"نريد إعادة فتح المجال العام"، "يجب الاهتمام بتأسيس المجال العام"، "المجال العام هو ضمانةٌ الديمقراطية"... ارتبطت ثورات الربيع العربي، باستثناء الثورات التي انتقلت إلى حروب أهلية وإقليمية مثل سوريا واليمن وليبيا، بنقاشٍ واسع حول المجال العام. وتجلى هذا في احتلال الميادين العامة وفتحها للنقاش والاحتشاد والاحتفال والرقص، وربما لكافة الأنشطة الإنسانية. وحتى الثورات التي انقلبت إلى حروب أهلية، سنجد بداخلها نماذجَ مختلفة لمجموعات متنوعة حاولت وما زالت تحاول التأسيس لمجالٍ عام ديمقراطي وتشاركي.
كانت الرغبة في الاستحواذ على الفضاءات العامة والمجال العام عارمة من قبل الجميع في مصر. فالإسلاميون حاولوا احتلالها بحضورهم الجسدي والرمزي، ولإظهارها كفضاءٍعام إسلاميٍّ صافٍ وأصيل. وهم خاضوا حرباً شديدة لتحقيق هذا الشأن ضد الأقباط، والمسلمين الشيعة، والصوفيين وتجليات طقوسهم (مثل الموالد)، وضد النساء المختلفات معهم في شكل حضور المرأة في الحيز العام وحدوده. كما أنهم اتهموا القوى الثورية الأخرى بالتخريب ومحاولة إسقاط الدولة ونشر الفوضى. وهذه كانت تحتل جزءاً من المجال العام بأشكال مختلفة من الحضور، كالاحتشاد، والتجمع، واللقاءات بالميادين، والاستيلاء الرمزي على الجدران من خلال الجرافيتي. الجماعات الأثنو- سياسية هي الأخرى حاولت الحضور بكثافة في المجال العام، مثل النوبيين والأمازيغ، أو ممثلي المجتمعات المحلية المختلفة في سيناءَ جنوباً وشمالاً.
معركة الاستيلاء على المجال العام
العسكر والأجهزة الأمنية بدورهم، ومنذ اليوم الأول، شنوا حرباً محمومة متفاوتة الوتيرة على المجال العام والفضاءات العامة، سواء بالحضور المادي عبر المنع والاحتلال، أو بكثافة الحضور الرمزي والمعنوي مثل نشر الصور والشعارات الممجدة للجيش وقوات الأمن،والمشيدة بدورهم الوطني الحامي للبلاد. أما الحضور المادي المباشر فتم عبر القواتوالمدرعات لاحتلال الميادين العامة وغلقها أو لمحاصرتها. صارت المعركة على المجال العام مع السلطة كأنها معركةٌ ضد استعمار أو قوة احتلال. ومن هنا يمكن فهم الصراع بين الأمن والجموع على الميادين وعلى المدينة نفسها. إذ كان على أحد الطرفين طردُ الآخر.
كما استعانت السلطة وأجهزة الأمن ورجال الأعمال التابعين لهم(الذين طلب منهم التمويل)، بأذرعتهم الرثة، المتمثلة بالبلطجية والمجموعات مدفوعة الأجر، وذلك للاستحواذ على المجال العام، أو تفخيخه أو إخلائه من الجموع المختلفة.
تجلى أيضاً ذلك الصراع في معارك الدولة بجلالة قدرها على الجرافيتي ومحاولة منعه. وفي المقابل استماتة الثوار على رسمه حتى على جدران مؤسسات الدولة الكبرى مثل وزراة الدفاع أو المنطقة الشمالية بالإسكندرية.
كانت الرغبة في الاستحواذ على المجال العام عارمة من قبل الجميع في مصر. فحاول الإسلاميون احتلاله بحضورهم الجسدي والرمزي، كما حضرت القوى الثورية وكذلك الجماعات الأثنو- سياسية. وبالمقابل شن العسكر والأجهزة الأمنية حملات على المجال العام لمحاصرته وتبديده او السيطرة عليه.
لا يلخّصُ كل ذلك شكل وحضور القوى المختلفة إلى المجال العام والفضاءات العامة. فقد استغل أبناء القبائل والعائلات في الريف والمناطق الصحراوية والساحلية المختلفة، فرصة الثورة، وصعود نجم وسائل الاتصال والتشبيك، للحضور بأشكال جديدة في الفضاءات العامة، وحيازة التأثير داخل العائلة أو القبيلة، أو التأثير في الفضاءات العامة التي تخص حيّزهم الجغرافي والاجتماعي. ويمكن القول بلا مجازفة أنَّ هذا الأمر تحقق في عموم مصر، من الساحل الغربي والشمالي، إلى سيناء، إلى الواحات المختلفة وأبرزها سيوة، إلى النوبة، إلى تجمعات محلية مختلفة في الدلتا والصعيد.
