لا أحد ينجو من الأزمة. المشهد الاجتماعي في مصر يدق ناقوس خطر كبير على مستقبل الاجتماع المصري وتداعياته على الاقتصاد، وتداعيات الاقتصاد عليه، وكلاهما لا ينفصلان عن سؤال السياسة.
شهد المجتمع المصري مؤخراً تطورات اجتماعية مثيرة للانتباه تفرض التوقف عندها. فالتغيرات الاقتصادية (رفع الدعم عن الجنيه وعن المواد الاستهلاكية الأساسية، وتعويم الدولار) ألقت بظلال ثقيلة على الحياة اليومية في البلاد وجاءت وطأتها أشد قسوة على الشرائح الأفقر، حتى صار هناك أسواق لفضلات الطعام لتتمكن شرائح كبيرة من السكان من توفير غذائها. إضافة إلى ذلك، فمصر دخلت في دائرة مفرغة من التضخم، ثم رفع سعر الفائدة، ثم تقليل سعر الفائدة لتقليل التضخم والتشجيع على الاستثمار.. وهكذا.
وفي الأشهر الأخيرة، بدأت طبيعة الجرائم تأخذ مناحي مختلفة عن المألوف، وتشير إلى خلل كبير داخل بنية المجتمع وتفاعلاته، وكذلك ارتفعت معدلات الانتحار. ويشير العديد من علماء الاجتماع أنَّ كلاً من الجريمة والانتحار هما مؤشران شديدا الأهمية لفهم التحولات والتغييرات التي تحدث داخل أي اجتماع بشري.
I- مشاهد اجتماعية
• مشهد (1) جرائم مغايرة للمعتاد، وانتحارات
اتخذت حوادث القتل في الآونة الأخيرة أشكالاً شديدة القسوة، مثل قتل زوج لاعتراضه على تحرش أحدهم بزوجته. قُتل الرجل على أحد شواطئ الاسكندرية المزدحمة، ولم يحرك أحد ساكناً، بل قاموا بإلقاء اللوم على القتيل! وفى المنيا ــ التي تقع جنوب القاهرة ــ ألقت ربة أسرة فقيرة ابنيها في بحر يوسف، مات أكبرهما (4 سنوات) وأنقذ الآخر الرضيع (6 أشهر). واتهمت الداخلية أباً من قرية ميت سلسيل بالدقهلية بإلقاء طفليه من أعلى كوبري فارسكور بدمياط، وجاء تفسير الأب لفعلته نقلاً عن الداخلية أنه فعل ذلك حتى يضمن لهما دخول الجنة من فرط حبه لهما، وفي رواية أخرى أنه فعل ذلك بسبب المخدرات، وسوء حالته النفسية. ولكن هذا التفسير لم يقنع أهالي المدينة.. ما دفع لوقوع اشتباكات بين الأهالي والأمن استمرت لمدة يومين متواصلين، وهو ما يشير إلى أنَّ أي حدث قادر على إشعال أحداث عنف أوسع منه بكثير قد تقود إلى صدامات مع أجهزة الدولة.
وبدون الدخول في تفاصيل حوادث عدة، فالملاحظ هو توحش أنماط الجريمة، والقتل لأسباب واهية، أو بدافع السرقة، وقيام غير المحترفين بعمليات قتل.
كما تعددت حالات الانتحار وزادت كثافتها. ففي نهاية آب/ أغسطس انتحر مهندس شاب بإلقاء نفسه من الطابق السادس بمنطقة المريوطية بالجيزة، لتتْبعه زوجته الطبيبة بعدها بلحظات، ثم يكتشف الجميع أن المهندس الشاب كان بلا عمل، ولجأ لبيع الخضار حتى ينفق على زوجته. وقد سجلت محاضر وتحقيقات الشرطة والنيابة العامة 30 حالة انتحار خلال تموز / يوليو الماضي في 15 محافظة، وسجلت محافظة القاهرة خمس حالات، منها ثلاث بالقفز أسفل عجلات مترو الأنفاق.
