ها هو لبنان ينتفض كما لم يحدث منذ زمن بعيد، وينزل اهله إلى الشوارع غاضبين: لا يكسرون وردة أو شجرة، ولا يحطمون واجهات المحال التجارية غالية الاسعار، ولا المصارف التي تمتص دماءهم عبر استغلال حاجاتهم اليومية او الضرورية للبقاء على قيد الحياة. لعل اللبنانيين من ادنى جنوبهم المتيقظ للعدو الاسرائيلي إلى اقصى شمالهم، ومن اقصى البقاع إلى مختلف انحاء الجبل، يستشعرون اليوم فرحاً غامراً بأنهم - أخيراً - قد استعادوا وحدتهم وأكدوا على حقوقهم في وطنهم الذي بنوه بعرق الجباه.
إنها مشاهد رائعة، بل خالدة، اذ لم ينزل شعب لبنان جميعاً بالرجال والنساء وصبايا الورد وشبابه الواعد والقلق حول مستقبله وأين سيكون: في الولايات المتحدة أم بين رمال مملكة الذهب الاسود وامارات النفط والغاز.. كما نزل طوال الايام القليلة، بنهاراتها ولياليها.
انها خطوة حاسمة نحو الثورة.
مع هذه المشاهد غير المسبوقة في لبنان تطل عليك من أبعادها التاريخية صورة شهيد الامة العربية وبطلها التونسي محمد البوعزيزي، وهو يحرق نفسه احتجاجاً على ظلم نظام بلاده العسكري، قبل أن ينزل شعب تونس إلى ميادينه غاضباً فيحاصر الطاغية بن علي في قصره، حتى إذا وجد منفذاً للخلاص هرب من الباب الخلفي إلى المملكة التي سمتها العائلة الحاكمة باسمها. بعد تونس كانت القاهرة بميادينها الفسيحة حيث احتشدت الملايين مطالبة برحيل حسني مبارك وعائلته وزبانيته من المرتشين.. خصوصاً وان ذلك الرئيس الذي ظل متمسكا بمقعده على الرغم من تجاوزه الثمانين، موفِّراً الفرصة أمام ابنائه كي يجنوا الثروات الحرام من عرق جباه الناس ومن خبز ابنائهم.
وصحيح أن موجة الانتفاضات في القاهرة هدأت أو هُدِّئت الى حين ولكن تأثيرها العميق ظل يتفاعل في صدور الناس، مشرقاً ومغرباً، متحسرين على مصادرة العسكر ثورة الميدان في مصر، وعودة العسكر إلى الحكم بعد خلع الرئيس المنتخب محمد مرسي واعتقاله ثم رميه في السجن حتى مات فيه.. لكن مصر اليوم فوق فوهة بركان، وأبسط الشواهد أن النظام قد أرعبه تجمع المئات في ميدان التحرير، وسط القاهرة، فشنت اجهزته البوليسية حملة اعتقالات واسعة شملت العديد من الكتَّاب والمثقفين والشباب، ممن لم يكونوا في التظاهرة أصلاً.
وفي حين استأنف شعب تونس نضاله الديمقراطي بعد وفاة الرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي، فذهب إلى الانتخابات النيابية بحشوده التي تحتل فيها المرأة دوراً بارزاً، ثم إلى الانتخابات الرئاسية التي تقدم اليها كثيرون لكن المنافسة انحصرت بين مرشحين اثنين وهما: نبيل القروي الذي كان موقوفاً بتهم الفساد وقيس سعيد الاستاذ الذي حقق فوزاً عظيماً.
