المجال العام والفضاءات العامة (2)

حتى الآن، عجز الفكر والخيال السياسيان في بلداننا عن تحديد مسألة أساسية بما يخص المجال العام (وسواه) تتعلق بكيفية إنتاج السلطة، وبالعلاقة العضوية بين السلطة والثروة، وهو نمط مستند إلى تاريخ طويل ومتراكم، يضاف إليه اليوم تعيين موقع بلداننا، التي صارت مستقلة ولم تعد تخضع لوطأة الاستعمار القديم، موقعها في المنظومة الشاملة والمعولمة للرأسمالية.
2020-02-07

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
همام السيد - سوريا

ارتكز تخيّل المجال العام، المستديم والفعال، في الفكر الغربي الحديث، على وجود طبقات تتسم بقدر من الاستقلال في مواجهة الدولة. ولا يجدي في تناول المجال العام والديمقراطية الاعتداد بما هو ثقافي وليبرالي وقانوني فحسب. استقرار ورسوخ الديموقراطية يتم من خلال تفعيل دائم للنقاش والجدل، وعقلنة الأمور، وإتاحة الفرصة للصراع الاجتماعي حتى تتم بلورة أفكار القوى المتصارعة، وحتى يمكن لها أن تصحح أفكارها ورؤيتها لما هو عام. وهذا يفترض إمكانية إعادة توزيع الثروة والموارد، ما يحدد أدوار وأوزان القوى الاجتماعية والطبقية المختلفة، ويتيح مشاركة أغلبية السكان في الفضاءات العامة والمجال العام بحيث يصبح هناك مشترك يمكن الجدل فيه. فالمشترك أو العام ليس محض تصور أخلاقي أو جدل فكري.

وفي حالة مصر، فالأوليغارشية الحاكمة تحتوي ما هو عام، ولا تسمح بمناقشته إلا في الغرف المغلقة العائدة لها. وفي حقيقة الأمر فما هو عامٌ ليس بعام، ولا يخص العوام الذين لا يعتبرون ذواتاً منوطة بالتأثير، أو تغيير مسار الأمور.

حتى الآن، عجز الفكر والخيال السياسيان في بلداننا عن تحديد مسألة أساسية بما يخص المجال العام (وسواه) تتعلق بكيفية إنتاج السلطة، وبالعلاقة العضوية بين السلطة والثروة، وهو نمط مستند إلى تاريخ طويل ومتراكم، يضاف إليه اليوم تعيين موقع بلداننا التي صارت مستقلة ولم تعد تخضع لوطأة الاستعمار القديم، موقعها في المنظومة الشاملة والمعولمة للرأسمالية.

عبد الناصر، نموذج صاف

وتخلتف درجات طرح الأمور للنقاش باختلاف طبيعة الأنظمة. فمثلاً نظام عبد الناصر هو أكثر النظم التي "تحدثت" إلى المجتمع. ولكن المنطلق هو احتكار الدولة لما هو عام، ولا يوجد عامٌ غير الذي تطرحه الدولة. وبالتالي كانت الأمور تُطرح على الجمهور وهي مؤطرة مسبقاً، أي أن ما يعرض ليس من باب النقاش، ولكن من باب الإعلام بخطة وتوجه الدولة، ومن ثم تبعية الجمهور لما تمليه من توجهات. وكثرة العرض العام من قبل الدولة في ذلك الوقت كان مرتبطاً بطبيعة نظام يمتلك مشروعاً يحاول فرضه على المجتمع، ويرى في نفسه شرعية ثورية، وشرعية مادية لاحقاً لإنجازه مشروعات كبرى. وكذلك فإن هذا النظام كان يريد أن تكون الجماهير خلفه ومعه ولكن طبقاً لما يمليه هو، في عملية كثيراً ما جرت الإشارة إليها في أواخر عمره ب"الاستدعاء السياسي". كان المجال العام مؤمماً من قبل الدولة وأبنية النظام المختلفة.

أما الشرائحُ التي كان يمكن لها حمل ركائز مجال عام مستقل فكانت بأغلبها إما في السجون أو تحت وطأة التهديد الأمني، أو كانت مستوعَبَة في ماكينة الدولة، سواء في الجهاز البيروقراطي أو الثقافي، حيث تم تأميم أغلب الإنتاج الفكري والأدبي داخل أروقة وزارة الثقافة، في ظل سيطرة نظام يحمل أيديولوجيا قوية آنذاك، هي الناصرية، باختلاف مراحل تبلورها، من 1956 إلى 1966.

