أهل العاصمة عمّان أدرى بأزماتها، وهم طيبون يواصلون الى الآن تقديم النصائح، وطارئ انا على عمّان،رفضت نصائح مجانية حثتني على البحث مبكراً عن شقة أستأجرها لتكون مسكنا لزواج مرتقب. متذاكياً، رفضت استئجار شقق وجدها لي أصدقاء عمّانيون في نيسان/ أبريل 2013: أي جنون وإسراف أن أدفع إيجاراً لشقة لن أسكنها إلا بعد ستة أشهر، لست مجنوناً، وقالت خطيبتي، الطارئة كما أنا على العاصمة، إنها ليست مجنونة.
أزمة الشقق لا وجود لها، حكَمنا، فإعلانات «شقة للإيجار» تبتلع أعمدة الكهرباء وتطرز الجدران الإسمنتية وتصعد معنا جسور المشاة وتنزلها معنا، وأحياناً تجدها على الإشارات الضوئية وشواخص المرور، ولها النصيب الأكبر في الصحف الإعلانية، لا شيء يدعو للقلق أو الاستعجال.
وقلنا، ما معنى أزمة الشقق في وقت تشير الأرقام الصادرة عن دائرة الاحصاءات العامة خلال النصف الأول من العام 2013 أن مساحات البناء المرخصة للأغراض السكنية بلغت 5816 مترا مربعا، وبارتفاع بلغ 6.6 في المئة خلال الفترة نفسها من العام 2012.
ساعة الحقيقة
بدأت رحلة البحث، وشروطنا، شقه مكونة من غرفتين وصالة بمنافعها، قريبة من العمل أو يمر بالقرب منها خط مواصلات عمومي، ليست بعيدة من السوق، وحبذا لو كان لها بلكونة تطل على جبال العاصمة، حيث نجلس لنشرب القهوة مساء ونراقب المارة... ليس كثيراً.
تأكدت أن بطاقتي الثبوتية في محفظتي لأغراض تنظيم عقد الإيجار، وتأكدت خطيبتي أن في حقيبتها جزءاً من ثروتنا المالية لدفع بدل الإيجار. انطلقنا مبتسمين بعد أن تأكدنا أن اعلان «شقة للإيجار» لم يتآكل بفعل عودة المغتربين ووصول السياح الخليجيين وتنامي اعداد اللاجئين السوريين.
«ألو.. لطفاً اتصل بخصوص اعلان شقة للإيجار»، عبارة لازمت لساني خلال شهرين حتى بدأت ارددها بشكل آلي، وفي بعض الحالات نطقتها خلال مكالمات هاتفية أجريتها لغير أغراض البحث عن شقة. مئات الاتصالات انتهت بالفشل، كان يأتي الرد أحياناً للأسف الشقة أجّرت، فأردد خلفه للأسف وتقول خطيبتي للأسف. وفي غالبية الأحيان تكون الشقة مفروشة فأرد: ازعجتك نحن نفتش عن شقة فارغة، وتقول خطيبتي «آه، أحنا بدنا نفرش بيتنا على مزاجنا». وفي بعض الأحيان يكون البيت مكونا من عدد فائض عن حاجتنا من الغرف أو من غرفة واحدة تختصر البيت، وأنهي المكالمة بمجاملات كاذبة، وكأنني أعرف الطرف الآخر على الهاتف منذ زمن، يا لساعة الحقيقة.
خلال الأسبوع الأول من البحث حافظنا على تماسكنا العاطفي، أمشي وإياها يداً بيد ونحلم بصوت مرتفع. بعدها كان يكفي ان نمسك بأيدي بعضنا لخطوة أو خطوتين، وعمّان المتناثرة على سبعة جبال تصبح الخطوات فيها مضاعفة بالتعب صعوداً نزولاً، وحل مكان حديث الأحلام حديث عصبي يبدأ باللوم وينتهي باليأس، يصاحبه مفردات تدل على حقد طبقي.
