من قتل يارا؟

إليكم العناصر الفعلية لحبكة قصة مقتل يارا، الصبية الفلسطينية من إحدى قرى الجليل.. بغض النظر عن الملابسات المخصوصة لجريمة قتل "عادية" تطال النساء.
2018-11-29

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك

يارا ورفيقاتها.. وهم 11 إمرأة ضحية القتل في فلسطين المحتلة 1948 خلال 2018 الذي لم يصل بعد الى ختامه. وهن جزء من 48 ضحية سقطوا هذا العام، أغلبهم في ثارات تستمر لسنين، تتجدد ولا تنتهي، فتظهر وكأنها فقدت أصلها العشائري (حيث للثأر أصول وأعراف وله أيضاً حلول متوافَق عليها)، أو خلال مشاجرات، قد تكون آنية وتافهة الأسباب. ويقال في تحليل ذلك إن "قصص القتل والعنف تتواصل من جميع الاتجاهات (...). قصص تنخر في عظام مجتمعٍ صغير عزلته النكبة عن امتداده الوطني والقومي. مليون وثلاثمئة ألف إنسان يعيشون على رقعة أرضٍ صغيرة، يُهمَّشون فيها لصالح مجتمع استعماري يرفضهم. يصبح العنف المتفشّي تقويضاً للذات وهدماً للبنى الاجتماعية والملامح، وإنذاراً بولادة مسخ اجتماعي". بل يقال إنه "حين يفقد الفرد سيطرته، والمجتمع سيادته، وتتحول تجربته في مواجهة منظومة استعمارية شديدة العنف إلى إغتراب كامل، لا يبقى لهذا الفرد الفاقد لكرامته الإنسانية إلا الاستعاضة عن ذلك بهوس السيطرة والتعصب".. حسناً! يضاف الى ذلك كله أنه في فلسطين المحتلة 1948، فإن "نسبة البطالة تصل إلى 40 في المئة بين الرجال و80 في المئة بين النساء. 65 في المئة من الأطفال الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر بينما 50 في المئة من مجمل الفلسطينيين يعيشون تحته".

يارا صبية في السادسة عشر من عمرها من قرية الجش في الجليل. إختفت ليومين ثم وُجدت جثتها مطلع هذا الاسبوع ملقاة في حاوية زبالة. شُيِّعت وسط غضب الناس وحزن أهلها، وخرجت استنكاراً للجريمة تظاهرات عدة قادتها شابات فلسطينيات (مع حضور لافت للشبان)، لعل أكبرها كان في حيفا.

ولكن، لم يقل أحد لماذا قُتلت يارا، وهل القاتل مغتصِب مثلاً أو متحرش أو منتقم من موقف ما، أم هي "جريمة لا- شرف" أخرى.. فالخوض في مثل هذه الامور يُضرّ بـ"سمعة" يارا وعائلتها. بل قال خالها وهو يعتصر ألماً، وبصدق مؤثر، أن "يارا كانت مثالاً للتهذيب والخصال الحميدة والالتزام" ولم تكن "حياتها مهددة".. بما يَفترض ضمناً أن لقتل النساء (الأخريات!) في المجال الموحى به تفسيراً معقولاً، بل وحتى ما يشبه المبرر.. أو التبرير.

يبقى أن نسبة العنف هنا، في فلسطين الداخل، أعلى مما هي عليه في الضفة الغربية مثلاً بثلاثة أضعاف. وتُحمّل المسؤولية للشرطة الاسرائيلية التي لا تأبه للجرائم حين تكون الضحية عربية، ولا تتدخل في جرائم قتل النساء باعتبار ذلك جزء من الخصائص الثقافية للمجتمع الفلسطيني.. ولعلها الخاصية الوحيدة التي تُبدي حيالها مثل هذا "الاحترام" الاستشراقي لبدائيين متخلفين.

وأما الوظيفة الفعلية فهي أنها هندسة لإحكام السيطرة على هذا المجتمع المستنزف بقوة عنف الاحتلال المديد وبالانكار والإلغاء متعدد الأشكال. وقد أجرت مؤخراً "الدائرة المركزية للإحصاء" (مؤسسة رسمية اسرائيلية) دراسة مسحية (1) استندت الى استطلاع مركب جُمِعت معطياته في 2015 (الدخل، البطالة، التعليم، الصحة...)، وظهر منه أن أحوال المدن والقرى والاحياء العربية في فلسطين المحتلة 1948 تتدهور عاماً بعد عام، وعلى الاخص منها القدس، وأنها تحتل المراتب الدنيا في السلم المعد للقياس. ولعل بعض البلدات اليهودية التي يسكنها "الحريديم" (طائفة شديدة التدين ولا تندرج ضمن دوائر السلطة في إسرائيل) تشاركها هذا المصير.

البؤس الاقتصادي والاجتماعي وحدهما لا يستقيمان من غير معطى الاحتلال. فلا بد أن يُنتبه مثلاً الى أن "اسرائيل تُبقي على 320 ألف قطعة سلاح بحوزة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة 1948، لمعرفتها بأنها لن تستخدم سوى لارتكاب جرائم القتل داخل المجتمع الفلسطيني". وبهذا المعنى، يأتي إهمال الشرطة وتساهل المحاكم (2) ليس كمعطى مهم بذاته، يمكن لاصلاحه او تحسين أدائه أن يحل المشكلة، بل في كونه يندرج في هذه الهندسة المتعلقة بادارة المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل (20 في المئة من سكانها) وإحكام السيطرة عليه – تماما كما تُهندَس إدارة القدس أو الضفة الغربية أو قطاع غزة، يما يخدم في كل منها الغاية نفسها، ويتلاءم في الوقت نفسه مع شروطها.

... تلك كلها عناصر حبكة قصة مقتل يارا!

_____________________
1- الدراسة منشورة في موقع "عرب 48"، وهي بعنوان: "البلدات العربية في أسفل السلم الاجتماعي الاقتصادي".
2- تقرير حنين زعبي وهي نائبة عربية في الكنيست الاسرائيلي وقيادية في "التجمع الوطني الديمقراطي".

مقالات من فلسطين

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...