النظام الناصري كان يريد أن تكون الجماهير خلفه ومعه ولكن طبقاً لما يمليه هو، في عملية كثيراً ما جرت الإشارة إليها في أواخر عمره ب"الاستدعاء السياسي". كان المجال العام مؤمماً من قبل الدولة وأبنية النظام المختلفة.

وبحلول 1954، كان عبد الناصر والعسكر قد نجحوا في تحطيم النوافذ التعبيرية المختلفة، من أحزاب وجرائد ودور نشر ومجلات، وحُسم الجدل داخل مجلس قيادة الثورة حول الديمقراطية لصالح ديكتاتورية عسكرية تقوم بمهمة مقدسة وهي التحديث وتصحيح مسار ومسيرة الشعب والوصاية عليه. وبحلول معركة السويس 1956، أصبح خطاب التخوين، وأنّ مصر مستهدفة من قبل القوى الاستعمارية وإسرائيل، وأنْ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، أصبح له القدرة على سحق أية خطابات أخرى، وأمننة النقاش العام بسهولة.

كما أن شريحة التجار لم تكن في وضع يسمح لها بتكوين شبكات قوية ومستقلة عن الدولة وقادرة على طرح مشكلات على المجال العام، وذلك لسيطرة الدولة على حركة السوق بالكامل الممسكة بها بيد أمنية قوية. وكان العمال تحت هيمنة اتحاد النقابات العامة التابع للدولة، وكان المثقفون داخل وزارة الثقافة، وكان أغلب الطبقة الوسطى داخل الجهاز البيروقراطي، وكانت النقابات المهنية أيضاً مؤممة داخل الدولة وتحت هيمنة وزاراتها. ولم يكن ما يجري هو تطويرٌ وتحديث للبنية الإنتاجية الرأسمالية في المجتمع. وبعد تفكيك ملكية الأرض، استوعب عبد الناصر أغلبَ القادمين من الريف في جهاز الدولة البيروقراطي بشقيه المدني والعسكري. ولم تكن البنية الصناعية قوية بما يسمح باستعياب جموع أكبر في داخلها، ولذلك ظل حتى يومنا هذا عمالُ "غزل المحلة" و"كفر الدوار" هم الأكثر قدرة على بلورة مطالب عامة تخص المجتمع من خلال قطاع إنتاجي حقيقي، قادرٍ على تشكيل "طبقة" أو شريحة طبقية مستقلة معنية بجانب من إنتاج الثروة في البلاد.

وبسبب هذا البنيان، ظل فعل المطالبة هو الأمر الأصيل في أغلب القطاعات، وهو يتمثل خصوصاً في "العلاوة". وكان من الصعب تخيّل شيء آخر في ظل تلك العلاقة حيث ما هو عامٌ ويمكن مناقشته لن يخرج خارج بنية المطالبة من الدولة الراعية ومن بداخلها. ولم تستطع أغلب الحركات الاجتماعية التي ظهرت على استحياء من حين لآخر الدخول في علاقة قائمة على مناقشة السياسات والأمور العامة والتأثير في مصائر عملية اتخاذ القرار.

والمميز في عهد عبد الناصر وعلاقته بالمجال العام، هو تلك الحركة "البندوليّة" (كرقاص الساعة) بين إفساح المجال العام في الظاهر، بدخول فاعلين جدد ضمن إدارة السلطة، الذي يمكن بأن يُفهم كتوسعٍ في المجال العام، وكمشاركة في الثروة وفي اتخاذ القرار. إلا أنه وفي الحركة نفسها وفي داخلها كان هناك احتواءٌ واستيعاب وتطويع لهؤلاء، وإعادة موضعة لهم في خانة الحشود المهللة لقرارات الزعيم. فمثلما حقق عبد الناصر الكثير من مطالب الحركة العمالية، وهي شهدت قدراً من الازدهار الاجتماعي في عهده، فهو قضى على أية إمكانية لها للاستقلال خارج عباءة الدولة، وقام بقمعها عدة مرات وسيطر على قادتها. وكذلك جرى استعياب قطاع واسع من الجمهور في الجهاز البيروقراطي والأمني (جيش وداخلية) حيث تضخمت تلك القطاعات بشكل كبير في عهده حتى صارت عبئاً على الدولة، تود التخلص منه اقتصادياً، ولكنها تحتاجه في دعم شرعيتها وبقائها سياسياً واجتماعياً. وبالتالي فإمكانية خلق مجال عام قوي دُكّت دكاً باستحواذ الدولة عليه واستعيابه داخل أروقتها.