تصورات النخبة الأمنية وخطابها حول حكم مصر
21-12-2017
وعلى جانب آخر، خرج إلى المجال العام الشباب المهمّشُ داخل المدن، وكان هناك إصرار منهم على حضورهم الجسدي، حاملين معهم، وبصخب شديد، الكثير من الرمزيات الشعبية التي تخص مناطقهم.. مثل حضورهم إلى الميادين والتجمعات باستعراض "الموتوسيكلات" التابعة لهم، والرقص الشعبي بأشكاله وأنماطه المختلفة، ولغتهم المحلية التي تخص مناطقهم وحاراتهم، وحتى افتعال الشجار لإثبات الحضور، سواء مع أبناء طبقتهم نفسها من مناطقَ مختلفة، أو مع أشكال أخرى من الجموع التي حضرت في المجال العام.
وامتدَّ الأمر إلى زوايا اجتماعية أصغر،ولكنها هي الأخرى عبّرت عن التطلع إلى – أوالرغبة الكبيرة في - نقاشِ كلِّ ما هو عام أو مشترك، أو حتى إعادة خلق العام من خلال إعادة بعث وإحياء المشترك، مثل مجموعات الواتس آب (الغروبات) لقاطني البنايات، سواء لمناقشة أمور البناية بشكل يومي، أو لتبادل الأخبار والآراء. كذلك الحال مع مجموعات من المدارس المختلفة، أو تجمعات للمدارس الفرانكفونيّة مثلاً، والكثير سواها..
الجميع إذاً حضرَ إلى الفضاء العام، حاملاً أوهاماً وأحلاماً وتطلعاتٍ وهواجسَ. والجميع أيضاً قد اندهش من الجميع. فأبناءُ الوادي كانوا يندهشون من حضور النوبيين، وأبناءُ الطبقة البرجوازية اندهشوا، وتخوّفوا من حضور أبناء المناطق الشعبية، والإسلاميّون، والمحافظون من أبناء الطبقة الوسطى اندهشوا من حضور العلمانيين والشباب ذوي الشعر الكثيف والطويل، والنساء السافرات، والرقص والزمر، والعلمانيّون والكثير من أبناء الطبقات المختلفة، اندهشوا من الحضور الإسلامي،وطغيان رمزيّتهِ وشعاراتهِ ودلائل حضورهِ الجسدي من الزيِّ إلى اللغة واللحية والطقوس. ومثلما سعت قطاعاتٌ مختلفة للحضور إلى - والتأثير في - هذا الشيء المسمّى بالمجال العام، سعت قطاعات اجتماعية مختلفة، والدولة المصرية، إلى إغلاقه بكل قوة ممكنة.
استعانت السلطة وأجهزة الأمن ببعض رجال الأعمال من التابعين لهم الذين طُلب منهم التمويل.وقام كل هؤلاء بتحريك أذرعهم الرثة، المتمثلة بالبلطجية وجماعات مدفوعة الأجر، للاستحواذ على المجال العام، أو تفخيخه أو إخلائه من الجموع المختلفة.
ولكن، لماذا بدت الأمور سهلة، وغير معقدة في الثمانيةِ عشرَ يوماً الشهيرة (من 25 كانون الثاني / يناير إلى 11 شباط/ فبراير 2011 حين أُعلن عن تنحّي حسني مبارك)؟ ولماذا بدا الجميع مُرحِّباً بالجميع، فالصلوات والترانيم بجانب بعضهما البعض، والمنَقبّات بجانب السافرات، وأبناء المناطق الشعبية بجانب البرجوزايين، وبجانب حضور النوبيين والأمازيغَ وبعض الخيم للعديد من المحافظات؟ الإجابة ببساطة تكمن في:
1- الحرب السلمية التي شنّتها الجموع على نظام مبارك، والتوحّد حول الهدف، والخوف من الفضّ، أو من انقضاض الأمن أو البلطجية على المتظاهرين أو المعتصمين.
2- كانت هذه اللحظة الثورية تتويجاً للاحتفاء بوحدة متوهّمَة حول "الشعب"، ولذلك وجب القبول بتنوعه في داخل توحده.
3- لم يكن هناك أيّةُ ضرورة تستوجب التعامل مع الاختلافات والتباينات القائمة بالفعل داخل الميدان. كان مجالاً مفترضاً، متحققاً في بقعة أرض لهدف مشروط، أي أن الصراعات بداخله لم تكن كبيرة، وكانت لا تتطلب أكثر من مهارة بعض الشباب في التفاوض السريع، ونزع فتيل التعارك بالأيدي على الأمور البسيطة، والتذكير بسمو الهدف الذي يستدعي وحدة الجميع. كما أن الصراع على السلطة غاب في داخل الميدان، وغاب أيضاً عن الميدان نفسه. فلم يكن الميدان يصارع من أجل الحصول على السلطة، ولكنه كان يصارع ضدها، ومن أجل تنحّي مبارك وزمرته. بينما لم يكن الصراع الاجتماعي قد تجذّر بعد في تلك الفترة.