في الأشهر الأخيرة، بدأت طبيعة الجرائم تأخذ مناحي مختلفة عن المألوف وتشير إلى خلل كبير داخل بنية المجتمع وتفاعلاته، وكذلك ارتفعت معدلات الانتحار. ويشير علماء الاجتماع أنَّ كلاً من الجريمة والانتحار هما مؤشران شديدا الأهمية لفهم التحولات والتغييرات التي تحدث داخل أي إجتماع بشري.
ولا توجد إحصاءات رسمية سنوية بأعداد المنتحرين في مصر، بالنظر إلى أنَّ أهل المنتحرين يرفضون الإعلان عن ذلك لكونه عملاً محرماً دينياً. لذا لا توثَّق أغلب الحالات، وفق تصريحات مسؤولين بوزارة الصحة.
لكن وزارة الصحة نشرت دراسة أجرتها على عينة من طلاب مرحلة الثانوية العامة بلغت 10638 طالباً في العام الحالي، وجدت أنَّ 21.7 في المئة من الطلاب يفكرون بالانتحار. وكان مركز السموم التابع لجامعة القاهرة قد أصدر تقريراً عام 2016 يفيد بأنَّ مصر تشهد نحو 2400 حالة انتحار باستخدام العقاقير السامة سنوياً.
حدوتة "بلد الغلابة" و"دولة الغيلان"
31-12-2018
بينما كشف مركز المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية أنَّ مصر شهدت 4000 حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، خلال الفترة من آذار/ مارس 2016 إلى حزيران/ يونيو 2017. وفي نيسان/ أبريل 2016، أكدت صحيفة نيويورك تايمز أنَّ معدلات الانتحار في مصر بلغت 4200 حالة سنوياً، في ظل انتشار الفقر والبطالة، ووجود نحو 45 في المئة من المصريين تحت خط الفقر. كان أغلب المنتحرين بين الثلاثين والأربعين من عمرهم، وقد تضافر لديهم سوء الوضع الاقتصادي والمعيشي، مع حالة يأس كبير من المستقبل. وللتذكير، فحالات الانتحار التي سبقت ثورة يناير 2011 كانت ناقوس خطر لما هو غضب اجتماعي مكتوم، واتسمت أغلب حالات الانتحار قبيل الثورة بالطابع الاستعراضي لفعل قتل النفس. أي أنَّ الضحية كانت تحاول إيصال رسالة اجتماعية وسياسية عبر إخراج مشهد الانتحار بأقصى صورة تعبيرية ممكنة.
وبالإجمال فيمكن أن نلحظ توسع رقعة العنف الاجتماعي في أغلب محافظات مصر، بعيداً عن الأسباب المعتادة مثل الثأر، أو جرائم التربص، لصالح نوع أكثر عشوائية ويأساً مثل قتل الآباء، والأمهات لأبنائهم، أو القتل لغاية السرقة من قبل مرتكِبين جدد (غير محترفين) وهناك مؤشرات على ازدياد حالة اليأس من المستقبل لدى قطاع الشباب تحديداً، وبالأخص في شرائح الطبقة الوسطى يمكن ربطها بكل من الأزمة الاقتصادية، والقمع السياسي، وغياب أفق أمام أي مشاريع يمكن لهؤلاء الشباب أن يسلكوا فيها. ويبدو أنَّ الاجتماع المصري مرشح لمزيد من الانهيار والتدهور خلال الفترة المقبلة، وهذا قد ينعكس بوقوع صدامات بين الأمن والناس على أسس ليست بالضرورة سياسية.
• مشهد (2): تداعيات اقتصادية
أحرز السيسي تقدماً نسبياً في إعادة هيكلة الميزانية، وضبط العجز التجاري، وتقليص الفارق بين الصادرات والواردات. وربما يعود الفضل في ذلك إلى تعويم الجنيه، وتحرير سعر الصرف الذي دفع قطاعات كبيرة من المستورِدين إلى حالة عجز كاملة مما انعكس على ميزان الصادرات والواردات. ولكنه عاجز إلى الآن عن ضبط التضخم. قد تشير هذه الرؤية إلى بعض التحسنات الاقتصادية، إلا أنه يقابلها مشاهد اجتماعية بائسة.