السادات، النسخة المختلة

أسفرت هزيمة 1967 عن نتائجَ مهمة تخص موضوعي المجال العام والديمقراطية: اعتراف عبد الناصر بفساد دولة المخابرات وانحرافها عن مسارها. ولكن، ومثلما مثّلت الهزيمة نقداً كبيراً للدولة الناصرية، فهي في الوقت نفسه أتاحت لعبد الناصر فرصة تاريخية لتصفية صراعات الأجنحة (عبد الحكيم عامر مثالاً) وإحكام سيطرته بالكامل على جميع أجهزة الدولة.

كما أن القبضة الأمنية التي كانت تُمسك بزمام الأمور في داخل البلاد لم تُمس. فالجيش ظل الكيانَ المهيمن على الحكم، كما أن كلاً من المخابرات العسكرية والمباحث العامة، الجهتان اللتان كانتا تديران عمليات القمع الداخلي ظلتاعلى حالهما. أما تداعيات الهزيمة فقد طالت المخابرات العامة وبعض قيادات الطيران.

وجاء المشهد الأول ليؤكد بأن شيئاً لم يتغير. فالجماهير خرجت رافضة لتنحي عبد الناصر وطالبته باستكمال دوره في قيادة مصر. وعلى ذلك، فلم تمض بضعة أشهر حتى انفجرت انتفاضة الطلبة في 1968، وكانت أهم مطالبها هي الديمقراطية. وعلى الرغم من توحّش القمع البوليسي على أساس يومي، والعودة للتوسع الشرطي مرة أخرى في مواجهة الناس، وإعادة بناء قوات الأمن المركزي في 1968، إلا أن الدولة لم تنجح في قمع ظهور الحركات اليسارية مرة أخرى، وبداية تجذرها في كل من القطاعين الطلابي والعمالي. أعادت هذه الانتفاضة، بعد الهزيمة العسكرية بسبب فساد الأجهزة الأمنية، الحيوية مرة أخرى للمجال العام. وكان لهذا التشبيك النشط بين الطلبة والعمال أثراً كبيراً في عودة النضال السياسي ضد الاستبداد والسلطوية. ولكن كلمة الحرب كانت هي الأعلى. ونجح عبد الناصر في الخروج من الهزيمة بأقل تضحياتٍ ممكنة، أو تغييرات جذرية في بنية المؤسسات الحاكمة. وأما نجاحه في توحيد أجهزة الدولة خلفه، فلم يضعفها، بل زادقوتها وهيمنتها وشكّلت ما يعرف ب"مراكز القوى".

أسفرت هزيمة 1967 عن نتائجَ مهمة تخص موضوعي المجال العام والديمقراطية: اعتراف عبد الناصر بفساد دولة المخابرات وانحرافها عن مسارها. ولكن، ومثلما مثّلت الهزيمة نقداً كبيراً للدولة الناصرية، فهي في الوقت نفسه أتاحت لعبد الناصر فرصة تاريخية لتصفية صراعات الأجنحة (عبد الحكيم عامر مثالاً) وإحكام سيطرته بالكامل على جميع أجهزة الدولة.

جاء السادات إذاً على إثر هزيمة عسكرية ثقيلة، وشارعٍ منفجر، ومراكز قوى أقوى منه ومتحكمة بصنع القرار. نجح السادات في حسم صراعه مع مراكز القوى، وقام بتقوية الداخلية وجعلها ذراعهُ الأيمن. وفي مواجهة قوى اليسار الصاعدة، والتي كانت تنجح شيئاً فشيئاً في التجذر وسط العمال وفي الجامعات، أطلق السادات العنان للإسلام السياسي وتحديداً للإخوان المسلمين.

وعلى الرغم من أن بدايات عهد السادات مثَّلها مشهد حرق سجل تسجيلات المراقبة والتجسس بمبنى المباحث العامة، وحل الجهاز، أو بمعنى أدق تغيير اسمه من المباحث العامة إلى جهاز مباحث أمن الدولة، فهو قام بالمقابل، وعلى مراحل مختلفة، بتطوير وتدعيم الداخلية المصرية، والاستثمار في قوات الأمن المركزي وأمن الدولة، وذلك لسببين: 1- لمعادلة كفة الجيش وتشكيل قوى موازية له، ولاؤها المباشر لرئيس الجمهورية 2- ولاستمرار القدرة على السيطرة على القوى السياسية والاجتماعية المختلفة وضبطها.

ونجح الساداتُ في استيعاب القوى الاجتماعية التي ورثها من "الاتحاد الاشتراكي" من خلال إعادة إنتاجها في "الحزب الوطني". كذلك نجح في توسيع وإدماج الطبقات التي تمكنت في تكوين ثروات مالية عبر السوق السوداء، والقرب من الأجهزة الأمنية في عهد عبد الناصر. وهي بالأساس طبقاتٌ طفيلية في تكونها وتشكلها، ومن ثمَّ فإن التصاقها بالسلطة كان أمراً محسوماً.

