يبدو أن قضية دارفور السودانية دارت دورة كاملة بعد أكثر من عقد من الزمن لتنتهي الى مفترق طرق. فهل تعود شأناً محلياً تستعيد الدولة السودانية الإمساك به مرة أخرى، أم ينفتح الباب أمام تصعيد أكبر دولياً. أسهم في هذا التطور عاملان تمثلا في إعلان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي فاتو بن سودة حفظها لأي تحقيقات جديدة في ما يخصّ قضية دارفور واتهامها لمجلس الأمن الذي أحال إليها الملف في العام 2005 بالتقاعس عن القيام بواجباته، وعلى رأسها إلقاء القبض على الرئيس عمر البشير الذي أصدرت المحكمة مذكرة توقيف بحقه منذ أكثر من خمس سنوات لاتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. أما العامل الثاني فهو طلب السودان من القوات الدولية المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ("اليونيميد") التي يقدر عددها بـ 16 ألف شخص، وضع خطة للخروج من دارفور والسودان كلياً، وذلك بعد أكثر من سبع سنوات أمضتها هذه القوات التي جاءت بقرار أممي من أجل توفير الحماية للمدنيين إثر اندلاع العنف في العام 2003 في الإقليم الموجود في غرب السودان وتقارب مساحته الـ 500 ألف كيلومتر مربع (أي تقريباً مساحة فرنسا).
متاعب الإقليم قديمة وهي تتلخص بالإحساس الكبير بالتهميش السياسي والاقتصادي المتمثل في ضعف الخدمات ومشروعات التنمية. وكان قد فاقمها بروز عاملان: أولهما تنامي الإحساس لدى الدارفوريين أن المجتمع الدولي يمكن أن يُصغي لهم ويعاونهم إذا لجئوا إلى العنف لإسماع صوتهم، تماماً مثلما فعل مع جنوب السودان حيث تمّ التوصل إلى اتفاق إطاري بين الحكومة المركزية في الخرطوم والحركة الشعبية المتمردة برعاية دولية، ما فتح الباب أمام اتفاقية السلام بين الاثنين في ما بعد. والمفاصلة التي تمت بين عراب النظام، الزعيم الاسلاموي الدكتور حسن الترابي، والبشير في 1999 وتمت بموجبها إزاحة الترابي ومناصريه من مفاصل في السلطة، فرأى هؤلاء أن يساعدوا في إشعال التمرد في دارفور حيث لبعض مناصري الترابي شيء من النفوذ هناك تمحور بصورة خاصة في قيادات حركة العدل والمساواة، ثاني حركتين متمردتين أشعلتا فتيل التمرد بمهاجمة مطار الفاشر وتدمير ست طائرات وقتل وأسر بعض العسكريين (في آذار/مارس 2003).
تصاعدت وقتها قضية دارفور بسرعة، خاصة بعد لجوء الدولة الى تسليح بعض القبائل للرد على التمرد، الأمر الذي جعل الزمام يفلت ويتساقط القتلى ليصلوا إلى نحو 300 ألف نسمة مع حدوث تدمير واسع للقرى وهجرة إلى الداخل والدول المجاورة، خاصة تشاد. وهو ما لفت أنظار العالم حيث هرع العديد من الساسة الغربيين لزيارة دارفور والحديث مع الحكومة حول ضرورة وقف العنف القبلي والتوصل الى ترتيبات سياسية، مدفوعين بالتغطية الإعلامية المكثفة التي أدارتها منظمة "أنقذوا دارفور" الأميركية، مما أدى الى وصول القضية الى مجلس الأمن بصورة قياسية لم تحظ بها حتى قضية جنوب السودان على امتداد أكثر من أربعة عقود من الزمان، وعلى الرغم من وجود "لوبي" من المسيحيين والسود.