فهناك انحدار حقيقي في كافة مستويات المعيشة في مصر، وقد انتشرت أسواق فضلات الطعام، وأرجل الدجاج، بسبب انهيار القدرة الشرائية لدى الشرائح الفقيرة. كما صاحب ذلك ركود في الكثير من القطاعات التجارية، وفي الاقتصاد غير الرسمي الذي يمثل 40 في المئة من الاقتصاد المصري.
نجحت الدولة في تحسين وتوفير الكثير من الخدمات وتحديداً الطاقة (كهرباء، غاز، بنزين وسولار) بفضل اتفاقيات عديدة مثل اتفاقية الغاز الأخيرة مع إسرائيل، واكتشاف "حقل زهر"، واتفاقية الكهرباء مع "سيمنز"، وإنشاء عدة محطات جديدة، وتطوير القديمة لإنتاج الكهرباء حتى انتقلت مصر من حالة عجز في توليد الكهرباء إلى فائض كبير تسعى السلطة الآن إلى تصديره للخارج. ولكن في مقابل هذا، تنتشر حالة من التمرد والعصيان الناعم في أغلب محافظات الجمهورية، حيث يرفض الكثيرون دفع فواتير الكهرباء والغاز، بل تتكرر حوادث التعدي بالعنف الجسدي واللفظي على محصّلي الكهرباء.
من يتحمل تكلفة "الإصلاح الاقتصادي" في مصر؟
12-11-2018
وعلى الرغم من هذه النقاط التي تعد لصالحه، فشعبية السيسي في تراجع كبير في مصر، حيث انتقل من أيقونة البطل والمخلِّص إلى رمز للقهر الاجتماعي، أو كما يقال في العديد من الأماكن العامة ووسائل النقل "الراجل إلي مجوعنا وذاللنا". ما زال السيسي قادراً أن يحافظ على مكانته لدى الشرائح الأغنى، ولدى الطبقة الوسطى العليا (التي تنقسم على نفسها الآن) بفضل نجاحاته الأمنية، وانتظار أبناء تلك الفئات للمشاريع الكبرى (مشاريع الطرق، والعاصمة الإدارية الجديدة، وكذلك "مدينة العالمين") لما ستعود به من فرص اقتصادية واستثمارية عليهم.
إلا أنَّ اليأس السياسي والاجتماعي سيكون له مردودٌ واضحٌ على الاقتصاد، مثلما تسبب الاقتصاد في الأساس بخلق حالة اليأس هذه. وهنا يمكن أن ندخل في دائرة من التداعيات المتبادلة بين الاقتصادي والاجتماعي.
فالسيسي إلى الآن عاجز عن ضم قطاعات كبيرة من الشباب المنتمين إلى الطبقات الفقيرة والوسطى الدنيا تحت لوائه.
مشروع السيسي السياسي والاقتصادي غير قائم أصلاً على هدف ضم عدد كبير من الناس، كما أنه لا يفتح المجال لتدوال ليبرالي أو زبائني، مثلما كان الحال مع مبارك، حيث لم يكن الحزب الوطني حزباً واسعاً للجماهير، ولكنه كان قادراً على توسيع دائرة المستفيدين، وخلق شبكات مصالح زبائنية أوسع من الحزب نفسه.
