الأزمة التي يعيش اللبنانيون في ظلّها اليوم قد تكون أخطر ما مرّ عليهم حتى الآن. صحيح أننا عرفنا حرباً أهلية مدمرة استمرت 15 عاماً صاحبتها مآسٍ وخسارات لا حصر لها، وصحيح أننا عرفنا عدوانات إسرائيلية مروِّعة ومتكررة، إلا أن عملية النهب والافتراس هذه تهدد لبنان اليوم بالقضاء على آخر ما تبقى له، أو ما استعاده من توازن هش: تنزل بالشرائح الأفقر إلى الحضيض التام، وتُفقِر الطبقة الوسطى بكل شرائحها، وتهز ما كان يُعتبر ميزة للبلد الذي تفاخر طويلاً بوجود نظام مصرفي عالي المرونة والحرية، سمح بالتأكيد بتوطين كل أنواع الموبقات، ولكنه سمح أيضاً، ومثلاً، بأن يُرسل العاملون في الخارج - وهم أكثر من عدد المقيمين - ادخاراتهم على شكل ودائع بنكية تستخدم أحياناً في تنشيط حركة العقارات، أو في إنشاء مشاريع رديفة لأعمالهم، أو في الاستهلاك المنفلت خلال الإجازات... وكانت بعض التحويلات أيضاً إعاناتٍ شخصية وعائلية، ولولاها لاختنق الكثيرون.
النظام المالي اللبناني: الإصلاح المستحيل
12-11-2018
الأمر الجاري كان ليستحق إعلان حالة النفير القصوى وتشكيل خلية أزمة وطنية، والإدلاءَ بإعلانٍ واضح يشرح ما وقع، والبدء بالبحث عن حلول له... وكل هذا لم يحصل ولن يحصل على يد هؤلاء. بل أن أهل السلطة يتصرفون وكأن الأزمة تتعلق بالمحتجين والمتظاهرين الذين "يشاغبون" عليهم. وأهل السلطة – كلهم – يرْتعون، ويتجادلون بما لم يعد يهم سواهم، ويتخاصمون على توزيع المناصب، ويشترطون فيها، وينصبون لبعضهم البعض الأفخاخَ، ويخططون لمكائدَ تفيدهم وتغلِّبهم، وهو في نهاية المطاف حرتقاتهم فيما بينهم، واستمرار لممارسة تقاسم النفوذ والثروة، التي إنتهت الى الافلاس: افلاس البلد مالياً واقتصادياً بحكم الفساد غير المحدود، وافلاس هذه المنظومة القائمة على المحاصصة الطائفية، ووصولها الى الابتذال الذي نشهده. هم في عالمهم الخاص، وهو "سماء وماء" كما يقال، يعيشون على كوكب آخر، منفصمين تماماً عن الواقع.
ما يفسر ذلك وما يقف وراءه ليس الغيّ ولا الغباء، بل كونهم شركاءَ في عملية النصب التي جرت وما تزال. كانوا يعرفون تماماً ماذا يدور، وكانوا فحسب يتنافسون على تعظيم حصصهم. تمادوا فلم يوقفهم أحد، ولم يعترض طريقهم أحد، لا من بين أهل السلطة ولا من الناس. والدليل السخيف والمضحك، أنه وصل بهم الأمر إلى أن يخطر على بالهم "فرض ضريبة على الواتساب"، كاختراع لحيلة جديدة في النهب.
والمرعب أنهم ما زالوا يرتكبون. فوراءَ المشهد الظاهر، تجري هندساتٌ مالية شيطانية، ليس لتدارك المصيبة، وإنما لمزيد من المغانم: تهريب لأموال الكبار الكبار - وفي الإحصاءات التي باتت تُسرّب، أن المليارديرية الذين كانوا قد أبقوا على بعض أموالهم في المصارف اللبنانية لا يتجاوزون المئة شخص. ولو وسّعنا الدائرة إلى أصحاب الملايين فهم لا يتجاوزون المئتي ألف شخص، هؤلاء "يجامَلون" لقاء رُشَى معتبرة، بتحويل أموالهم سراً إلى الخارج أو بإخراجها نقداً من البنوك بالعملة الصعبة، وهي التدابير الممنوعة على سواهم من المودعين.