مجلس الأمن على الخط
مجلس الأمن اتخذ نحو 20 قراراً بشأن دارفور، أبرزها إرسال قوات حفظ سلام الى الاقليم المضطرب وكذلك احالة ملف القضية الى المحكمة الجنائية الدولية لتنظر فيه. السودان عارض القرارين، لكن تحت الضغط الدولي، قبِل بقوات هجينة مشكّلة من الاتحاد الأفريقي بصورة رئيسية وتعتمر قبعات الأمم المتحدة الزرقاء مع مرجعية ديبلوماسية وقانونية وادارية بين المنظمتين. أما بخصوص الإحالة الى المحكمة الجنائية فإن اعتراض السودان استند أساساً الى أنه غير موقِّع على ميثاق روما وبالتالي فهو دفع بعدم الاختصاص. وتفاقم الوضع عندما أصدرت المحكمة مذكرتي توقيف بحق الوزير أحمد هارون، وعلي كشيب أحد قادة الميليشيات، وهو الاتجاه الذي تصاعد بصدور مذكرة توقيف بحق البشير نفسه في العام 2009. وبعدها ألحقت المحكمة ذلك بمذكرة رابعة بحق وزير الدفاع الفريق أول عبدالرحيم أحمد حسين.
وبما أن المحكمة تعتمد على تعاون الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لتنفيذ قراراتها، لأنه ليس لديها قوات تنفذ عن طريقها مذكرات التوقيف.. فلم يحدث، وتحدّى البشير المحكمة وقرارها الخاص باعتقاله بالسفر الى دول مجاورة، بداية في الخليج ومصر وإفريقيا، ثم توسعت دائرة تحديه للمحكمة بالسفر الى مناطق أبعد مثل الصين وإيران، بل وخطط لزيارة نيويورك لحضور جلسة للأمم المتحدة، إلا أن الإدارة الأميركية رفضت منحه تأشيرة دخول، كما أنه زار دولاً أعضاء في المحكمة الجنائية مثل كينيا وتشاد، وكلها رفضت إلقاء القبض عليه امتثالاً لقرار من الاتحاد الافريقي الذي رأى في إجراءات المحكمة استهدافاً لأفريقيا ورؤسائها الذين لا يزالون في سدة الحكم، الأمر الذي يفترض أن يوفر لهم حصانة لم تراعها المحكمة.
علاوة على ذلك، فهناك علامات استفهام حول مدى جدية وصدقية مجلس الأمن في معاونة المحكمة وتطبيق قراراتها. فثلاثة من الأعضاء الدائمين في المجلس وهم الولايات المتحدة وروسيا والصين، لا يعترفون بالمحكمة أساساً، بل ان الادارة الأميركية أبرمت اتفاقيات خاصة مع دول عدة لحماية مواطنيها وعدم تسليمهم الى هذه المحكمة. ومنذ إحالة الملف عليها منذ سبع سنوات، يقوم المدعي العام كل ستة أشهر بعرض تقرير يستمع إليه المجلس ومن دون اتخاذ إجراء ما، (وهو ما دفع المدعية الحالية الى تجميد أي عمل جديد). صحيح أن مذكرات التوقيف السابقة ستظل سارية، إلا أنه من الواضح أنها فقدت شيئاً من زخمها، بينما يرى وزير الخارجية السوداني أن في موقف مدعية المحكمة محاولة استصدار قرارات جديدة من مجلس الأمن. بينما يذهب آخرون في اتجاه معاكس فيرون أن واشنطن ربما تخطط لنقلة في علاقاتها مع السودان، وذلك في إطار المراجعة العامة الجارية. ويستشهد هؤلاء بأن الولايات المتحدة صارت تعاون السودان للاستفادة من بعض الاستثناءات في جدار المقاطعة الأميركية، كما هو حادث في الميادين الزراعية والطبية والأكاديمية. وقد يكون هذا من ضمن إستراتيجية جديدة بدأت تتضح بعض ملامحها، كما في مساندة عبد الفتاح السيسي في مصر وتسليمه طائرت الأباشي من أجل مكافحة الإرهاب بل والإعلان عن عودة العلاقات الديبلوماسية مع كوبا بعد أكثر من نصف قرن من سياسة المقاطعة والحصار التي أعلن أوباما نفسه فشلها وضرورة تجريب طريق جديد.