وقد نجحت "مؤتمرات الشباب" التي يقيمها كل عام في خلق شريحة ضيقة جداً مؤيدة له، ولكن لا يمكنها أن تكون ممثلاً لقطاع واسع من الجمهور، كما لا يمكنها أن تكون، كأداة، آلية لدمج جمهور واسع، وضبطه، وضمان ولائه السياسي والاجتماعي. ويعود هذا الفشل إلى عاملين مركزيين: 1- مشروع السيسي السياسي والاقتصادي غير قائم أصلاً على هدف ضم عدد كبير من الناس، كما أنه لا يفتح المجال لتدوال ليبرالي أو زبائني، مثلما كان الحال مع مبارك، حيث لم يكن الحزب الوطني حزباً واسعاً للجماهير، ولكنه كان قادراً على توسيع دائرة المستفيدين، وخلق شبكات مصالح زبائنية أوسع من الحزب نفسه. 2- اعتماد السيسي في مشروعه على الجيش، والبيروقراطية الأمنية. وفي ظل هكذا مشروع للحكم، فحجم الشباب الذين يعانون من التهميش وعدم الادماج في تزايد مستمر، خاصةً أنَّ المشاريع الاقتصادية تقوم على القطاع العقاري وبناء الطرق والتوسع في شركات الطاقة، وهي في أغلبها مشاريع لا تتطلب كثافة تشغيل للعمالة. ولذلك فقد نجحت في خفض مؤشر البطالة درجتين (من 11.98 إلى 9.9 ) في نهاية 2018 طبقاً للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
• مشهد (3): إعادة تشكيل العمران في مصر
مثلت العشوائيات هاجساً أمنياً واجتماعياً كبيراً في مصر منذ منتصف التسعينات الماضية، وطيلة الألفية الجديدة، وتمّ تصويرها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً على أنها تجسيد لكل شيء يجب اقصاؤه من المجتمع المصري المثالي. فهي مصدر للجريمة، ومرتع لها، وهي تكثيف لانهيار الأخلاق وتفشي الرذيلة، وهي تهديد أمني لسلامة السكان، وبقية الطبقات والأحياء. وفي مقابل انتشار العشوائيات، توسعت في مصر المدن المسيجة، والقاهرة الجديدة التي تقع في التجمع الخامس. وعمل الطريق الدائري في القاهرة على فصل هذه المدن المسيّجة عن العشوائيات. وبعد الثورة والانفلات الأمني، حصل مزيد من الاستثمار في هذه المدن المسيجة، كما استغلت العشوائيات فترة الفراغ الأمني وتمددت هي الأخرى عمرانياً. كان هذا هو مشهد العمران قبل وصول السيسي إلى سدة الحكم.
ما يحدث الآن مختلف عما سبق. فالسيسي يسعى إلى إعادة تشكيل العمران في مصر بطريقة تسمح له بتحقيق ثلاثة مكاسب: اقتصادية وأمنية وسياسية.
العاصمة الإدارية الجديدة هي تجسيد لأمرين: الهاجس الأمني من الثورة والتمرد، وخلق سيولة مالية سريعة.
مثّلت العشوائيات هاجساً أمنياً، واجتماعياً كبيراً في مصر منذ منتصف التسعينات الماضية وطيلة الألفية الجديدة. وتمّ تصويرها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وأمنياً على أنها تجسيد لكل شيء يجب اقصاؤه من المجتمع المصري المثالي. فهي مصدر الجريمة ومرتع لها، وهي تكثيف لانهيار الأخلاق وتفشي الرذيلة، وهي تهديد أمني لسلامة السكان وبقية الطبقات والأحياء.
