أيّاً مَن كنت وفي أيّ مكان تكون وأيّاً كان وضعك المالي أو الاجتماعي أو الديني، فإنكَ لا بد فكّرت اليوم بموضوع فيروس كورونا المستجدّ أوقرأتَ شيئاً عنه أو طالعك خبر يخصّه على أقلّ تقدير. قد يكون معظمنا ما زال غير مصاب بالفيروس حتى الآن، لكننا بتنا جميعاً مصابون بفكرته. يجلس بيننا وبين شاشة الهاتف أو اللابتوب، في صفحات الكتب، في صحن الطعام، في النكات والأحاديث، محتكراً مساحات التفكير فلا يُبقي لأي فكرة أو شعور سواه مكان، بحيث يصير الانشغال بأمر آخر يبدو إمّا تافهاً أو عديم الحساسيّة أو مفتعلاً كنوعٍ من الكذب على الذات والتلهّي المخاتِل.
الآن، في وسط كل الخطاب الإنسانوي الجارف الذي تفشّى مع تفشي الوباء في الأسابيع القليلة الفائتة، أفكّر بمعنى أن تكون فكرة واحدة تسيطر على تفكير البشر بمجملهم في الوقت نفسه. هذا وضع فريد جداً. الفيروس صار تلك النقطة السوداء في صفحة واسعة شديدة البياض، لا يمكن لنا إلّا أن نلحظه ونلقي النظر إليه، نهتمّ به ونراقب حركته وتحوّلاته، حتى يصير هو كلّ عالمنا، كل أفكارنا... تلك النقطة التي لا تتوقف عن الغزْل بجنون فوق الصفحة. نُقطةٌ تستحوذ وتبتلع وتكبر مثل جرذٍ سمين سُمِح له أن يسكن بيت العائلة ومساحة الدماغ. لا الفيروس، بل فكرته، السمّ الذي نتجرّع ويُلهينا عن سموم العالم الأخرى. هل تذكرون ثورة شعبِ العراق؟ انتفاضة لبنان على عصابة النهب الحاكمة المتوحشة؟...
فكرت أنني في اليوم الذي يلي وصولي، سأذهب لمشاجرة البنك للإفراجِ عن بعض أموال سأحتاجها للعودة إلى حيث أكمل دراستي. أعدّدت الجمل والحجج، ووضعت لنفسي سقفاً للتفاوض: "لن أخرج من البنك إلا ومعي على الأقل كذا". أمّا الآن، فيبدو كلّ ذلك جزءاً من عالم في الماضي البعيد. لم تقلع الطائرة أصلاً.
قبل هذا كلّه، كنت أعدّ العدّة للعودة إلى بيروت في زيارة لأهلي وأصدقائي. كنت أفكر أنني في اليوم الذي يلي وصولي، أوّل ما سأفعله سيكون الذهاب لمشاجرة البنك للإفراجِ عن بعض أموال سأحتاجها للعودة إلى ألمانيا حيث أكمل دراستي. كنت أرسم مشاهد الشجار في رأسي، أعدّ الجمل والحجج، وأضعُ لنفسي سقفاً للتفاوض: "لن أخرج من البنك إلا ومعي على الأقل كذا أو كذا". أمّا الآن، فيبدو كلّ ذلك جزءاً من عالم في الماضي البعيد السحيق. لم تقلع الطائرة أصلاً، وصارت للطيور مسافات أرحب في السماء للطيران، إذ أنّ طائرات كثيرة أخرى ألغيت رحلاتها في العالم كلّه.
المصرفُ الإله!
27-12-2019
هذا عالمٌ جديد. مؤقّت؟ ربما، ولكن قد يطول المؤقّت إلى حين. وفي الواقع، ومِن منطلقٍ أكثر ضيقاً، فقد انتهى العالم بالنسبة للبنانيين مرّتين خلال شهورٍ قليلة. في المرة الأولى، حين هبط الهيكل الاقتصادي الهش على رؤوسنا جميعاً، ومعه الليرة، ووضعت سقوف منخفضة جداً (ومثيرة للضحك حقاً) للسحب النقدي. وفي المرة الثانية، عند الأزمة الصحية المنفجرة عالمياً مع تفشي فيروس كورونا. ولكن، ألم يكن عالمنا دائم الانهيار والتقولب والانقلاب من قبل؟ كشابات وشبان اضطررنا مراراً لإيجاد عمل بغير اختصاصاتنا- إن وُجد، لتغيير وظائفنا والتأقلم -للبحث عن فرصة للسفر، ثمّ هجر عالمنا القديم المألوف إلى بلدان بعيدة والتأقلم، إلى تعلّم لغات جديدة والتأقلم، إلى اختراع عمل ما يمكننا القيام به وإعادة التأقلم، مرّة بعد مرّة. لقد انهار العالم بنا لمرات عديدة، وقد أجبرنا أنفسنا على إعادة اختراع حيواتنا لأجل ذلك لمرات عدة. وحين بدأنا نشعر بأنّنا ربما سننجو بشقّ الأنفس، ضحكت منّا المصارف والطبقة الحاكمة وذكّرتنا بأنّنا أبناء الانهيارات المتتالية وستكون لنا حصتنا العادلة فيها، وددنا ذلك أم لم نودّ.