لي ذراع
ويبقى الملف الأكثر تعقيداً وهو إخراج القوات الدولية. فقانونياً، جاءت تلك القوات بقرار من مجلس الأمن، وبالتالي فالمجلس هو الذي يملك حق إصدار الأمر لها بالخروج، لكن واقعياً فإن تلك القوات تعيش في بيئة تسيطر عليها الحكومة السودانية. وإذا أصرت الأخيرة على موقفها الداعي الى خروج هذه القوات فلن يكون أمامها غير الانصياع وعلى المجلس أن يحاول الرد على الخرطوم بصورة أخرى، فتلك القوات تعتمد على الحكومة السودانية في تأمين أفرادها ومركباتها ومنسوبيها، هذا الى جانب توفير بعض اللوجستيات مثل الوقود والمياه وغير ذلك من وسائل يمكن أن تستخدمها الحكومة للي ذراع القوات الدولية في ما إذا قررت البقاء رغم أنف الحكومة التي لمحت الى ذلك بصورة واضحة، مستشهدة بالنموذج الاريتري الذي وضع القوات الدولية التي كانت في أراضيه في حالة آثرت معها الخروج في النهاية. ومع أن التصريحات تتوالى من بعض المسؤولين الأمميين أن الوضع لم يستقر في دارفور بما يبرر خروج القوات بدليل حدوث حالات نزوح هذا العام شملت 430 ألف إنسان وفق رئيس عمليات حفظ السلام في الأمم المتحدة، إلا أن الصورة ستتضح بصورة جلية عند التجديد أو عدمه، عندما ينتهي أجل التفويض الحالي بعد ستة أشهر، في حزيران/ يونيو المقبل.
وفي واقع الأمر، فإن التجديد المقبل يمكن أن يصبح إحدى نقاط رياح الحرب الباردة التي بدأت تهب بين موسكو والعواصم الغربية بقيادة واشنطن، التي اتهمت كبير موظفي البعثة الأممية في دارفور، وهو روسي الجنسية، أنه يُخفي بعض التقارير عن رئاسته في نيويورك، وهو ما نفاه الأخير ودعمته البعثة الروسية في رئاسة الأمم المتحدة. وفي الحقيقة، فإن النقد يطال "اليونيميد" حتى من الدارفوريين أنفسهم، لعدم فاعليتها مستشهدين بعجز تلك القوات عن القيام بحملات تفتيشية منتظمة وتضييعها وقتاً كثيراً قبل الوصول الى مناطق تشهد أحداث عنف، مما يجعل من العسير عليها توثيق الانتهاكات التي تحدث. وفي العام الماضي استقالت الناطقة الرسمية للبعثة الأممية في دارفور، عائشة البصري، المغربية الأصل، متهمة "اليونيميد" بأنها تغطي على ما يحدث في دارفور، وأرجعت ذلك الى الطبيعة المزدوجة لها وتبعيتها جزئياً للاتحاد الأفريقي الذي يتبنى موقفاً متعاطفاً مع الحكومة السودانية. ومع ان الأمم المتحدة قامت بالتحقيق في اتهامات البصري، ما أثبت بعض النماذج التي ذكرتها، الا ان الوضع لم يتغير كثيراً، وهو ما اتضح جلياً عندما وردت تقارير عن وقوع حوادث اغتصاب في قرية تابت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي البداية، أرسلت البعثة فريقاً خلص الى انه ليس هناك دليل على وقوع عمليات الاغتصاب، وهو ما قوبل بتشكيك في نيويورك. هذا الى جانب ان موضوع التمديد يمكن أن يعيد فتح الكلفة المالية الضخمة لتلك القوات ( 1.3 مليار دولار) وما إذا كان أداؤها يبرر هذا الإنفاق الضخم..
وإذا انتهى الأمر الى عدم التجديد، وبغض النظر عن صدور قرارات جديدة من مجلس الأمن، فإن هذا يمكن اعتباره مؤشراً على تراجع الاهتمام الدولي بما يجري في السودان، خاصة مع تصاعد الانشغال بقضايا أكثر حيوية ذات تبعات جيوستراتيجية مثل الحرب على داعش والتراجع الحاد لأسعار النفط. لكن، حتى اذا حدث هذا، فستظل قضية دارفور ماثلة، في إطار قضايا السودان الكلية. وأكبر العقبات التي تواجهها ان الدولة أصبحت طرفاً في الصراع وليست حكماً محايداً. وقد يفسر النظام تراجع الاهتمام الدولي بأنه يسير على النهج السليم، فيطمئن ويصم أذنيه عن أي إصلاحات أو مبادرات سياسية ذات قيمة.