يريد السيسي أن ينقل جميع مؤسسات الدولة لمكان غير قابل للمس، مع تحصين هذه المؤسسات، وتأمينها بشكل غير مسبوق. تقع العاصمة الإدارية الجديدة على بعد 45 كيلومتراً من مركز وسط القاهرة و80 كيلومتراً من السويس. تتفاخر الحكومة فتقول أنها عاصمة بمساحة دولة سنغافورة، وأن مساحتها هي أربعة أضعاف العاصمة الأميركية واشنطن (مساحتها 170 ألف فدان). العاصمة تضم حياً حكومياً مؤلفاً من 18 مبناً وزارياً إضافة إلى مباني مؤسسة الرئاسة والبرلمان ورئاسة الوزراء. كما تضم قطاعاً سكنياً مؤلفاً من 25 حياً، بنحو 101 مليون وحدة سكنية، و40 ألف غرفة فندقية. وهناك أيضاً وزارة الدفاع التي صُممت لتكون على شكل مثمَّن (اوكتاغون) والتي تبلغ مساحتها خمسة أضعاف مبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون). وتفصل الصحراء والقاهرة الجديدة ومبنى أمن الدولة العملاق بمدينة نصر هذا العالم الجديد عن بقية مصر. أما السبب الثاني لبناء العاصمة فهو استغلال الهاجس الأمني والاجتماعي لدى البرجوازية المصرية وكبار رجال الأعمال والمستثمرين، وتحويل هذا الهاجس إلى فائض مالي لدى الدولة. فقطعة الأرض التي كانت صحراء خاوية صارت تساوي الملايين بمجرد أن وُضع لها سور وعنوان "العاصمة الجديدة". وبالفعل تدفقت الاستثمارات بشكل غير مسبوق عليها. ويمضي حتى الآن المشروع في طريقه بنجاح شديد.
عمران الخديوي السيسي
03-09-2014
في مقابل العاصمة الجديدة، يقوم السيسي أيضاً ببناء عاصمة ساحلية عالمية في مدينة العلمين الواقعة بين الاسكندرية ومرسى مطروح، وقام بتحصين الشاطئ الغربي كله من خلال القاعدة العسكرية "محمد نجيب"، ومدّ طريق العلمين وطوره. ولضمان تقوية هذه العواصم الجديدة، يقوم السيسي بتطوير أو خلق الطرق اللازمة لها، وبناء المطارات الحربية والمدنية لوصلها بالعالم الخارجي، ولضمان فصل بقية المدن عنها عسكرياً وأمنياً.. إن لزم الأمر. أما الجانب الاستثماري فهو مضمون، فقد وصل سعر وحدات الفيلات في مدينة العلمين إلى 111 مليون جنيه مصري للوحدة السكنية الواحدة.
ولكن هذا الاقتصاد يظل هشاً حيث يقوم في أساسه على المضاربات المالية، ويرتكز بشكل رئيسي على كل من الاقتصاد الخدمي والعقاري.. الذي تسبب عالمياً في أزمة 2008. إلا أن السيسي يضع عينه على الوفرة المالية والاقتصادية التي ستتحقق في القريب العاجل، كما يطمئن إلى مصادر الطاقة الجديدة مثل حقول الغاز، وتحويل مصر لمحطة عالمية لتسيل الغاز، وكذلك إنتاج الكهرباء. ومع رفع الدعم وتحرير سعر الصرف، يعتبر السيسي أنه قد أمّن نفسه من أي إمكانية للدخول في أزمة مالية أو اقتصادية. ولكن تظل الأزمة الاجتماعية والسياسية هاجسين كبيرين له.. لمعرفته أن كل ما سبق هو شديد الوطأة على عموم السكان.
في مقابل إعادة التشكيل العمراني يعمل السيسي بشكل دؤوب على ما يسمى بالإحلال الطبقي العمراني (Gentrification). فرجال الأعمال وجدوا أخيراً يداً قوية في الدولة المصرية قادرة على البطش بسكان المناطق العشوائية التي يراد إزاحتها واقتلاعها من قلب المدن. وبالفعل نجح السيسي في إزاحة رملة بولاق التي كانت شوكة كبيرة في حلق رجل الأعمال الكبير نجيب ساويرس، كما نجح في إزاحة العديد من العشوائيات من قلب القاهرة إلى حي الاسمارات. إذاً فكل ما هو ليس مرغوباً اجتماعياً وسياسياً وأمنياً سيتم إزاحته إلى خارج المدينة، ومحاصرته بالصحراء والكتل الخرسانية والأسوار.
