تتخذ مصر إجراءات ملء الكف في مواجهة الكرَب. هناك من يراها عظيمة، وهناك من يراها حفنة ضنينة، ولكنها تبقى المؤثر الرئيسي أو حتى الوحيد الصانع للحقيقة.
فمصر ـ وفق بيانات رسمية ـ تقف على مشارف المرحلة الثالثة من انتشار وباء فيروس كورونا، ما بين إمكانية التقصي عن كل حالة يتم الكشف عنها ومعرفة مصدرالإصابة، وما بين البدء في مواجهة بؤر غير معروفة المنبع ولا معلومة الحدود.
ومع كل "إصابة"، هناك خطوة أخيرة هي الأكثر وضوحاً، تلك الواقفة مرتدية ملابس التعقيم تحت لمعان الضوء، ومن حولها يلتف الجميع سعياً للتطوير وابتهالاً للرجاء. إنها "مستشفيات الحجر الصحي". ولكن أين كان هؤلاء البشر قبل الوصول إلى هنا؟ ما الذي مروا به؟ ماذا عن مدى الإنصاف والإتاحة وحجم الوجع؟
إنها مراحل الرحلة، من الإصابة إلى العزل، حيث ما يتمناه الجميع للجميع.. الشفاء.
مرحلة الشك
لم تكن "أشجان" بعيدة عن "الشبح"، فهي ممرضة بأحد المستشفيات بالقاهرة، تقول في شهادتها عبر فيديو مسجل لها من داخل سيارة الإسعاف: "كنت أتعامل مع مريضة كفيفة"، فوجئنا بعد أيام بإعلامنا بإصابتها بالفيروس، طالبتُ عدة مرات أنا وزميلاتي بإجراء التحليل وكان الرد الدائم من الإدارة "هل تشعرين بأي أعراض". قلتُ لا، ولكنني كنت أحملها وأعينها على الحركة، ولم يتوفر لنا ملابس واقية. سُئلتُ "هل عطستْ في وجهك؟"، نفيت فلم تتم الاستجابة!
خضعت أشجان وعدد من زميلاتها للعزل داخل المستشفى نفسها، وأجريت لهن التحليلات اللازمة. تقول: "خلال انتظارنا، طالَبنا المدير بالعودة للعمل. رفضتُ ولم يمر يوم آخر حتى جاءت نتيجة التحليل إيجابية، وإنني حاملة للفيروس كما توقعتُ. ولكن من يحمي أهلي وكل من تعاملت معهم داخل المستشفى من مرضى وفريق طبي؟".
في تقرير صحافي نقلاً عن مصدر رسمي، تبين تردد السيدة الثمانينية التي تعاني من مشكلات بالقلب على 5 مستشفيات قبل أن يتوفر لها سرير للرعاية المركزة، ولم تظهر عليها أعراض الإصابة إلا بعد أسبوع كامل.
المجيب "105"، رقم الاتصال السريع الذي حددته الحكومة للإبلاغ عن الإصابات المشتبه بها، لديه محددات لا يمكنه الخروج عنها، وهي تتفق مع ما أوصت به "منظمة الصحة العالمية": فإن كنت غير مخالطٍ لمريض كورونا، أو لم تكن عائداً من الخارج، وأعراض الاشتباه لم تصل بعد لضيق التنفس، فعليك فقط عزل نفسك في المنزل.
أما "حميدة"، السيدة من القرية الصغيرة بمحافظة الإسماعيلية، فكانت تخرج كل صباح من منزلها البسيط، تحمل عيدان الخضرة، وتتجه لمطعم الكباب الشهير، وتبدأ على الفور في تحضير ما يلزم من سلَطات. لا تعرف من أين جاء المرض؟! فقد تم إغلاق المطعم بالأيام العشر الأوائل من شهر آذار/ مارس الماضي. جلست على مدخل بيتها تبيع خضرتها، مارست حياتها بشكل طبيعي، شعرت ببعض الإعياء وتدريجياً ظهرت الأعراض إلى أن ضاق التنفس واتضحت الرؤية.