كما أنه وعلى عكس ما هو سائدٌ كفكرة، لم تتقلص الدولة والبيرواقرطية في عهد السادات، بل توسعت وتضخمت مرتين على الأقل بالمقارنة مع عهد عبد الناصر. كذلك ضم السادات القوى المختلفة التي نجحت في أن تنجو من الإصلاح الزراعي والتأميم، أو أن تخبئ ثرواتها، وهي القوى التي سوف تشكّل العماد "الرأسمالي" الجديد لفترة "الانفتاح، الذي سيكون مدخلاً مهماً لإدماج هذه الشرائح، وخلق مزيد من الفئات الطفيلية التي ستزدهر مع التوسع الجديد للسوق وعلاقات التجارة، والاستيراد تحديداً.

شهدت فترة السادات عودة الزخم مرة أخرى للمجال العام، الذي تأسست له منابر ثلاثة، اليسار والوسط واليمين، ولكن دون ترسّخ. بل أن القوى التي سيطرت على المجال العام، واحتكرته لعقود طويلة هي من ستترسخ في هذه الفترة، أي "الحزب الوطني" وشبكاته الزبائنية، و"الداخلية" وسيطرتها على مصر كلها عبر سيطرتها على شبكات الحزب الوطني، وتحكمها بقوى الإسلام السياسي، ضبطها وقمعها أو ترك مساحات اجتماعية وفكرية لها، حسب الحاجة.

على الرغم من الانفتاح السياسي النسبي الذي شهده عصر السادات، إلا أن القوى الاجتماعية التي شكلت عماد نظامه هي قوى معادية للمجال العام بالكلية. فإذا كانت الدولة احتكرت تمثيل كل ما هو عام ومشترك في عهد عبد الناصر، فنظام السادات عمل على تفكيك ما هو عام من الأساس.

نحن أمام ثلاثة أجهزة كبيرة هي الداخلية وتحديداً أمن الدولة، والمباحث الجنائية، الحزب الوطني، وبعض تنويعات الإسلام السياسي.. أجهزة بمفهوم الفيلسوف الإيطالي "جورجيو أغامبين": أي أجهزة تحمل تصوراً معرفياً، ومنغمسة في علاقات قوى، ولها استراتيجيات تعمل على تحقيقها، وتتحكم في اللغة والخطاب، وتحاول التحكم في الواقع من خلال شبكات مختلفة. بجانب هذه القوى التي ستعمل على خلق هيمنة جديدة للنظام، سيكون هناك القمع السياسي واليومي للمواطنين. وقد شهدت حقبة السادات صداماتٍ عدة بين العمال والطلبة والأمن المركزي. أبرزها مظاهرات 1975 والتي تعامل السادات معها بمنتهى العنف، وبالطبع "انتفاضة يناير " 1977 المعروفة ب"انتفاضة الخبز".

وعلى الرغم من الانفتاح السياسي النسبي الذي شهده عصر السادات، إلا أن القوى الاجتماعية التي شكلت عماد نظامه هي قوى معادية للمجال العام بالكلية. فإذا كانت الدولة احتكرت تمثيل كل ما هو عام ومشترك في عهد عبد الناصر، فنظام السادات عمل على تفكيك ما هو عام من الأساس. فموجة الانفتاح وسياساته ستعزّز قيم الفردية، والازدهار الشخصي على حساب المجتمع، وقيم السمسرة وما عرف ب"التهليب". وسيكون الهم الأول لقطاعات كبيرة هو الثراء السريع. وستشكل مجمل هذه القيم والممارسات بناءً أيديولوجياً كاملاً للنظام الجديد، تغلغل في المجتمع وأصبح رؤية للعالم وللذات وللمجتمع المصري.

بجانب هذا عملت قوى الإسلام السياسي على أمرين: محاولة تنميط المجتمع المصري وفرض الصبغة الإسلامية عليه، وتعزيز قيم الخلاص الفردي من منظور ديني. وهي بطبيعتها ممارساتٌ ضد التنوع والتداول الحر للمعلومات والأفكار والسجال والاختلاف. كذلك عملت الداخلية، من خلال جهاز أمن الدولة تحديداً، وتحكمه في قطاع الإعلام والشبكات الزبائنية للحزب الوطني، على تعزيز قيم الفردية والاهتمام بالشأن الخاص وشيطنة القوى اليسارية.

وهكذا انتهى المطاف بدولة يوليو التي أنشأها عبد الناصر،إلى العمل ضد القيم والمكاسب الاجتماعية التي خلقتها هي نفسها.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...