استنتاجات
هناك مجموعة من الخلاصات يمكن الخروج بها من هذه المشاهد الاجتماعية الثلاث:
1- تحسن ملحوظ في بنية الاقتصاد المصري على مستوى الجداول والموازنات، أي على الورق، مع تضخم الدين الخارجي والداخلي وارتفاع معدلات التضخم،
2- ملامح لتفشي مزيد من العنف الأسري والاجتماعي، وقد تتصاعد هذه الحالة لتعبِّر عن عنف شديد يائس بلا هدف أو وجهة، ذو طابع تدميري فحسب،
3- تزايد احتمالات تحول العنف لصدامات مع الأمن وأجهزة الشرطة بلا طابع سياسي، بل أن يرتكز الصدام على أسباب اجتماعية محضة،
4- المزيد من العنف الشرطي والأمني لإخماد أي قابلية للتمرد،
5- حالة من الغضب السياسي المكتوم، ومزيد من حَنق قطاعات اجتماعية وشبابية على النظام،
6- مزيد من النجاح لصالح السيسي في توفير الطاقة والسيولة المالية وتحسين هياكل الاقتصاد، ولكن مع الافتقار للقدرة على إدماج قطاعات أوسع من السكان في ثمار هذا النجاح،
7- الاستثمار في البنية التحتية لصالح رجال الحكم والأغنياء (العاصمة الإدارية الجديدة، مدينة العلمين، شبكة الطرق الهائلة)، بمقابل تردي حالة النقل العام وتحديداً قطاع السكة الحديد،
8- التخلص من العشوائيات مع خطورة الانتقال إلى فضاءات اجتماعية معزولة ومهمشة خارج المدن.
تُلحظ منذ 2005 في العديد من المناطق داخل القاهرة مؤشرات على وجود تغيّر كبير في شكل الحكم والاجتماع. فالداخلية المصرية كفّت عن التدخل لممارسة الانضباط اليومي والمؤسسي في إدارة المناطق، وتركتها لتفاعلاتها الداخلية ولتفشي الجريمة والبلطجة بداخلها، لصالح محاصرتها أمنياً من الخارج واختراق أنسجتها الاجتماعية من الداخل.
يواجه السيسي غلاء الأسعار والتضخم بمزيد من رفع سعر الفائدة، فيخلق حالة من الركود، ثم يعالج الركود من خلال رفع سعر الفائدة مرة أخرى، وغالباً ما توصف سياساته هذه بالتخبط. بل يرى بعض الاقتصاديين النيوليبراليين أنها بدون عائد حقيقي، وقد فشلت في جذب الاستثمارات الأجنبية. هي إذاً محاولة لمعالجة الأزمة المالية بدون تحقيق أي إنجاز على مستوى الإصلاح الاقتصادي.
II- السيناريوهات المطروحة
• السيناريو الأول: انهيار اجتماعي وانسحاب الدولة
تُلحظ منذ 2005 في العديد من المناطق داخل القاهرة مؤشرات على وجود تغيّر كبير في شكل الحكم والاجتماع. فالداخلية المصرية كفّت عن التدخل لممارسة الانضباط اليومي، أو التدخل المؤسسي في إدارة المناطق، وتركتها لتفاعلاتها الداخلية، ولتفشي الجريمة والبلطجة بداخلها، لصالح محاصرتها أمنياً من الخارج، واختراق أنسجتها الاجتماعية من الداخل. وتُركت هذه المناطق لتسرق الكهرباء وتقوم بتنظيم بعض أفرادها على شكل عصابات صغيرة الحجم. كما ألقيت بالكامل في أحضان السوق والاقتصاد غير الرسمي. وكانت مقايضة عادلة بالنسبة للبعض: لا خدمات من قبل الحكومة والدولة، بمقابل غياب الضرائب والتنظيم المديني والمؤسساتي.