الجميع حضر إلي المجال العام، حاملاً أوهاماً وأحلاماً وتطلعاتٍ وهواجس. والجميع أيضاً اندهش من الجميع... ومثلما سعت قطاعات مختلفة للحضور إلى - والتأثير في - االمجال العام، سعت قطاعات اجتماعية مختلفة والدولة المصرية إلى غلقه بكل قوة ممكنة.
على كلٍّ، انتهى المجال العام في مصر. ونجحت السلطة بقيادة العسكر والأجهزة الأمنية في الإجهاز عليه ومحاصرته. والدرس القاسي من الثورة المصرية، هو أن المجال العام ليس محض مجالٍ احتفالي، ولا يرتبط استمراره وقوته وفاعليته في القدرة على الاحتشاد في الفضاء العام فحسب، وأن "الجرافيتي" لا ديمومة له إذا تمت السيطرة على الجدار نفسه. كما أننا تعلمنا أنه مهما تمّ ضخ أموال لصالح المجتمع المدني ومنظماته، فهي وحدها غير قادرة على تأسيس مجال عام تشاركي وديمقراطي مستدام. وأن حرية الإعلام والنقاش والتعبير، ما لم تجد أسساً مجتمعية وطبقية، وبنية سياسية وتشريعية لترتكز عليها، فهي يمكن أن تقتلعها السلطة بسهولة أو تبتلعها. حتى المجال الافتراضي بكل تأثيراته على الواقع من خلال الحملات المختلفة والجدل العام، فهو الآخر قابل للأمننة أو التهميش والمحاصرة والتضييق عليه.
المجال العام ليس محل "تمنّي"، ولا شيء ينتج عن مجرد رغبة سياسية في خلق مجال عام، ولا حتى أنه يتسنّى له الوجود بمجرد إقرار التنوع والاختلاف والاحتفاء بهما. فالمجال العام يتشكل تاريخياً من خلال مؤسسات وطبقات وتأطير سلمي للصراع الاجتماعي والسياسي، وقدرة على إنتاج ما هو عام، والاشتباك حوله بطرق سلمية ومنتجة.
المجال العام: محاولة مختزلة للفهم والتعريف
المجال العام هو مجال افتراضي، ولكنه ذو تجليات مادية واضحة. هو افتراضيٌّ من حيث أنّه مساحة متخيَلة من الجدل والنقاش والتنافس المجتمعي حول القضايا العامة. وهو مادي بمعنى تجلي هذا النقاش عبر جماعاتٍ ومطابعَ ودورِ نشر وإعلام وصحف ومؤسسات مجتمع مدني وحركات اجتماعية وأحزاب سياسية وكنائس ومساجد ومسارح ومقاهٍ واحتشاد وتجمع بالميادين والأماكن العامة.
تونس: جغرافيات الغضب والخوف من المستقبل
07-05-2018
ويعد المجال العام أوسع من المجال السياسي من حيث أنه لا يقتصر على حيّزِ المنافسة على السلطة وطرح برامج للحكم وللسياسات، وهو توسيعٌ لنطاق الديموقراطية التشاركية في مواجهة الديموقراطية التمثيلية التي تقتصر حدودها على البرلمان وعلى الأحزاب السياسية. وهو مفهومٌ حداثي في المقام الأول، حيث يرتكز في تصوره وتجسيده على كلٍّ من تطور الرأسمالية والدولة الحديثة. فمفهوم المجال العام عند "يورغن هابرماس" مثلاً (الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر) قائمٌ على العقلنة والترشيد. حيث يقوم الفاعلون المستقلون ومن يمثلون مصالح خاصة بعيدة عن الدولة، بالتجمع والنقاش بما يخص المجتمع ومصالحه في مواجهة الدولة، ويضطلعون بالمشاركة في الشأن العام حتى لا تُترك الأمور بالكلية في يد الدولة ونخبتها الحاكمة.أي أن يكون من حق قطاعاتٍ أوسع المشاركة في عمليات اتخاذ القرار، وهو كان مساحة خاضعة لسيادة جهاز الدولة والحكام. ويرى هابرماس: "أن المجال العام يتكون ويتشكل من أفراد خاصة" مستقلة يأتي استقلالها من امتلاكها لأملاكٍ خاصة. وتعد نقطة العقلانية والرشادة أهم مرتكزات المجال العام في هذا التصور، حيث يتخلص الأفراد فيه (أو ينبغي عليهم التحرر) من الأشكال اللاعقلانية في عملية الحوار، مثل الأبعاد الدينية والطائفية والعاطفية. وعبْر هذه العقلانية، يمكن للأفراد الخاصة الوصول إلى ما يسميه الفيلسوف بالتوافق (Consensus ، والبعض يستخدم مصطلح "الإجماع")، لأن المحاجّة أو الحوار الرشيد قادرٌ على الوصول بالأطراف المتنازعة إلى التوافق على أمر يتعلق بما هو عام ولا يكون في حيّز التنافس السياسي المباشر.