حقد طبقي زاده بدل الإيجار الذي يبلغ متوسطه في عمّان الشرقية المنحازة للفقراء 3600 دينار سنوياً (5086 دولارا)، وفي الغربية مرتع أغنياء المدينة 7000 آلاف دينار سنوياً (9889 دولارا)، وبدل الايجار للمفروش يكون مضاعفاً. قلنا لمن هذه الشقق في بلد يبلغ الحد الأدنى للأجور فيه 190 ديناراً (268 دولارا)، في بلد يرزح 80 في المئة من مواطنيه تحت خط الفقر المحدد بـ 800 دينار سنوياً (1124 دولارا).
وكلما جلسنا نأخذ قسطاً من الراحة على الأرصفة أو المقاعد العامة حال توفرها، تتوالى التنازلات، البالكونة ليست ضرورية ، لو تزوجنا في استديو كاف، ومن فوائده يوفر علينا في التأثيث والتنظيف وحتى فواتير الكهرباء، ولا مشكلة لو كانت شقة بعيدة عن السوق، فماذا يحتاج زوجان جديدان؟ يكفينا التسوق مرة في الأسبوع، والخبز يحفظ في الثلاجة.
وصدقنا الاحصائيات التي كذبناها سابقاً والتي تشير الى ارتفاع الطلب على الشقق في العاصمة بنسبة 100 في المئة منذ مطلع العام 2013، ارتفاع يبرره عدد السياح الخليجيين الذين قصدوا الأردن خلال النصف الأول من العام 2013 بزيادة 14 في المئة، بينما تكشف احصائيات غير رسمية أن 15 في المئة من اللاجئين السوريين في الاردن يقيمون في العاصمة ويسكنون شققاً وبيوتاً استأجرتها لهم جمعيات خيرية، أو على حسابهم للمقتدرين.
في مذاهب المؤجرين
غالبيتهم يفضلون تأجير شققهم مفروشة، فذلك يدر دخلاً أعلى ويضاعف قيمة بدل الإيجار الذي تحدده المدة، ولا مشكلة لديهم بتأجير شققهم ليوم واحد أو لعام كامل، ويفضلون دفع الايجار سنويا، فهم يمتلكون قدرة هائلة على خدش حياء المستأجر وتعريته مادياً.
وفي مذاهب المؤجرين تفضيلهم للأجانب، إذ لم يتردد مالكو شقق معروضة للإيجار بالإفصاح عن ذلك، ويبررون بأن الاجانب ملتزمون بالدفع، والسياح الخليجيون ايضاً مفضلون فهم يدفعون أكثر، وحديثا يفضلون اللاجئين السوريين الذين يجري استغلالهم وتأجيرهم الشقق بأسعار مرتفعة، فيرد اللاجئون الصاع صاعين وتسكن في الشقة أكثر من عائلة.
وقد يتحول المُؤجر الى محقق ويسأل، ما طبيعة عملك وكم راتبك ؟ خطيبتك بتشتغل وكم راتبها؟ كم عدد أخوتك؟ لديكم اصدقاء كثيرون؟ وآخرون يسهبون في الحديث عن ذكرياتهم في شققهم المعروضة للإيجار بعد أن هجروها الى أخرى حتى اغرورقت عيونهم بالحنين، وآخرون يصورون خرم الإبرة المسكون بالرطوبة قصراُ فارهاً، وأغربهم من ينظر اليك بنظرة اشمئزاز يقول «مش للإيجار».
شهران من البحث تخللتهما ايام راحة بسبب اليأس تارة وتورم الأقدام تارة أخرى، انتهينا بالعثور على شقة تحقق 50 في المئة من طموحاتنا، طرقنا باب مالكها الذي ارشدتنا اليه صديقة. نظر الينا ونحن المنهكين المتعبين وبعد جلسة تحقيق عابرة اصبحنا مستأجرين، واصبحنا محل غيرة من جيش من الباحثين عن شقق للإيجار!