تقوم الدولة الآن بعملية نقل كبيرة جداً من خلال انتقال الحكم ورجال الدولة والبرجوازية ورجال الأعمال إلى العاصمة الإدارية الجديدة. عملية النقل هذه يصاحبها انهيار اجتماعي كبير كانعكاس للتغيرات الاقتصادية، ولغياب مشروع سياسي واقتصادي قادر على دمج عدد كبير من السكان. وبين هذا وذاك يمكن أن تصبح يد الدولة في ضبط هذا التحول ضعيفة داخل المدن الكبرى، وتحديداً القاهرة. ويمكن للأمن أن يكتفي بحصار المناطق.
سيكون لهذا السيناريو عدة تداعيات: 1- توحش الجريمة المنظمة، والعنف الاجتماعي، 2- غياب القدرة على السيطرة، وتحرر (بالمعنى السلبي) عدّة مناطق من قبضة الدولة والقانون وتحولها إلى بؤر خطرة أمنياً (وهو الأمر المتحقق بالفعل في عدة مناطق في مصر)، 3- توحش الصراع الاجتماعي، 4- اختباء الدولة وراء حصونها الجديدة.
وسينعكس هذا على الاقتصاد بالإيجاب والسلب. فالخدمات والطاقة ستكون متوفرة، ولكن سيصعب تحصيلها. وهنا، فإما أن تقبل الدولة بمقايضة جديدة، أو تدخل في صراع عنيف لتحصيل مستحقاتها من المواطنين. وستزدهر المدن العمرانية الجديدة وعلى رأسها العاصمة الإدارية، مالياً واقتصادياً، كما سيكون من السهل على الدولة تأمين كافة الاستثمارات داخل هذه المناطق الجديدة. وسيتوحش الاقتصاد غير الرسمي، وسينفلت السوق أكثر فأكثر بعيداً عن هذه المراكز. وأخيراً، سيكون الأمر أقل حدة على هياكل الاقتصاد بما أن المشروع العام لا يسعى للتعامل مع السكان كقوة منتجة، وبالتالي فهو لا يرى فيهم أي إمكانية ولا يريد إدماجهم في عملية الانتاج والأنماط الجديدة من السوق والاستثمارات.
• السيناريو الثاني: السيطرة الكاملة للدولة، وضمانات اجتماعية
إذا نجحت الدولة المصرية في إعادة هيكلة اقتصادها مع توفر مصادر الطاقة، وبجانب هذا نجحت في القضاء على العشوائيات، وفي مشروع الإحلال الطبقي العمراني، وإقصاء كل ما هو غير مرحب به أمنياً وسياسياً واجتماعياً ومحاصرته بين الصحراء والأسوار، سيتبقى أمامها أمران: توفير السلع الغذائية، وتوفير بعض الضمانات الاجتماعية. وكلاهما يمكنها توفيره، بفضل مصادر الكهرباء والغاز وتصديرهما إلى الخارج. ويمكنها أن تتنازل عن بعض العائدات لصالح ضمان استقرار هذه المناطق اجتماعياً، وجعلها غير قابلة للتمرد. أما المصادر الغذائية، فالجيش المصري بدأ بالفعل في مشاريع استيراد اللحوم والدواجن من بعض الدول الأفريقية.. ويبقى توفير القدرة الشرائية للشرائح الأفقر.. حيث يتكفل السوق غير الرسمي بتوفير بعض فرص العمل. ولكن سيظل أمام السيسي تهديد الشباب غير المدمج في أي عملية انتاجية أو سياسية، والذي يعيش بلا أفق اجتماعي ومهني. وهو يمثل شرائح قابلة للتمرد مثلما حدث في 2011، على الرغم من وجود معدلات نمو اقتصادي لا بأس بها.
هذا السيناريو سيعني: 1- استمرار قبضة الدولة داخل المراكز الجديدة والقديمة، 2- مزيد من الاستقرار الأمني، 3- تطوير المدن القديمة وجعلها قابلة للاستثمار، وانتزاع البؤر الاجتماعية غير المرغوب بها منها.
