يزاحم الفقر محاولات مصر نحو إحداث انتقال ديمقراطي حقيقي، بعد ثورة يناير التي أتاح فضاؤها الواسع لأغلبية المصريين الانتقال من انتظار الموت المراوغ إلى أفاق الأمل الفسيح في المستقبل.
سعى عهد جمال عبد الناصر إلى تطبيق مقولة أرسطو عن الطبقة المتوسطة الضرورية لنجاح الديمقراطية، تلك التي يكون أفرادها ليسوا من الفقر بحيث تتكسر أجنحتهم، ولا من الغنى بحيث ينشبون أظفارهم. بينما مثلت الفترة من بداية عهد السادات وحتى مبارك انقلابا حادا إزاء سياسة سلفهم، باتجاه القضاء على تلك الطبقة، بحيث أصبح 20 في المئة من الشعب المصري يملكون 80 في المئة من ثروات البلاد. وامتدت السياسات الاقتصادية والاجتماعية لتكرس هذا الواقع وتحافظ عليه، باعتباره إحدى ركائز الاستبداد.
يبلغ عدد سكان مصر أقل قليلاً من 90 مليون نسمة، يعيشون على 7.7 في المئة من مساحة البلاد، وبنسبة فقر بلغت وفق التقديرات الحكومية 41 في المئة من السكان، بينما تصل بها تقديرات الباحثين إلى 55 في المئة. ومن المتوقع أن تزيد تلك النسب (أياً كانت!) مع استمرار النظام السياسي الجديد في الطريق الذي اتبعه السادات ثم مبارك اللذان وضعا الاقتصاد المصري تحت وصاية المؤسسات الدولية، كصندوق النقد الدولي، وأغرقاها بالديون. تكشف بعض الأرقام حقائق دالة في محافظات عشر حيث يقع الناس بين سندان الفقر ومطرقة التطرف. فعندما نتأمل نسبة من صوتوا بنعم في الاستفتاء الأخير على دستور مصر، نجد أنهم قد تركزوا في ثلاث محافظات هي الأكثر فقرا: أسيوط (ونسبة الفقر فيها 69 في المئة من سكانها)، ومحافظة سوهاج (حيث تلك النسبة تصل الى 59 في المئة)، ومحافظة المنيا (50 في المئة). يضاف إلى ذلك أن هذه المحافظات الثلاث تضم 794 قرية، يشكل الفقراء فيها نسبة 82 في المئة من إجمالي عدد الفقراء بالألف قرية هي الأكثر فقرا في مصر.
صوت الناس في تلك المحافظات بالموافقة على الدستور الذي أثار جدلا كبيرا وانقساما حادا في مصر، حيث رفضته المحافظات الحضرية كالقاهرة والغربية، بينما بلغت نسبة الموافقة عليه في محافظة المنيا 83 في المئة من سكانها، تلتها محافظة سوهاج بنسبة 79 في المئة، ثم المحافظة الأكثر فقرا، أسيوط بنسبة موافقة بلغت 76 في المئة. وينتشر مرض الالتهاب الكبدي الوبائي (فيروس سي) بين أبناء محافظة بني سويف، حيث يصيب 75 في المئة من ابنائها، بما يعكس حجم الإهمال الطويل لكل محافظات الصعيد في برامج التنمية.
الأكثر فقرا هم الأعلى تصويتاً بنعم. وأما ما دفع الناس للتصويت بنعم، فهو انتشار الحركات الإسلامية الأكثر تشدداً في تلك البقاع. وعلى سبيل المثال، ففي مناطق تركز أعضاء الجماعة الإسلامية وجناحها السياسي، حزب البناء والتنمية، حاز الحزب على 13 مقعداً في برلمان 2012 حيث 85 في المئة من تلك المقاعد مخصصة لمحافظات الصعيد الثلاث.
بين الفقر والمرض، تنشط جماعات الاسلام السياسي في تلك المحافظات التي تعاني كذلك من الأمية. ويكتمل المربع على خط الشحن الطائفي المتواصل، وخصوصا في محافظة كأسيوط تحتضن 425 كنيسة، تشعل كل محاولة لترميم حائط أو دورة مياه في كنيسة فتنة جديدة، تضاف الى أكثر من 300 فتنة حدثت على مدى العقود الأربعة السابقة، منها 20 فتنة كبرى بين أبناء الوطن الواحد، هي حصاد مناخ ثقافي بائس، تسيطر عليه مجموعات مغلقة الفكر تنتهج خطابا طائفيا تتحول المعارك السياسية في ظله، سواء كانت انتخابات برلمانية أو استفتاء على الدستور، إلى معركة بين «الحق» و«الباطل»، بين «فسطاط الإيمان» و«فسطاط الكفر». وتنشط تلك التيارات من خلال الفضاء الاجتماعي والخيري، بينما تعزف سائر الأحزاب والقوى الديمقراطية، الناشطة في العاصمة وبعض المناطق الحضرية، عن العمل في تلك المناطق! محاولات سلوك الطريق الديمقراطي مرهونة إذاً بتوفر خطط تنمية متوازنة تغطي كل أقاليم مصر، مع إعطاء اهتمام أكبر بالمحافظات الأكثر حرمانا. فواقع الحديث عن الحقوق السياسية يحمل مقداراً من الترف المخجل في مواجهة رؤوس أحناها الفقر والقهر.
مواضيع
الديمقراطية وخريطة الفقر فـي مصــــر
مقالات من مصر
العاصمة المصرية في مفترق طرق..
على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...
القاهرة: الخوف من الثورات يدفع خطط "التطوير" في "وسط البلد"
تهدف التغيرات الكبيرة التي تحدث في تلك البقعة من القاهرة، وبشكل تدريجي ومن دون تراجع، إلى محو ذلك الحنين إلى الميدان، ومنع إمكانية تكرار المظاهر الاحتجاجية في منطقة "وسط البلد"،...
الصحافيون الإلكترونيون في مصر.. أزمة قيد وملاحقة
في أيار/ مايو الماضي، استهجن عدد من الصحافيين الإلكترونيين في مصر، عبر مجموعة إلكترونية على فيسبوك تسمى "عضوية النقابة حق للصحافيين الإلكترونيين"، تهميش مجلس نقابة الصحافيين لمطالبهم المستمرة منذ سنوات،...
للكاتب نفسه
دراما شباب الإخوان
وقف يتسامر مع زميله في نوبة حراسة مقر الاعتصام في رابعة متسائلا: هل أجرمنا حين أردنا أن نحيا كما يريد ديننا؟ هل أجرمنا لأننا نريد أن ننتزع وطنا يحترم ناسه؟...
خريطة الحركات السلفية في مصر
شعار أحدى قنوات التلفزة السلفية في مصر هو: «شاشة تأخذك إلى الجنة». وها الطرق الى الجنة تتفرع الى تيارات سلفية عدة، تتلاقى وتتقاطع وتتوالد الواحدة من الاخرى، أو تتعايش، أو...
السلفيون والإخوان من انقلب على الآخر؟
أصاب التصدع العلاقة بين شركاء وحلفاء الأمس، حمَلة المشروع الإسلامي، حماة الشريعة ، من تصدوا معا لكتابة دستور الدولة الإسلامية، وخاضوا معا معركة استلاب الدولة المصرية وتحويل مسارها باتجاه مشروع...