انتهى العالم بالنسبة للبنانيين مرّتين خلال شهورٍ قليلة. في المرة الأولى، حين هبط الهيكل الاقتصادي الهش على رؤوسنا جميعاً، ومعه الليرة، ووضعت سقوف منخفضة جداً (ومثيرة للضحك حقاً) للسحب النقدي. وفي المرة الثانية، عند الأزمة الصحية المنفجرة عالمياً مع تفشي فيروس كورونا.
التطبيع والتأقلم السريع وإلّا... هذا ديدن حياتنا. وكما حدث وصرنا نقبل بالمئة دولار حدّاً أقصى مصروفاً مسموحاً به من المصرف دون عراك أو صراخ، حدث أيضاً أن استوعبنا فكرة القعود في المنزل والعزل الاجتماعي، كما سائر الكرة الأرضية. انهار عالمٌ وهناك آخر في طور التكوين سريعاً. كم انهياراً جزئياً أو كلّياً مررتم به في حياتكم؟ كم قصة انهيار تعرفون. أعرف أنها كثيرة... أفكّر بمواطني العالم الذي أعرفه، في لبنان وسوريا والعراق ومصر وسواها. مواطنو البلدان التي كُتِب عليها القصاصُ حياةً لا نفَس فيها ولا استراحات، تحت ظلّ أنظمة مستهترة أو قمعية وفاسدة. العالمُ كلّه مكلوم الآن، هذا صحيح، لكنّ هؤلاء أمضوا حياة كاملة من الأرق والتعب والانكسارات. اللاجئون منهم فئة مكشوفة أمام المرض والأخطار. كيف يستطيع هؤلاء الذين لا بيت لهم لزوم بيوتهم؟ المساجين أيضاً والفقراء المعدَمون والعمال المياومون أو من لا يكفيهم مرتّبهم الشهري وقد جمّدت أعمالهم، مَن لكلّ هؤلاء؟
تشريح العزلة.. بورتريه لرجل خائف ووحيد
19-03-2020
"اغسل يديك، ولا تلهو في الشارع مع الآخرين" هو ما تطلبه الحكومات مِنّا في هذه الأيام. تنهر وتأمر، لكنّها لا تطعم أبناءها ولا تأويهم مجاناً كما تفعل الأمهات. إذا كان من غضب ما فمن غير المنطقي توجيهه للفيروس. فهو "فيروس"، يؤدّي عمله الطبيعي في "فيرسة" أجسامنا، لكن ماذا عن تلك الحكومات المذهلة التي تؤتمن على إدارة شؤون الناس فتعجز. تلك هي الأعاجيب الغريبة التي اتضح أنها تحكم في السلم والحرب والمناكفات وتسهو – عالمياً – عن تجهيز المشافي والصرف على البحث الطبي. السلاح أولى. وفي حالة بلادنا، لا هذه ولا تلك تُصرف عليهاالموازنات، بل هي لجيوب الفاسدين حصراً.
انهار عالمٌ وهناك آخر في طور التكوين سريعاً. كمْ انهياراً جزئياً أو كلّياً مررتم به في حياتكم؟ كم قصة انهيار تعرفون. أعرف أنها كثيرة... أفكّر بمواطني العالم الذي أعرفه، في لبنان وسوريا والعراق ومصر وسواها.
الأبوكاليبس المالي في لبنان، الثقوب السوداء في جيوب المسؤولين، الكارثة النووية في القضاء الذي يهرِّب العملاء، النيزك الأخلاقي في أزمات الحكم، زلازل أمنية وحروب وحروبٌ أُخرى... نحن أسياد ساحة الانهيار، لن نخزّن ورق التواليت كما يفعلون في أوروبا، لكن يحقّ لنا أيضاً أن نخاف على من نحبّ وعلى أنفسنا، وأن نطلب عالماً أفضل. فالاعتياد على الانهيار مأساة مضافة إلى المأساة. والحقّ أنني لا أكترث ما إذا كان العالم سينتهي غداً أو بعد أسبوع، فأنا - المحجورة في زمن الكورونا - ما زلت أريد حقّي بمالي المحجور في البنك!