لماذا بدت الأمور سهلة، غير معقدة في ال18 يوماً الشهيرة (من 25 كانون الثاني / يناير إلى 11 شباط / فبراير 2011، حين أُعلن عن تنحّي حسني مبارك)؟ ولماذا بدا الجميع مُرحِّباً بالجميع، فالصلوات والترانيم بجانب بعضهما البعض، والمنَقبّات بجانب السافرات، وأبناء المناطق الشعبية بجانب البرجوزايين..
انتهى المجال العام في مصر: نجحت السلطة بقيادة العسكر والأجهزة الأمنية في الإجهاز عليه ومحاصرته. والدرس القاسي من الثورة المصرية، هو أن المجال العام ليس محض مجالٍ احتفالي، ولا يرتبط استمراره وقوته وفاعليته في القدرة على الاحتشاد في الفضاء العام فحسب.. وأن "الجرافيتي" لا ديمومة له إذا تمت السيطرة على الجدار نفسه.
تعرض المفهوم لنقد واسع من مدارس مختلفة. وتمحور جزء من نقد الفيلسوفة البلجيكية "شانتال مووف" (Chantal Mouffe) على فكرة إمكانية تحقيق إجماع من خلال العقلنة والترشيد. وتساءلت عما هو خارجَ الإجماع، وجادلت بأنه لا وجود لإجماع بدون تهميش. كما أن نقدها ينطلق من نقد الفكرة الحداثيّة ذاتها عن إمكانية حل المشكلات من خلال العقلانية والعقل كحقيقةٍ مطلقة. وترى "مووف" أن مثل هذا التصور يغفل دور الشغف والرغبة في العلاقات والتطلعات الاجتماعية، كما يغفل عناصر الصراع. وظهرت مدارس أخرى تنقد المفهوم من حيث عدم إمكانية تحققه في ظل هيمنة الرأسمالية على إيقاع الحياة، وجهاز الدولة، وعزل الطبقات الاجتماعية بشكل يحول دون تلاقي أفرادها بشكل جمعيٍّ لمناقشة الشأن العام بما يتجاوز طبقاتهم الاجتماعية، والاندماج في حوار عقلاني يخص عمليات اتخاذ القرار لشرائح واسعة في المجتمع. كما ظهر في عديد من الأدبيات حديثٌ عن "الفضاءات" و"الحقول الاجتماعية" بدلاً من المجال العام، وأن كل حقل لديه تقاليده وأعرافه وآليات النقاش واتخاذ القرار بداخله، ثم يتفاعل كل حقل مع الحقول الأخرى سواء من خلال الصراع أو التفاوض أو التحالف.
هناك فرقٌ بين المجال العام والفضاءات العامة. فالمقصود،ومحل النقاش هنا، هو المجال العام بشكله الواسع على مستوى الدولة ككل أو المدن. أما الفضاء العام فيمكن إحالته على النماذج الأصغر، مثل إدارة شارع أو حارة صغيرة، أو حيز مشترك، تتفاعل فيه قوى اجتماعية مختلفة مع الدولة. كما أنه يمكن للمجال الخاص أن يحوي بداخله فضاءً عاماً ضيقاً، مثل القبيلة والعائلات، أو الفضاءات المشتركة مثل البنايات أو المجتمعات المسيّجة (Compounds). والفضاء العام المقصود هنا هو المشترك العام الذي يجمع أبناء هذا الحيّز الضيق، فيصبح عاماً ويدور فيه النقاش والتفاوض والصراع. ويكون المأمولُ من هذه العمليات هو القدرة على تغيير صناعة القرار أو المشاركة فيه.
**
ما الذي واجه الثورة المصرية، وحالَ دون بناء مجال عام قوي ومستدام وديمقراطي؟ هناك ثلاثةُ مستويات مشكِّلة لأزمة المجال العام في مصر:
1- الطبقة.
2- الأيديولوجيات الوطنية والإسلامية، بما فيهما من جوانبَ قانونية مقيدة للمجال العام، أو رافضة له.
3- توحش وهيمنة الأمننة والإدارة البوليسية للمدينة والفضاءات العامة المختلفة، في ظل كل من رأسمالية الدولة التي تجسدت في الحقبة الناصرية، أو في ظل الهيمنة النيوليبرالية في عهد مبارك.