي باب المندب في جنوبها وقناة السويس في شمالها. وعبر البحر الأحمر تمر سلع وبضائعُ تتجاوز قيمتها 700 مليار دولار سنوياً
دراسة لـ"معهد السلام الأمريكي" نشرت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، دعت إلى إعلان منطقة البحر الأحمر منطقةً ذات أولوية للولايات المتحدة، وتعيين مبعوث خاص لها، وذلك في إطار استراتيجية معتمدة، وبدور واضح ومساند من الكونغرس. وتوصي الدراسة بأن يكون من أهداف هذه الاستراتيجية العمل على تقليص الآثار السلبية للتنافس الخليجي على المنطقة، الذي يتخذ شكل تحالفات عسكرية، وأحياناً قواعد. وهو في بعده الاقتصادي يتمثل في نحو 430 مشروعاً لدول مجلس التعاون الخليجي في المنطقة، واستثمارات مباشرة تصل إلى 18 مليار دولار بالنسبة لثلاث دول فقط هي السودان وإثيوبيا وجيبوتي، وذلك منذ العام 2003.
ما بين اثيوبيا واليمن: هاجس السلام
21-02-2020
منطقة البحر الأحمر أصبحت ترتبط بصورة وثيقة بكلّ من منطقة الخليج، والمحيطين الهندي والباسيفيكي، الأمرُ الذي يعطيها ثقلاً استراتيجياً يساعد فيه وجود منطقتي باب المندب في جنوبها وقناة السويس في شمالها. وعبر البحر الأحمر تمر سلع وبضائعُ تتجاوز قيمتها 700 مليار دولار سنوياً، وهي بالتالي منطقةٌ مرتبطة بالنظام الإقليمي والأمني خاصةً وأن قضايا التهريب والقرصنة وضمان أمن الممرات البحرية أصبحت قضيةً محورية تهم التجارة العالمية.