لم يحرك "العالم" شيئا قدر ما فعلت جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي. العالم، بما هو المستوى السياسي -الدبلوماسي، وبما هو الاعلام بمختلف أدواته، وبما هو كذلك ما يقال له "الرأي العام"، بل وبما هو المتابعة العامة للناس عموماً. وقد يفسِّر ما يخص اهتمام الاعلام والناس أن الجريمة مثيرة بالفعل، وفيها كل عناصر الحبكة الهوليوودية. ولكن ما طغى وما يمتلك دلالات سياسية وقيمية يقع في مكان آخر: في الاعتداء على الأعراف المعتمَدة، أو في الخروج عنها! أن يتجرأ ولي العهد السعودي على ارسال ثلة من مساعديه الى بلد آخر، بشكل شبه علني أولاً، هو سلوك يتسم بالاستهتار بالآخرين والاطمئنان الى حاجتهم إليه، اتكالاً على القاعدة (البدائية، ولكن يبدو انها شغّالة فعلاً) القائلة بأن "أطعم الفم تستحي العين"، وأن يَكمن بكل بساطة لضحيته داخل سفارة بلاده، وليس أن تتم فبركة حادث على طريق عام مثلاً.. اخراج يبدو أن الكسل الشديد يقف وراءه!
.. يعني أن MBS لا يملك من الحداثة سوى لقبه هذا! وانه لم يراعِ المظاهر و"الاتيكيت"، وتصرف بفجاجة لا تليق بمحاولاته كسب ود العالم على أساس أنه "مختلف". ولعله ظن أن تلك هي "المودرنية"، وأن العالم كله أصبح أخيراً على شاكلة ترامب، الصريح والمباشِر، وطالما أن للبزنس الكلمة الاولى والاخيرة، فلا حاجة لروايات مغلِّفة ومموِّهة.
هذا، وليس "حقوق الانسان" هو فعلياً ما أثار ضده موجة الاستنكار التي شهدناها.. بدلالة الإعتداء المديد للرجل على بلد بأكمله – اليمن - كممارسة "مقبولة" لانتمائها الى قوانين الحرب!
الغدر!
08-10-2018
لكن يظهر أن "العالم" ذاك يفضل أجداده وأعمامه الذين حكموا قبله وكانوا منضبطين بشبكة من القيم والعلاقات (المغايرة لتلك الغربية ولكن القابلة للقراءة)، من دون أن يمس ذلك الانضباط تلبية مصالح الدول العظمى أياً كانت: شراء السلاح، والسعودية (حوالي 30 مليون مواطن) رابع مشترٍ عالمي له، وسخاء الاستثمارات التي تستعين بالغربيين سواء في مشاريع داخل البلاد (غالبا ما تكون سخيفة وغير ضرورية)، أو وخصوصاً التي توظِّف الاموال السعودية في البنوك وفي شركات كبرى داخل الغرب. كما كان السخاء كمسلك للافراد متوفراً، سواء في شراء العقارات الثمينة أو السيارات والمجوهرات والثياب والعطور، والسعودية على سبيل المثال هي المستورد العالمي الاول لهذه الاخيرة! هذا بينما هناك "40 في المئة من السعوديين يعيشون عند خط الفقر، 37 في المئة منهم يعيشون في العشوائيات، و70 في المئة من السعوديين لا يملكون سكناً خاصاً بهم، ونسبة البطالة بينهم أكثر من 40 في المئة".