.. وحين يقال "كلّن يعني كلّن"، فذلك يشير إلى أن الطرف الذي قد لا يكون مارس النهب بشكل مباشر، استفاد من ترك النهب يسرح ويمرح: ابتزَّ شركائه في الحكم، "سلّفهم" سكوته وتحكم برقابهم، فعادوا لا يزعجونه، كما أنه أفاد بيئته مما يجري فعزز سلطته عليها: لا يحمي حزب الله نفسه بسلاحه وميليشياته، بل هو يحمي هذه الأخيرة بما مارسه من تواطؤ مديد مع حالة الاعوجاج القصوى بكل أبطالها، وبعضُهم شركاؤه وحلفاؤه، وبعضُهم خصومُه السياسيين.. وكله مفيد له ويجيد استخدامه وتوظيفه! وإذ يجري تخصيصه بالتناول هنا، فلأنه يلعب في الدائرة نفسها وإنما لغايات أخرى، مختلفة عن سائر أقرانه، مما يزيد من تعقيد المشهد.
"اللحظة" في لبنان
01-11-2019
واليوم وبعد انقضاء شهرين على انفجار الفضيحة، وانكشاف حجمها المهول واستشعار خطرها القاتل، فإن مفاعيلها تستمر وتتجدد. أولاً بالتعمية عليها بتدابير غامضة واعتباطية ومتقلبة يصدرها البنك المركزي وجمعية المصارف، كالفرمانات الهمايونية، وثانياً ببدء فصل جديد من المهزلة: تشكيلُ الحكومة! أما كيف ولماذا ومن أجل ماذا؟ فلا يهم. تصبح الحكومة غاية بذاتها، والحجة أنه لا بد من وجود سلطة تتخذ القرارات وتخطط وتفاوض على المستويات الإقليمية والدولية. وهذا صحيح بالشكل.. وإنما بالشكل فحسب.
لأنه قبل تكليف أيٍّ كان، وبغض النظر عن أسماء الأشخاص وصفاتهم، فلا بد لأي مسؤول جديد من امتلاك تصوّر عما جرى ويجري. ولا بد له من إعلان التزامه بوجهةٍ صريحة تخصُّ الحلول المباشرة التي ينوي تبنيها وحملها: مصير أملاك الدولة التي يُدْعَى اليوم بكل رعونة إلى بيعها للقطاع الخاص، مصير مدخرات صغار المودعين، وهم يمثلون 92 في المئة من مجمل أصحاب الحسابات في البنوك (حوالي مليونين وسبعمئة الف مواطن) بينما لا يتعدى رأسمالهم معاً في المصارف ما نسبته أكثر قليلاً من 14 في المئة من مجمل الودائع، موقفه من الحل المتداول بوضع لبنان تحت إشراف صندوق النقد الدولي، الذي لا يسلّف إلا باشتراطات على رأسها تقليصٌ هائل للتقديمات الاجتماعية (ضمان صحي وتعليم رسمي الخ) وإلغاء الدعم عن المواد الأساسية كالطحين والبنزين وبعض الدواء، و"ترشيق" الإدارة، أي صرف أعداد كبيرة من الموظفين، وفرض ضرائب جديدة على الناس أو رفع نسبها الخ.. هذا عدا واجبه بأن يعلن نيّته (على الأقل النيّة، وهو إقرار بالعطب الواقع) بالتحقيق بالسرقة الموصوفة التي جرت، وبمحاسبة من قام بها، وإعلان نيّته باسترداد الأموال العامة المنهوبة..
فالمسؤولون الذين ما زالوا قابضين على كراسيهم، صامتون لهذه الجهة، وحين يتكلمون فللإدلاء بأقوال خارج الصدد. وهم نالوا من الشتائم والاحتقار والسخرية والإدانة والفضح ما يجعلهم فاقدين للشرعية، حتى وإنْ لم يستقيلوا.
لبنان: استمرار المهزلة
18-04-2019
وأما الخوض في حكومة جديدة، وتكليف أحدهم بتشكيلها فسيكون إمعاناً في السقوط لو جرى خارج هذا الإطار من إعلان الوجهة المنوي اتباعها. وأما التلاعب بالمشاعر الطائفية، وافتعال توترات وصراعات بين الكتل السكانية، فجريمة مضافة. جُرّبت طوال الشهرين الماضيين بحوادث "شارع ضد شارع" التي شهدنا فصولها، وكانت مفبركة بهدف حرف الانتفاضة الشعبية التي انفجرت في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، أو لاحتوائها على الأقل، وفشلت. وتُجرّب اليوم على مستوى أعلى، بتكليف شخص خرج من قبعة ساحر، تكليفه تشكيل الحكومة في فعل استفزازي، مقصود بلا شك.. ولا يقال حياله وحيال من اخترعوه إلا: الله يستر!