• السيناريو الثالث: انتفاضة شعبية في مواجهة حكم السيسي
نجح السيسي حتى الآن في قمع كل الأصوات المناهضة له. فعلى مدار خمس سنوات تمكن في سحق الإخوان المسلمين بالكلية، والكثير من اتباع السلفية الجهادية بالمدن والمحافظات، وتبقّى له داعش في سيناء، ومواجهة "الأعمال الإرهابية". ولكنه نجح خصوصاً في سحق الخصوم السياسيين، كما استطاع التنكيل الواسع بما كان يُعرف ب"شباب الثورة"، وتدمير المجتمع المدني المناهض له، بالأخص مؤسسات حقوق الانسان، سواء عبر الاعتقال والتخويف، أو بتشويه صورتهم في أعين الناس، أو عبر سن القوانين التي تجْهز عليهم بالكلية.
كما أسفرت عمليات الاعتقال الواسعة في صفوف الثوار عن خلق حالة من التيه وتشتيت المجهود السياسي لينحصر في أطر الإعاشة، والدفاع القانوني عن المعتقلين. إلا أنه، وبالمقابل، فهو أجهز على إمكانية التغيير السياسي عبر الآليات التمثيلية، فتشكلت قناعة لدى العديد من الشباب، بالأخص في صفوف الطبقة الوسطى، والوسطى الدنيا، أنه لا أمل بالخلاص السياسي من هكذا نظام بدون الدخول مرة أخرى في مواجهة وصدام واسعين مع منظومة السلطة. وتزامن القمع السياسي، وغلْق المجال العام، مع إجراءات اقتصادية شديدة العنف والقسوة، ولكنها بلا خريطة أو رؤية تجعل المجتمع يُقْدم على تحملها طواعية في مقابل جني الثمار لاحقاً.
فالرجل يواجه غلاء الأسعار، والتضخم بمزيد من رفع سعر الفائدة وهو ما يخلق حالة من الركود، ثم يعالج الركود من خلال رفع سعر الفائدة مرة أخرى...
ويصف العديد من المراقبين الاقتصاديين والمحللين هذه السياسات الاقتصادية بالتخبط. وحتى أن بعض الاقتصاديين من ذوي النزعة النيوليبرالية يرون فيها اتساماً بالقسوة على الشرائح الأدنى في الدخل، وتدمير الطبقة الوسطى بدون عائد حقيقي. كما فشل في جذب الاستثمارات الأجنبية لإنعاش الاقتصاد المصري. وهكذا فكل هذه الاجراءات ليست سوى محاولة لمعالجة الأزمة المالية بدون تحقيق أي إنجاز جاد على مستوى الاصلاح الاقتصادي.
بدأ السيسي حكمه بشعبية جارفة، وانتهى به المطاف في هذه الأيام إلى وجود حالة كبيرة من السخط الجماهيري عليه. وعلى الرغم من نجاحه في إخماد أي محاولة للتمرد أو لمواجهة نظامه، يظل هناك ثلاثة عناصر بالغة الخطورة قد ينتج عن تفاعلها معاً احتمال وقوع انتفاضة شعبية، أو موجة ثورية جديدة: 1- وجود قطاع كبير من أبناء الطبقة الوسطى، والوسطى الدنيا، قسم كبير منهم شارك في ثورة 2011 وبعدها انضمت إليهم أجيال جديدة، ما زال عندها قدرة على إرباك النظام إذا ما استطاعت تنظيم صفوفها وخلق رؤية سياسية وأفق للصراع الاجتماعي، 2- وجود حالة من السخط الشعبي نتيجة الإجراءات الاقتصادية العنيفة، 3- تراجع وتآكل الإيديولوجيا الحاكمة، المتمثلة في "الوطنية المصرية" بنسختها العسكرية، وتململ قطاعات جماهيرية كبيرة من خطاب محاربة الإرهاب، ومن الترويع من مصير سوريا والعراق، 4- عدم وجود تنظيم سياسي تابع للسيسي قادر على احتواء قطاعات واسعة من الشباب.