ما بين تجربة المرأتين، كان الشك هاجساً افتقد سرعة الإسعاف، فالجميع هنا ملزم بقواعد "105"، رقم الاتصال السريع الذي حددته الحكومة للإبلاغ عن الإصابات المشتبه بها. ولكن هذا المجيب لديه محددات لا يمكنه الخروج عنها، وهي تتفق مع ما أوصت به "منظمة الصحة العالمية"، فإن كنت غير مخالطٍ لمريض كورونا سبق الكشف عن حالته، أو إن لم تكن عائداً من الخارج، وأعراض الاشتباه لم تصل بعد لضيق التنفس فعليك فقط عزل نفسك في المنزل.
تشريح العزلة.. بورتريه لرجل خائف ووحيد
19-03-2020
ولكن كيف هو الحال إذا كان أغلبهم لا تظهر عليه أعراضٌ خطرة ولا يملك رفاهية العزل؟ فأصحاب العمل لا يرحمون، والدولة لم تتخذ إجراءات تفرض العزل الكامل كما في الكثير من الدول الأوروبية والعربية، ولم تتخذ إجراءات حامية بالشكل الكافي للعمالة المنتظمة وغير المنتظمة. فقد أتيح نظام تسجيل إلكتروني لـ"عمال اليومية" للحصول على إعانة شهرية مع وعد رئاسي بصرفها قبيل شهر رمضان. أما العاملون بالقطاع الخاص، فقد وجه رئيس الجمهورية اللوم إلى رجال الأعمال ممن قاموا بتسريح العمال، ولكنه وبالوقت نفسه لم يتم اتخاذ إجراءات حماية، من إلزام المنشآت الخاصة بتوفير أدوات الوقاية، وعمل مجموعة من التحليلات الطبية تعطي مؤشرات كاشفة، ومنح إجازات مدفوعة الأجر لمن يعانون من ضعف بالمناعة أو أمراض مزمنة.
والبيوت هي، كما يعرف كل من مرّ بمصر، لا تسمح للأغلبية بطقوس العزل.
مرحلة الكشف
الوصول لتحليل الـPCR ليس بالأمر الهيّن. ففي فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يحكي طبيب شاب بمستشفًى رئيسي شرق القاهرة: جاءت للطوارئ حالة مريضة تشعر بالحمى والسعال، وبدلاً من أن يتم إرسالها لغرفة العزل والاتصال بالإدارة المركزية لتوفير الفحوصات اللازمة، طُلب من أهلها دفعها على الكرسي المتحرك، ومعها قرار دخول لقسم الرعاية المركزة. تعاملنا معها على الفور، وأجرينا الفحوصات والأشعة المتاحة فأكدت احتمالية الإصابة، مرت 13 ساعة قبل اتخاذ قرار بنقلها إلى غرفة العزل. بعد ثلاثة أيام توفّر الكاشف الطبي وتم التأكد من إصابتها، وبدأنا مرحلة الفحص للمخالطين لها وبينهم عدد منا. جاءت سلبية، ولكن لم تتم إعادتها مرة أخرى، وبالطبع لم تشمل كل من خالطها وتعامل معها.
فيديوهات متكررة، وأخبار تتزايد وتيرتها المقْبِضة من داخل المستشفيات. وكان المشهد الأكثر صعوبة وتأثيراً بالرأي العام هو الكشف عن إصابة 15 من الطاقم الطبي "بمعهد الأورام القومي" الذي يتلقى العلاج فيه ما لا يقل عن 7 آلاف مريض سنوياً. بدأت تفاصيل القصة نهاية آذار/ مارس مع تقارير صحافية تشير إلى مخاوف بين الأطباء من احتمالية الإصابة، وهو ما نفاه سريعاً مدير المستشفى في تصريحات رسمية. وبعد أسبوع تأكدت المخاوف! تم إغلاق المعهد، وسحب عينات للمرضى الموجودين فيه وللفريق الطبي وللعاملين...
وفي تصريحات صحافية، أكد المتحدث باسم جامعة القاهرة ـ التي يتبع المعهد لها إدارياً ـ مخاطبة وزارة الصحة والسكان للحصول على ألف كاشف طبي لفيروس كورونا على نفقة الجامعة، وأنه تم أخذ 413 مسحة لكل العاملين في المعهد القومي للأورام حتى الآن، ولكن هناك حاجة لإجراء المزيد من الفحوصات للمترددين عليه خلال آخر أسبوعين.