وقبل أن يكمل شعب تونس انتصاره الديمقراطي، كان شعب السودان الذي "أقام" في الشارع لمدة ثمانية أشهر طويلة تلقى خلالها الرصاص في صدور بعض شبابه فشيع شهداءه وعاد إلى مواقعه في الميادين والساحات رافضا التسليم بحكم العسكر. وفي نهاية المطاف أمكن الوصول إلى تسوية بتقاسم السلطة بين جموع المتظاهرين، بأحزابهم وهيئاتهم جميعاً، وبين العسكر والجبهة التي تضم احزاب المعارضة، وتم اختيار رئيس للحكومة الجديدة من كبار المثقفين، وهوعبد الله حمدوك، كما تم تعيين وزيرة للخارجية لأول مرة في البلاد العربية، وهي أسماء عبد الله، السيدة عالية المؤهلات.
أما شعب الجزائر فهو يمضي الآن شهره السابع في ساحات العاصمة والمدن الجزائرية الأخرى، بعد اجبار الرئيس (المصاب بالشلل) عبد العزيز بو تفليقةعلى الاستقالة.. ولقد احتج الجزائريون على تحديد 12 كانون الاول/ديسمبر موعداً للانتخابات بينما يطالبون بمرحلة انتقالية نحو حكم مدني فعلي.. وها هو العراق يغلي.. وقد اجتاحت تظاهرات الغضب بغداد بميادينها جميعا، والبصرة والناصرية وعدد كبير من المدن والبلدات... وبتصرف احمق، تصدت الشرطة والجيش (وبعض العصابات المسلحة، كما قالت الحكومة) للمتظاهرين، واطلق الرصاص على الجماهير الغاضبة فسقط اكثر من مئة قتيل فضلاً عن آلاف الجرحى.. ولم تتوقف التظاهرات الا احتراما لذكرى الاربعين، حيث يزحف الملايين من العراقيين (مضافا إليهم الايرانيونوأيضاً حجاج من أماكن أخرى) احياء لذكرى استشهاد الامام الحسين ومناصريه وسبي نسائه واطفاله والمجيء بهم إلى يزيد بن معاوية في دمشق ومن ثم الطواف بهم في انحاء كثيرة من أرض الخلافة، ليكونوا عبرة لمن يعتبر.
ثروات امارت الخليج تفوق بما لا يُقاس امكانات "الشعوب" هناك من القبائل قليلة الاعداد، خصوصا اذا ما استبعدنا "الجاليات" العربية الكثيفة باعدادها، و"الخبراء" الاجانب الذين يتزايدون باستمرار.. اما السعودية التي لم يعترف نظام الاسرة الحاكمة فيها بأن في هذه البلاد الغنية بتاريخها أرض الرسول محمد بن عبد الله والقرآن الكريم والصحابة ومن بينهم الخلفاء الراشدون، فقد افادت النصائح (الاميركية) ولي العهد الامير محمد بن سلمان الذي خلع سلفه ابن عمه محمد بن نايف وهو جاث امامه على قدميه، بابتداع "خطة 2030" لتحديث المملكة التي تزيد ثروات حكامها عن ثروات الولايات المتحدة الاميركية.
إن رياح التغيير تهز المنطقة العربية جميعا، بما في ذلك لبنان الذي تحتشد الجماهير في ساحات بيروت وطرابلس وصيدا وصور وحلبا والمنية وزغرتا والقبيات وزحلة وبعلبك وشمسطار وبدنايل وعنجر وكامد اللوز ومختلف البلدات والقرى، مسجلة انتصار الشعب على العصبيات الطائفية والمذهبية...
من حقنا أن نأمل أن يكون هذا الحراك الذي يشمل مختلف انحاء الوطن العربي بشارة بفجر الغد الافضل لهذه الامة العربية التي تعاني من الحرمان والدكتاتوريات وحكام التفريط وخيانة الدم العربي في فلسطين التي يكافح شعبها وحيداً ضد الاحتلال الاسرائيلي المعزز بالدعم الاميركي المفتوح والانحرافات المتوالية التي يرتكبها النظام العربي ضد هذه الامة ومستقبلها الافضل. مع الأمل بأن تكمل الثورة مسيرتها نحو تحقيق أماني الامة جميعاً.