كان قتل خاشقجي مناسبة لتفلت الالسن ولو قليلاً، فظهر ان المؤسسات العامة السعودية كما الافراد يستثمرون بقوة في الولايات المتحدة (خصوصاً) كما في دول غربية اخرى. وظهرت في الصحف لوائح لتلك الاستثمارات (جاهزة للاطلاع، لمن لا يريد اجراء بحث - متاح - على الانترنت، او حتى متابعة مواقع – صديقة للسعودية - ك"بلومبرغ" أو "فيننشال تايمز" مثلاً!)، جعلت من المئة مليار دولار التي تخص عقداً لتوريد السلاح الى الرياض، والتي أصر الرئيس الامريكي على رغبته بعدم خسارتها، تفصيلاً من بين سواه. هناك 90 ملياراً اخرى وظفت في السنوات الثلاث الاخيرة في مجال ال SoftBank الذي يختص بالاستثمار في التكنولوجيات الاستهلاكية الجديدة (الهواتف الخ)، ومبالغ أخرى في قطاعات ك"اوبر" مثلا أو "ليفت" إلخ.. وهناك قطاع أدوات الاعلام (ومنها شركات "سناب" و"ماجيك ليب"!)، كما هناك الاستثمار في تطوير السلاح وغزو الفضاء (شركة "فيرجن غالاكتيك" مثلاً!)، أو في تكنولوجيات المراقبة والتجسس.. وكلها تشير الى حساسية كبيرة تجاه القطاعات الجديدة من "البزنس". كما اعلنت السعودية انها "تنوي بحلول 2030" (في إشارة لتلك الخطة التي وضعها مكتب الدراسات "ماكينزي" لتلميع صورة الأمير مع وصوله لسدة الحكم!) نقل الاستثمار العام (أبرزه "صندوق الاستثمارات العامة") مما هو مئة مليار حالياً الى ترلياري دولار.. Peanuts حين نتذكر أن يختاً ملكياً أو لوحة كلاسيكية في مزاد دولي أو قصراً في الريف الفرنسي تُشترى بلمح البصر من الامير الشاب المودرن، وتفوق قيمتها كل تلك الخطط! لكن السعار الغربي على المال تذكّر فجأة أنه متاح – كان وما زال - من دون أعباء السلوك الصاخب لهذا الامير الشاب، الذي راح يضاعف الوعود، فعمق الشعور بأن هناك وراء الحملة عليه في قضية الصحافي القتيل، ما هو ابتزاز مالي وليس فحسب ضيق به وباساليبه.
اليمن على ما يبدو سيرد ضمن هذه المعادلة، فرب ضارة نافعة! قال وزير الخارجية الامريكي انه "حان الوقت لتوقف حرب اليمن". يا سلام؟ ولماذا الآن وليس من أسابيع أو أشهر أو سنوات، وقبل أن يُقتل في الغارات أكثر من عشرة آلاف يمني نصفهم من الاطفال، وأن يهدد الجوع والكوليرا تسعة ملايين من أصل 27 مليوناً هم كل سكان هذا البلد المنكوب، وقبل أن تختلط الامور على حليفة السعودية، الامارات، فتظن نفسها أمبرطورية عظمى تتحكم بمصير اليمن وتنتهك ما تشاء فيه، وتصل طموحاتها الى الضفة الاخرى من البحر الاحمر، بل وتظن انها يمكن ان "تنافس الصين في افريقيا"؟
.. وقالت وزيرة الجيوش الفرنسية أن السلاح الجديد الذي باعته بلادها للسعودية لم يُستخدم في الحرب على اليمن (؟) بل لعل ما استُخدم هو القديم منه (في فارق يبدو أن له مغزى قيمي كبير بنظر الوزيرة في "بلد حقوق الانسان"، كما يحلو للفرنسيين أن يصفوا بلادهم).. كما صدرت تصريحات لا تقل تفاهة من مسئولين آخرين هنا وهناك.
خلاصة، وبعد وزير الخارجية، فها وزير الدفاع الامريكي (وكلاهما من الصقور) يدعو الى مؤتمر دولي للتسوية في اليمن سينعقد بعد شهر. والأمريكان يريدونه ان ينجح، بخلاف المؤتمرات السابقة وآخرها قبل شهر. تباً لتقارير منظمات الامم المتحدة المختلفة ومعها منظمات حقوق الانسان الدولية التي لم تتوقف طيلة الثلاث سنوات ونيف عن نشر وقائع الجريمة المرتكبة في هذا البلد. يكفي حادث مروع كمقتل الصحافي خاشقجي (وهو يكتب في واشنطن بوست، لا تنسوا ذلك) لتغيير المزاج.