من جانبها، أصدرت وزارة الصحة في بيان رسمي ورقة تعليمات جرى تعميمها على المستشفيات، تفيد بعدم العمل دون ارتداء مستلزمات الوقاية، والتشديد على توافرها بما يكفي مستشفيات الجمهورية.. وسلسلة من الإجراءات الأخرى. وفي تعقيب، قال نقابيون للأطباء: "هذا بيان الوزارة، وما نراه على أرض الواقع شديد السوء، ولكن عليكم الالتزام، وارفضوا العمل إذا ما لم تتوافر الأدوات".
بدأت قصة "معهد الأورام القومي" الذي يتلقى العلاج فيه ما لا يقل عن 7 آلاف مريض سنوياً، بنهاية آذار/ مارس مع تقارير صحافية تشير إلى مخاوف بين الأطباء من احتمالية الإصابة، وهو ما نفاه سريعاً مدير المستشفى في تصريحات رسمية. وبعد أسبوع تأكدت المخاوف! تم إغلاق المعهد، وسحب عينات للمرضى الموجودين فيه وللفريق الطبي وللعاملين.
وقد أوضح مبعوث منظمة الصحة العالمية في مصر أن الحكومة قد حصلت على ما يقارب 200 ألف كاشف طبي، ولا يعيق حصولها على المزيد إلا تزايد طلبيات الشراء على الشركات المنتجة التي تملك وحدها حقوق الملكية الفكرية.. وهي "ملكية" محل انتقاد.
وهناك مطالب باتخاذ اللازم من أجل اتباع سياسة توسيع رقعة الاختبار العشوائي اليومي احتذاءً بنماذج أوروبية، إضافة إلى مخاوف من سلامة خطوات الكشف، وضرورة إجرائه أكثر من مرة خلال فترة الحضانة المتوقعة، ومخاوف أخرى حول سلامة الكواشف المستخدمة في ظل ما أعلنته إسبانيا عن اكتشافها فساد 9 آلاف جهاز كشف استوردتها من الصين مؤخراً.
وما بين الخوفين، تبزغ عشرات القصص المقلقة، منها قصة رجل الأعمال المتوفي بفيروس كورونا "منصور الجمال". فقد صرح محاميه أنه تم إجراء التحليل مرتين، وكانت النتيجة سلبية إلى أن تدهورت حالته، ولم تظهر إيجابية التحليل إلا حينها.
مرحلة الخوف
عند هذه المحطة يصل الجميع أخيراً لمرحلة "الحجر الصحي". وقد وصل الصحافي الأمريكي مات سويدار مبكراً إلى أول مستشفيات الحجر بمدينة مرسى مطروح بالساحل الغربي، جاء في رحلة سياحية فانتقل لتوثيق رحلته مع الفيروس. وفي فيديو على صفحته بعد أن شفي وسافر، أشاد بكل خطوات العلاج التي تلقاها وبالرعاية، شهادة تتفق مع عشرات الصور المبهجة حيث الاحتفال بعيد ميلاد طفل داخل الحجر، وشيخ صعيدي عجوز يرقص بالعصا فرحاً بشفاء زوجته.
العلاج على نفقة الدولة.. سند الغلابة في مصر
09-10-2019
لكن تجربة ابن أحدى الحالات المتوفية ـ رفض ذكر اسمه ـ كانت معاكسة. قال: حصلت والدتي على كل الدعم داخل مستشفى العزل، إلا أن تأخر خطوة الدخول في انتظار إجراء التحليل أولاً، ثم النتيجة، قد ترك أثره على صحتها، وهي مريضة بالسكري وفي منتصف الخمسينات من عمرها. وصلت إلى هناك وهي في حالة سيئة للغاية، لم أتوقع أن تنجو. كانت تودعنا بعينيها وهي على حامل الإسعاف، ولم أتلقَ منها إلا اتصالاً وحيداً بصوت واهن، الاتصال الثاني كان من ممرضة أخبرتني أن والدتي قد دخلت في غيبوبة.
يتفق هذا الحديث الحزين مع تصريح نائب مدير مستشفى العزل في محافظة الإسماعيلية الذي قال في تصريحات صحافية: "لم نستقبل غير 5 في المئة من الإصابات، ولكن أغلبها حالات حرجة جداً".
..
سينتهي ذات صباح كل عزل.. ويرتفع عن الليل كل حظر وتعود الحياة إلى سيرتها الأولى، ولكن محمولة بعدد من القلوب المكلومة، التي لن تستطيع ما حيت أن تستوعب التجربة، وكل ما ترغب به ألا ينسى الآخرون.